مقالات

وقائع ما جرى في إسطنبول ليلة أمس

جمال سلطان

كاتب وصحفي مصري
عرض مقالات الكاتب

صخب كثير ، وأخبار متناقضة ، وتوترات وشماتات ، شكّلت مشهدًا استثنائيا ليلة أمس ، بعد الكشف عن طلب من السلطات التركية لقنوات المعارضة المصرية التي تبث من إسطنبول بوقف برامجها السياسية وتخفيف حدة انتقادها لرموز الدولة المصرية ، ومع الأسف تورطت فضائيات وصحف ومواقع كبرى في نشر “هراء” وأخبار مغلوطة ، اختلطت فيها الحقائق بالأمنيات .

عقب الانقلاب العسكري في مصر ، يوليو 2013 ، استقبلت تركيا أفواجًا من المعارضين المصريين ، الذين هربوا من الملاحقات الأمنية ، ومقصلة الأحكام القضائية التي كانت تصل إلى حكم بإعدام 500 شخص في جلسة واحدة ، وحسب التقديرات الرسمية التركية ، فإن عدد المصريين المقيمين في تركيا إقامة دائمة حاليا يصل إلى 40 ألف شخص ، غالبيتهم العظمى من المعارضين ، وقلة منهم من رجال الأعمال أو المواطنين العاديين .
احتضان تركيا للمعارضة المصرية وغالبيتها من الإخوان وحلفائهم ، وكان بينهم يساريون وناصريون ، يعود إلى موقف مبدأي لتركيا ، وهو إدانة الانقلابات العسكرية في أي مكان ، نظرا لما عانته تركيا في تاريخها الحديث من أربعة انقلابات ، أغلبها كان دمويا وأدى إلى مقتل عشرات الآلاف من المواطنين الأتراك وإعدام المئات وسجن مئات الآلاف وتشريد آخرين خارج البلاد وحل الأحزاب السياسية وإدخال البلاد في نفق مظلم ينتهي عادة بكارثة اقتصادية واجتماعية ، إضافة إلى أن الجذور “الإسلامية” للرئيس التركي اردوغان ، تجعله ـ شخصيا ـ يتعاطف بشدة مع الإسلاميين المصريين الذين كانوا في السلطة بشكل شرعي وفق إرادة شعبية وممارسة ديمقراطية شفافة وانتزعت منهم بقوة السلاح ، وهذا ما رسخ خصومة شخصية له مع السيسي .

على مدى سبع سنوات ، تعاملت تركيا بنبل شديد مع المعارضة المصرية ، وصل إلى حد منح بطاقات إقامة تجدد تلقائيًا كل عام تحت وصف “إقامة سياحية” ، ولا يوجد دولة تمنح “إقامة سياحية” لعدة سنوات ، ولكنه مخرج قانوني لمنع إبعاد المعارضين ، حتى هؤلاء الذين فقدوا جوازات سفرهم أو انتهت صلاحيتها ، بل إن السلطات التركية منحت عددًا غير قليل من رموز المعارضة المصرية الجنسية التركية ، ومن بينهم أغلب الإعلاميين المشاهير هنا ، وبالتالي أصبحوا مواطنين أتراكًا ، لهم حصانة المواطن التركي ، ويمكنهم انتقاد أردوغان نفسه ، دون أن يقترب منهم أحد ، وليس انتقاد السيسي فقط ، وما لا يعرفه كثير من المصريين أن هناك مصريين ولبنانيين وسوريين ، حصلوا على الجنسية التركية ، ثم انضموا إلى أحزاب المعارضة التركية ضد اردوغان ، وبعضهم ينشر نقدًا جارحًا وعنيفًا بشكل يومي لأردوغان شخصيا كما لحزبه .

عدة عوامل أدت في النهاية إلى تخفيف الموقف التركي المعادي تجاه النظام المصري ، ثم الرغبة في تطبيع العلاقات معه ، منها أداء المعارضة المصرية نفسها ، الذي كان يفتقر إلى الحصافة السياسية ، وانتشر فيه الصراع والتمزق بين فصائله ، وعجزه عن تشكيل أي كيان له ثقل سياسي ، والتراشق بالاتهامات بين قياداته ، حتى في صف الجماعة الواحدة ، كما حدث في انقسام الإخوان ، وانتشر هذا الانقسام الحاد أيضا بين الإعلاميين ، ووصلت التراشقات إلى مستوى السباب والوقوع في الأعراض ، وهو أمر مزعج جدا ، وبالقطع كان تحت ملاحظة الأجهزة التركية ، كما أن هناك أخطاء ساذجة حدثت ، لم تكن تليق ، مثل حديث قيادة إسلامية مصرية كبيرة عن أن حزب السعادة التركي ـ أشد خصوم اردوغان ـ هو الأقرب للإخوان من أي حزب آخر ، وكان هذا تصريحًا فجًا ومذهلاً !

