مقالات

سورية بعد 10 سنوات من الحلم والأمل والمعاناة

برهان غليون

عرض مقالات الكاتب

سورية اليوم بعد عشر سنوات من الثورة اجتماع مدني محطم جردتها الحرب التي فرضت عليها، الداخلية والخارجية، من كل بنياتها ومؤسساتها التي تجعل من المجتمعات مجتمعات سياسية حية، وتنظم علاقاتها الداخلية على أسس قانونية وأعراف وتقاليد مقبولة وراسخة في الوعي، وتنشيء لها هوية وذاتية جمعية تنبع من المعاني والتصورات والقيم والمعايير المشتركة التي تنتجها الثقافة الوطنية، وتوحد الافراد في رابطة داخلية وتمكنهم من التواصل والتفاهم والتآلف من أجل التعاون على انتاج شروط حياتهم المادية والرمزية؛ وهذا ما يمكنهم من الارتقاء بوجودهم الجماعي إلى مستوى المدنية أو الوجود القائم على أسس ومبادئ وتطلعات وغايات أخلاقية، وذلك بعكس الوجود الطبيعي القائم على مبدأ الصراع الوحشي من أجل البقاء الذي يعني حكم القوة اي قوة العنف كناظم وحيد للعلاقات “الاجتماعية”.  

أصبحت سورية اليوم خربة أو خرائب انمحت فيها كل علامات المدنية والحضارة، وهي تحتاج لتقوم من جديد دولة وأمة ومجتمعًا حيًا ومتمدنًا إلى إعادة كتابة تاريخها الاجتماعي وبناء مؤسساتها الجديدة من الصفر، إذا لم تشأ ان تبقى فريسة للقوى الاقليمية والدولية التي احتلتها ماديا ولن تتأخر حتى تحتل فكر ومخيلة أبنائها وتغير هويتهم واعتقاداتهم وتوجهاتهم وانتماءاتهم المشتركة والمتباينة أيضًا.

كان من المنتظر أن تنقل الثورة المجتمع الذي شب عن طوق الطغيان ولم يعد يحتمل التعامل معه كقاصر مدني ابدي الى حكم سياسي يحترم إنسانيته ويعكس الحد الادنى من إرادة أفراده ومشاركتهم في القرار الذي يصنع مصيرهم، وذلك على منوال ماحصل من ثورات سلمية ديمقراطية في امريكا اللاتينية والاتحاد السوفييتي السابق وأوروبا الشرقية وجزء من آسيا وأفريقيا، منذ الثمانينيات من القرن الماضي، وكما حصل في تونس العربية ذاتها في العقد الثاني من هذا القرن، في سياق ثورات الربيع العربي. لكن الحرب الدموية التي ووجهت بها الثورة السلمية في بلادنا، والتي تحولت الى حرب ابادة جماعية، قلبت الطاولة على الشعب والدولة معا، وحطمتهما معا. هكذا يجد السوريون أنفسهم اليوم في هوة سحيقة يتخبطون بأنقاض دولتهم ومؤسساتهم السابقة ولا يكادون يتعرفون على أنفسهم، ومما يفاقم من وقع هذه الكارثة وآثارها سقوط البلاد بطلب من الطبقة الحاكمة ذاتها بين مخالب قوى اقليمية ودولية مفترسة، ليس لها اي مصلحة في ان تستعيد الضحية أنفاسها وتبعث من موتها.  

وهذه هي رسالة الناجين من المذبحة ودورهم في الحاضر والمستقبل: أن يرتقوا بوعيهم وتفكيرهم وممارستهم الى مستوى يسمح لهم بتجاوز الصدمة الكارثية واعادة التفكير بلم شمل الشعب والمجتمع وتحرير البلاد من السيطرة الاجنبية المتعددة الاطراف. 

وبالرغم من أن المهمة تبدو عسيرة اليوم إلا أن الأيام سوف تثبت أنها أقرب منالاً مما يتصوره الكثيرون.

  • أولاً لأن العالم يتغير، وهو مليء بالفرص والمفاجآت، وليس مغلقًا على التحولات الايجابية الحميدة.
  • ثانيًا لأن المنطقة بأكملها تغلي من شدة المعاناة والألم نتيجة الأزمة الشاملة التي تعيشها مجتمعاتها التي أجهضت مسيرتها نحو السلام والأمن والكرامة والحرية والحد الأدنى من الحياة الطبيعية.
  • ثالثًا لأن القوى المتحكمة بالإرادة السورية واللبنانية والعراقية سوف تظل متناقضة المصالح والغايات.
  • رابعًا لأن استمرار الوضع القائم لن يقود إلى إعادة بناء أي نظام من اي نوع وإنما تعميم الفوضى وتوسيع دائرة انتشارها. وخامسًا لأن يقظة السوريين وإدراكهم بأنه لاخيار لهم للخروج من الكارثة وتجنب الموت جوعًا وقهرًا سوى الاعتماد على أنفسهم. 

فلم تعد الكرامة والحرية والقيم الديمقراطية والمدنية التي كانت تنادي بها المظاهرات السلمية تعني اليوم، كما كانت في السابق، مجرد مطالبة بالانتقال من حكم همجي لا شرعي ولا قانوني إلى حكم مدني يضمن حقوق الأفراد وحرياتهم فحسب، وإنما أصبحت شرط بقاء الدولة نفسها مستقلة وحرة وضامنة لأمن وسلامة سكانها وازدهار أحوالهم، أي وطنًا لشعب حر وسيد، كما ينص عليه دستورها منذ نشأتها، وكما تشير الى ذلك مواثيق الامم المتحدة والأعراف الدولية. 

أما الجهود التي تبذلها الاطراف الاقليمية والدولية للابقاء على النظم المنهارة فليس لها سوى هدف واحد هو تكريس الوضع القائم الذي يخدم مصالحها. وبمقدار ما يعني ذلك الاستمرار في تفكيك البلاد وتحييد للدولة وتمديد أجل الحرب، المتعددة المواقع والجبهات، فلن يكتب لها اي مستقبل لأنه لن تعني إلا إدامة حالة الخراب والدمار المعنوي والأخلاقي والسياسي فوق الدمار المادي الاقتصادي ومن وراء ذلك شرعنة الجريمة. 

لا يزال في سورية شعب كبير في حلمه وطموحاته وإرادته، لا يقبل ترك وطنه فريسة لأصحاب المصالح الدنيئة، في الداخل والخارج، ولا التخلي عن حقوق ملايين السوريين المشردين واللاجئين والجائعين في كل المناطق السورية؛ ولديه من الأرث الحضاري والثقافي والأخلاقي ما يكفي للنهوض من جديد وانتزاع المبادرة ووقف الانزلاق نحو الهمجية.

كل ما يحتاجه هو أن يسقط ما تبقى من أوهامه حول احتمال تدخلات اجنبية لانقاذه، وأن يصمم على اخذ مقدراته بيديه والتعاون على نزع الألغام التي وضعت في طريقه وداخل صفوفه والسير بإرادة قوية نحو  تطبيق حقه في تقرير مصيره بوسائله الذاتية. فلا يحك جلدك مثل ظفرك، ولا يضيع حق وراءه مطالب. 

باختصار، مستقبل السوريين أصبح أمامهم وفي انتظارهم؛ وكل ما كانوا يخشونه ويقيد إرادتهم عاشوه بأرواحهم وعذاباتهم واصبح ورائهم، وينبغي أن يكون لسان حال السوريين قول المتنبي:

إذا اعتاد الفتى خوض المنايا فأهون ما يمرّ به الوحول.  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى