مقالات

الثورة السورية في عيدها العاشر 4

أ. د. عبد المجيد الحميدي الويس

سياسي وأكاديمي سوري
عرض مقالات الكاتب

        إن ثورة أهل الشام عرت العالم الذي يدعي الحرية والمدنية والحضارية والتقدمية والإنسانية، وأظهرت نفاقه وكذبه وتلونه وزيفه، وقسمت العالم إلى فسطاطين: فسطاط الثورة والحرية والحق، وفسطاط الباطل والظلم والضلال.

        الثورة السورية كشفت أخطر وأكبر حلف استراتيجي تقوده أنظمة الاستبداد العربية، وتجيش الصهيونية العالمية، وتجند المجوسية الشعوبية الفارسية، وتستعدي قوى الاستعمار العالمية، وتستأجر كل قواها الشريرة الغاشمة، لإبادة الشعوب العربية، وطمس نور الإسلام، والقضاء على كل ما هو عربي ومسلم، وعلى العروبة كفكرة وأصل، وعلى الإسلام كدين للعبادة، ومنهج للحياة.

      إن الثورات العظيمة لا تقف عند المسميات أو الأشخاص أو المكان أو الزمان.. ولا يهمها انتقال شخص ما من طرف إلى طرف، أو من جهة إلى أخرى..

       إن الشرفاء والأحرار والثوار يعرفون بعضهم بعضا، وعلى هذا يلتقون، والثورة هي نسبهم وصلة الرحم والقرابة بينهم.. وهذه وربي أنبل وأصدق وأشرف وأصح قرابة.

       الثورات العظيمة تستمر بروح الشعوب ودمائها وتضحياتها مجتمعة.. وبها تنتصر.

        الثورة كالشجرة أوراقها متجددة، تتساقط منها الأوراق الصفراء المريضة، وتبقى الخضراء اللامعة.

      الثورة السورية هي من أعمق ما قامت به جماعة بشرية على امتداد العالم، توقفها مستحيل، لأنها – ببساطة – نضجت بفعل الزمن، ولا أحد يستطيع إيقاف الزمن.

       الثورة ليست طريقا محفوفا بالورود، ولا مكاتب فخمة، أو فنادق راقية، وسيارات فارهة، وملابس أنيقة، وكلمات منمقة، ولا ندوات تقام في قاعات فارهة مكيفة، ولا مهرجانات وهتافات وخطب رنانة، وقصائد طنانة.. وليست مؤتمرات تعقد  في عواصم الغرب الجميلة، بين مجموعة من تجار السياسة والنخاسة والنجاسة..  

       إنها صرخة ثائر يقبض على بندقيته، ويده على الزناد، وهي تقاوم المدفع والدبابة والطيارة وتهزمها.. وتكبيرة شهيد وهو يرمي آخر طلقة من بندقيته، وآخر كلمة يقولها وهو يودع الدنيا.. وأنة جريح أصيب في ساحة المعركة وهو يهتف للنصر، وينشد للحرية، وهي صرخة مغتصبة أبية، تفارق الحياة وهي تقاوم وحشاً كاسراً أراد بها ذلا وعارا وانكسارا.. وتهزمه مفضلة الموت على العار..      

       وهي بكاء طفل رضيع يبحث عن شربة حليب في ثدي أمه الخاوي كأمعائها، وقد تركت كل شيء خلفها وخرجت تهتف للثورة، وتنادي بالثوار، وتلوح للمقاتلين أن أقدموا ونحن من ورائكم.. وهي عزيمة شيخ يتمالك نفسه، ويستجمع قواه ويمسك بعمود الخيمة، يصارع الريح معها، ويمنعها من السقوط،

      الثورة صبر على المكاره وتضحية بكل غال وثمين وفهم عميق للهدف، وقدرة على قراءة الحدث، واستنباط آثاره، والثورة محبة وإخلاص وأخلاق راقية..

        إنها ليست مجرد محاولة يائسة، يقوم بها مجموعة من الناس، لتغيير واقع فاسد، وحاكم مستبد، فإن انتصرت نجحت، وإن أجهضت خمدت وانتهت، وليست تلك الانتفاضة والهبة التي تجهز على طاغية، وتستبدله بطاغية آخر، بثوب وشكل جديد..