دون شك ، كانت وفاة الدكتور محمد مرسي نقطة تحول ، آذنت بطي صفحة سياسية من تاريخ مصر ، وبدء صفحة جديدة ، وأصبحت الدولة التركية أمام واقع جديد في مصر لا بد من التعامل معه على أرضية الواقع ، وليس على أرضية ما يجب أن يكون ، وترسخ لدى التقديرات التركية أن كتلة المعارضة المصرية في تركيا غير مؤهلة لإحداث أي توازن أو تغيير على الأرض في المدى المنظور .
ترافق مع ذلك بروز تطورات “استراتيجية” خطيرة في المنطقة ، فهناك عمليات التفاف واسعة على تركيا ، وبشكل مركز جدا ، في حلف جديد تشكل ، من فرنسا واليونان وقبرص ومصر والسعودية والامارات ، كما أن الصدام التركي مع ايران أصبح متعددا ، ومؤهلا للانفجار في أي لحظة في سوريا والعراق والخليج واليمن ، وأدركت تركيا أنها بحاجة إلى إعادة بناء “الجدار السني” في المنطقة ، وبدون أدنى شك ، فإن قواعد هذا الجدار هو : تركيا ومصر وباكستان .

مصر أيضًا أدركت أن تجاهل دولة إقليمية كبرى ، ذات قدرات اقتصادية وعسكرية بحجم تركيا ، هو أمر غير ممكن على المدى الطويل ، خاصة وأن التحالف المصري الخليجي ـ السعودي الإماراتي ـ بدأ يتقلص كثيرًا في السنوات الأخيرة ، والدعم الخليجي لنظام السيسي تجفف إلى حد كبير ، وتعارض المصالح الاستراتيجية بدأ يتبلور بوضوح في أكثر من ملف ، بعضه مصيري لمصر مثل سد النهضة ، كما أن التحديات التاريخية التي تواجه مصر في ليبيا والقرن الأفريقي ، تملك تركيا قدرا كبيرا من مفاتيحها ، وما لم تتوافق مع تركيا ستخسر كثيرا على المستوى الاستراتيجي .

قرار خفض سقف إعلام المعارضة المصرية في تركيا ، يحمل قيمة رمزية أكثر منها عملية ، لأن الأمر يتعلق ببرنامجين أو ثلاثة فقط ، وليس بقنوات ، كما أن تأثير مواقع التواصل الاجتماعي ، وبعض أصحاب تلك البرامج يملك متابعات بالملايين فيها ، هي أخطر من تأثير الفضائيات أحيانًا ، أو لا تقل عنها ، وأغلب هؤلاء ، إن لم يكن كلهم ، يحملون الجنسية التركية حاليا ، ويمكنهم التحرك الإعلامي والسياسي ـ بحماية القانون ـ حتى لو ضد اردوغان نفسه ، فضلاً عن السيسي .
أيضًا ، لا شك أن أخطاء الأداء الإعلامي للمعارضة ـ وقد اعترف بعضهم بها ـ لم يكن متصورًا استمرار غض الطرف عنها ، لأن بعض ما كان يقال لا يمكن تمريره وفق أي قواعد إعلامية ، ولا حتى مواقع التواصل كانت تسمح بنشره .

بخصوص وضع المعارضين المصريين في تركيا ، فهو لن يتأثر بأي تطورات ، مهما علا سقفها ، وهذا من أدبيات وأخلاقيات السياسة التركية حتى أيام حكم العسكر فيها ، قبل اردوغان وحزبه ، لا تسلم معارضًا لجأ إليها ، إضافة إلى التزام تركيا بقواعد الاتحاد الأوربي بعدم تسليم أي معارض سياسي لدولة يتم فيها تطبيق حكم الإعدام ، ولذلك مصر أساسا لم تطلب ـ ولا تفكر ـ في هذا الطلب من تركيا .

في المحصلة ، فإنه من دون أدنى شك ، المصالحة بين “الدولة” التركية و”الدولة” المصرية ، تطور إيجابي للغاية ، نظرًا للمخاطر التي تحيق بالبلدين والمنطقة بكاملها حاليًا ، وأن تحدث مبادرات “محدودة” لتلطيف الأجواء ، وإبداء حسن النوايا ، هو أمر مفهوم ، ولم يكن من المتصور أن تضحي الدولة التركية لأجل غير محدود بمصالح شعبها ومصالحها الاستراتيجية الكبرى مراعاة لبعض الإعلاميين الأجانب الذين لا تتوقف مشاجراتهم فيما بينهم على أراضيها .
وفي تقديري ، أن العلاقات المصرية التركية ستشهد تطورات على مستوى التحالفات الاستراتيجية ، لكن “سقف” العلاقات السياسية ليس مرتفعا ، لأن الإدانات والإهانات التي وجهها اردوغان إلى السيسي وصلت إلى حدّ القطيعة على المستوى الشخصي ، والعامل الشخصي ، خاصة في مصر ، جوهري في هذه الأمور ، وأردوغان ليس في وارد التراجع عنه .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى