مقالات

يوم… في الذاكرة السورية

عبود العثمان

شاعر وكاتب سوري
عرض مقالات الكاتب

هو يوم “الثامن من آذار” ،وله وجهان: وجه مشرق، وآخر كالح معتم، المشرق جاء في العام 1920، والكالح جاء في العام 1963،وسنتحدث بإيجاز عن كل منهما:
في العام 1920 ولدت أول حكومة وطنية، وتأسست اول دولة في سوريا بعد ان وضعت الحرب العالمية الاولى اوزارها ، وبعد انسحاب الجيوش العثمانية من بلاد الشام ،ودخول الجيش العربي دمشق، بقيادة الأمير “فيصل بن الحسين”
للتأسيس للمملكة العربية الكبرى في المشرق العربي، والتي تضم كلاً من : الحجاز وسوريا ولبنان وشرق الأردن وفلسطين والعراق، عملاً بالتعهدات التي قطعتها الحكومة البريطانية ل”الشريف حسين” أمير الحجاز،مكافأة له لوقوفه معهم في حربهم على السلطنة العثمانية، والتي سرعان ما تنكرت لهذه الوعود -أي بريطانيا- وخذلت الشريف الذي كان يطمح للوصول إلى هذا الملك العظيم، وقد تكشفت الأمور جلية بعد أن تسربت مخططات اتفاقية”سايكس -بيكو” والتي بمقتضاها يتم تقاسم الإرث العثماني ما بين البريطانيين والفرنسيين والإيطاليين، وتعززت هذه المخططات باتفاقية”سيفر”ومؤتمر الصلح في باريس، وقد تم مكاشفة الأمير” فيصل” بعدها بعدم جدوى السعي وراء المملكة العربية الكبرى، والإكتفاء بملكية على سوربا فقط، وان تكون مملكته تحت الإنتداب الفرنسي لفترة من الزمن، بذريعة عدم توفر أسس قيام المملكة دون إشراف غربي، وتحت هذا الضغط العسكري الفرنسي والبريطاني، وبالوعود الكاذبة،وبأن هذا الإنتداب هو فقط للإشراف والمساعدة لفترة قصيرة لحين ترسيخ اتفاقية “سيفر” التي تحدد خرائط دول المنطقةبعد زوال الدولة العثمانية، وافق فيصل مرغماً على هذه الصيغة ،لكنه سرعان ما عاد ورفض صيغة الإنتداب بعد ما توضحت معالم اتفاقية”سايكس -بيكو”.

ولكي يضع “فيصل”المجتمع الدولي امام التزاماته الدولية ومن خلال ما تقره منظمة “عصبة الأمم” ومبادئ “ويلسون” التي تدعو إلى حق الشعوب في تقرير مصيرها، دعا فيصل أعضاء “المؤتمر السوري الأول”، والذين تم انتخابهم من قبل الشعب السوري في العام 2019 وبشكل حر وديموقراطي، عبر انتخابات عمت جميع المناطق السورية، ليؤسس لأول برلمان تكون له صلاحية تشريعية واسعة، وقد حثّ “فيصل” هذا البرلمان على ضرورة الإسراع في إنجاز دستور للبلاد يحدد شكل نظام الحكم، وقد تم انجاز هذا الدستور خلال مدة وجيزة من قبل لجنة خبراء تم انتخابها من بين أعضاء المؤتمر، مشهود لهم بالكفاءة والإلمام بالقانون، ولهم إطلاع على دساتير عدد من البلدان، وتم بعدها الإعلان عن قيام “المملكة العربية السورية” في الثامن من آذار عام 1920 وتمت مبايعة فيصل ملكاً على البلاد بإجماع أعضاء المؤتمر السوري العام.