        إن هزيمة الطاغية وإن كانت هدفاً للثورة، فهي ليست ختاماً لها… إنها خطوة في مسار الثورة الطويل… ولا بد لمسار الثورة أن يستمر… استهدافاً لأركان وقواعد الاستبداد التي أشادها الطواغيت في غفلة من الشعوب… ولا بد من هد أركانها، وقلع جذورها، وجرفها هي ومن بناها ومن شيدها ومن زرعها ومن يدافع عنها ويحميها، وإن طال المسار، وكثرت التضحيات، وغلا الثمن…

       ليس أمام الثورة إلا الانتصار الكامل الناجز المؤزر، فإن خمدت انتفاضة هنا، أو انتصر طاغية هناك… أو هدأت باستبدال طاغية بطاغية جديد… فما تلك الانتفاضة إلا البداية، وانطلاقاً لمسار ثوري مديد ، ينبئ بانتفاضة أخرى لا بد قادمة… وربما بانتفاضات وانتفاضات…

          إنها حركة التاريخ، وحركة التاريخ سيرورة زمنية متواصلة، وليست مراحل زمنية منفصلة، والزمن لا يتوقف، والأيام لا تعود إلى الخلف، وعقارب الساعة لا ترجع إلى الوراء.. وليست مجرد لحظات عابرة في تاريخ الأمة، وليست أياما، أو أسابيع، أو أشهراً، أو سنوات، إنها مسيرة أجيال حتى تحقيق الهدف، وليس بالضرورة أن يحقق أهدافها الجيل الذي فجرها، ولا الجيل الثاني، إنما يتوقف هذا النصر على نجاح الثورة في تهيئة مجتمعها على كل الأصعدة للإيمان بالثورة وجعلها قدر الشعب ومهمته الحيوية، حتى تصبح ضمير كل الناس، وغايتهم في الحياة…

         فالمسألة مسألة زمن… وحركة الربيع العربي بدأت، وعجلته دارت، ومياهه تدفقت، وأشجاره نمت، وهي مزهرة ومثمرة لا محالة، ربيعا وثمرا يانعا، وظلا وارفا، وعلما نافعا، وعملا متقبلا، وبناء محكما، وولادة جديدة لأمة جديدة، عرفت طريق خلاصها، وحسمت أمرها، واتخذت قرارها، وعقدت عزيمتها، وتوكلت على خالقها، وسلكت دربها، فإما الشهادة في سبيل الله، وإما رفع راية الحق والعدل والكرامة والأمن والأمان والإيمان على ربوع دمشق العظيمة..

        والمسار العربي لابد أن يطول… المسألة مسألة أمة… ولقضايا الأمم حسابات خاصة للزمن…لا تقاس بعمر الأفراد… أو بعمر جيل من أجيال الأمة… إنها حركة التاريخ… ولا بد أن يأخذ التاريخ مساره..

        الثورة فكر وعقيدة، ومبدأ ومنهج، وطريقة وأسلوب حياة، لا يستطيعه إلا من ذاق طعم الحرية، وعرف قيمة الكرامة الإنسانية.. إنها طعم وذوق ولون وشكل خاص لا يعرفه إلا الثوار، ونموذج مقدس، لا يقبل التحريف والتزييف والتعديل والتبديل..

        إنها بناء من جماجم الشهداء، وصرح مجبول بدماء القتلى، وصوت ممزوج بصراخ المعذبين وأنين الجرحى، وعويل الثكالى، وثأر أمة ممزوج بحقد شعب، لا تنطفي ناره حتى يصل إلى عدوه المجرم القاتل، فيشفي غله، ويطفئ ناره، ويداوي جراحه، ويأخذ حقه المهدور الضائع المسروق المنهوب المغتصب.

         فصبراً آل ياسر صبرا… وطوبى للصابرين… والخزي والعار…. للمترددين… والمرتدين والخونة والمندسين والمأجورين والعملاء والمنافقين والمستسلمين.. فعلى أرض الشام سوف تعاد كتابة التاريخ من جديد، لأمة جديدة، تطهرت من نجاسة قرن كامل، وتخلصت من أقذر زمرة عرفتها البشرية، لتبدأ صفحة جديدة مشرقة، طاهرة نقية، تنشر العدل والحب والسلام في ربوع المعمورة كلها…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى