ثورة الشام… في عَشريّتك تنحني الجباه

د. أحمد موفق زيدان

كاتب وإعلامي سوري
عرض مقالات الكاتب

ثورة الشام… في عَشريّتك تنحني الجباه

عقدٌ في جبين الدهر.. صحيح أن نزيف الدماء والتشريد والتعذيب والقهر يتواصل، لكن الأصح أن ينبوع الكبرياء والعزة والإباء والإصرار تتصاعد وتيرة تدفقه بشكل مطرد، مصراً على انتزاع الحقوق من أشداق وحوش ضارية محلية وإقليمية ودولية، ويتواصل معه الإصرار والعناد السوري من أجل رسم حاضر ومستقبل منشقٍ عن ماضٍ عبودي خيّم على البلاد لعقود ماضية، استأثرت بحكمه سلالة أثبتت في كل يوم من حكمها أن الشعب عدوها، وأن الأرض لغيرها، فاجتلبت كل احتلال ومليشيا طائفية أملاً في سحق عدوها الأول: الشعب، الذي خططت لعداوته منذ اللحظات الأولى لحكمها يوم زرعت المستوطنات العسكرية الطائفية حول الكتل التي يُتوقع منها التمرد والانتفاض، لتُلقيها لهيباً وناراً و(نابالم) وبراميل متفجرة وكيماوياً.. ولو كان بحوزتها سواه لما ترددت في رميه.
عقد في جبين الدهر اعترفت خلاله مؤسسات دولية وأهلية بحجم الخذلان العالمي للشام وأهلها، فمع كل يوم تكشف وتنزع الشام ورقة توت عن جسد عالم مصرٍّ على تمكين عصابة طائفية مجرمة من رقاب الشام، كشفت الشام وحشية العالم المصر على إبقاء هذه العصابة ربما بأكثر مما تصر العصابة ذاتها على الحكم، يوم ابتلعت كل ما تعاهدت عليه ورسمته لنفسها من خطوط حمراء، بمنع العصابة من استخدام السلاح الكيماوي، ويوم أصدر مجلس الأمن الدولي مهدداً باستخدام القوة إن استعملت العصابة للبراميل المتفجرة تحدّت الأخيرة القانون العالمي واستخدمته، ولاذ العالم بالصمت المطبق. واليوم يتواصل التشريد والتعذيب والقهر، ومعه تقوم بتصدير منتوجها الوحيد مع عصابات طائفية مجاورة لها وهو منتوج الحشيش والمخدرات لكل العالم من عربه وعجمه، ولا أحد يتكلم أو يدين أو يستنكر، بل الكل يطالب بأن تكون جزءاً من الحل وهي التي كانت المصيبة كلها على الشام وغيرها.
العالم الذي أصر على حرمان السوريين من حقهم الطبيعي منذ اليوم الأول لإسقاط الخلافة العثمانية حين انقلب الحليف الغربي على الثورة العربية الكبرى، وجرّدها من حقها الأولي في تقرير مصير ولو لرقعة جغرافية صغيرة على مستوى سوريا، وهو الذي لولاها لما استطاع أن يسقط الخلافة، ولكن مع هذا رفض الحلف الأنجلو ساكسوني ما توصلت إليه لجنة كنغ ـ كراين المشكّلة يومها من حليفه الأميركي، في رغبة الشعب السوري بالحرية بعد استفتاء محايد أجرته عام 1919 وقد وثقت ذلك كله أخيراً الكاتبة الأميركية المبدعة اليزابيت تومبسون في كتابها (كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب).
لم تجرِ مياه كثيرة على الرغم من مرور قرن كامل على ما جرى، فلا تزال العقلية الاستعمارية تعشعش وتصر على سلْب الشعوب حقها في الاستقلال والحرية، بالأمس أرادها المحتل لنفسه، أما اليوم فلعملائه الذين زرعهم من خلال جيش المشرق الذي خلّفه بعد رحيله والمشكل من مليشيات أقلوية طائفية تشكل جيش الأسد اليوم.
صحيح أن المعاناة ضخمة ومرعبة، وأن خسائر السوريين غير مسبوقة، ولكن الأصح أن العودة إلى عبودية العصابة غدت مستحيلةً، ولا أصدق على ذلك من إصرار مدن ضخمة مثل معرة النعمان وخان شيخون وسراقب وقبلها درعا وريف دمشق وحمص والجزيرة وغيرها من المدن والبلدات التي صوّتت بأقدامها يوم تخلى أهلها عن كل ما يملكون وآثروا الإقامة في خيام بالية لكن ملؤها العزة والكرامة والإباء على البقاء في بيوت ملؤها الذل والعبودية للعصابة الطائفية والاحتلال.
العالم يتعرّى يوماً بعد يوم، حتى غدا كشجرة خريفية لم يعد لها ما يسترها، ولكن مع هذا يصر هذا العالم المتواطئ بمقامراته على أمل الربح الكاذب، ويوماً إثر يوم يثبت له الشعب السوري أن مصير مقامراته إلى إفلاس سياسي وأخلاقي ومعنوي وتاريخي، ومع هذا يكابر العالم في اللهاث خلف سراب يحسبه الظمآن ماءً، أما حال الشعب السوري فهو قول الله تبارك وتعالى: “…. فتربصوا إنا معكم متربصون”.