لم يرق هذا التصرف للبريطانيين الذين كانوا على اتفاق مع الفرنسيين، والذين حذروا فيصل من خطورة الإعلان عن قيام المملكة بعيداً عن صيغة الإنتداب، وبعد أن تنصّلوا من تعهداتهم له، انفردت فرنسا في تحديد مصير سوريا ولبنان، فجاءت الأساطيل الفرنسية محملة بالجنود، واجتاحوا لبنان ،وأعلنوا بأنهم سيحتلون سوريا بعد توجيه إنذار لحكومتها “إنذار غورو” الذي كان بمثابة رسالة تهديد لفيصل
ب ضرورة الإستسلام والإنصياع للاوامر الفرنسية وبالقبول الكامل بالإنتداب بكل ما يعنيه.
وقع فيصل تحت ضغط الفرنسيين وضغط أعضاء المؤتمر السوري العام الذين دعوا -وبما يشبه الإجماع- إلى رفض الشروط الفرنسية جملة وتفصيلاً،وقد كان للبطل “يوسف العظمة”والذي كان حينها وزيراً للدفاع موقفاً وطنياً شجاعاً من خلال دعوته للتصدي للجيش الفرنسي بالرغم من معرفته المسبقة بأن المعركة مع الفرنسيين غير متكافئة القوى، فخرج إلى “ميسلون” بجيش قليل العدد معظمه من المتطوعين -2000 مجاهد-ليصد الغزاة قبل أن يصلوا إلى دمشق، لكن الغلبة في هذه المعركة كانت للفرنسيين، بفضل قوتهم العسكرية ودباباتهم ومدافعهم، وانتهت باستشهاد البطل “يوسف العظمة” وجميع من خرجوا معه، ليدخل الفرنسيون سوريا على جثث أبنائها، وليبقوا محتلين لأرضها لمدة 25 عاماً، وقد تم ترحيل “فيصل” من سوريا ليعود بعدها ويصبح ملكاً على العراق.
من شواهد الوجه المشرق للثامن من آذار في العام 1920 هو الدستور الذي حكم البلاد -لمدة لا تتجاوز 22 شهراً- ومن مواده نقتبس :
المادة 1- إن حكومة المملكة السوري العربية حكومة ملكية مدنية نيابية….
المادة 12- لا يجوز التعذيب وإيقاع الأذى على أحد بسبب ما….
المادة 13- لا يجوز التعرض لحرية المعتقدات والديانات….
19- المطبوعات حرة ضمن دائرة القانون ولا بجوز تفتيشها وما فيها قبل الطبع.
مما سبق يلاحظ أن شكل الدولة اتحادي ونظام الحكم ملكي نيابي، وهناك ضمان واضح للحريات المدنية والدينية والشخصية

أما الوجه “الكالح المعتم” ليوم الثامن من آذار، فهو ذلك اليوم الذي وصل فيه العسكريون إلى الحكم واغتالوا الحكومة الشرعية في العام 1963 بما يسمى زوراً وبهتاناً بثورة الثامن من آذار، حيث جاءنا ذلك اليوم “الأغبر النحس” بالأراذل والهمج من الضباط العسكريين الذين استولوا على الحكم الذي كان على رأسه رجال وطنيون مشهود لهم بالوطنية والنزاهة والتجربة السياسية، من أمثال”ناظم القدسي” خالد العظم” “”معروف الدواليبي” عصام العطار” وغيرهم من أعضاء الحكم ورجالاته.
لقد استولى العسكريون على الحكم بذريعة إعادة الوحدة بين مصر وسوريا، فتحالف الضباط البعثيون مع الناصريين ليقوموا بذلك الإنقلاب المسؤوم، ومن ثم لينقلبوا على بعضهم، بعد أن استطاع البعثيون الإطاحة برفاق دربهم في الإنقلاب من الناصريين والمستقلين، ولينفردوا بالحكم الذي كان من اول منجزاته هي تعطيل دستور البلاد، والعمل بأحكام قانون الطوارئ الذي أبقى البلاد تحت سيطرة الأجهزة القمعية لمدة ما يقرب من 48 عاماً!!
لقد استغلت الطغمة العسكرية في سوريا “حزب البعث” لتحكم باسمه البلاد وتبتلع مؤسسات الدولة من خلال حكم قمعي تدرّج في استبداده إلى أن أوصل المجرم “حافظ أسد ” إلى السلطة ،فما كان من هذا المجرم إلاّ ان ابتلع الحزب والمؤسسات ليورثها لولده المعتوه “بشار” الذي لا زال على سدة الحكم بسطوة القمع والحديد والنار.
لقد كانت كارثة يوم الثامن من آذار كارثة بكل ما تعنيه الكلمة، جاءت بالأراذل ليحكموا البلاد ويفتكوا بالعباد،… ولا زالوا ،ولا زال شعب سوريا يقاوم .

ومن لطائف الدستور الذي كان يحكم به “حافظ أسد”-دستور 1973- وللتندر، نستعرض هذه المواد:
المادة الأولى:الجمهورية العربية السورية دولة ديموقراطية شعبية اشتراكية…!!!
المادة الثامنة – حزب البعث هو الحزب القائد في الدولة والمجتمع ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات الجماهير الشعبية ووضعها في خدمة أهداف الأمة….!!!
هذا ما تسعفنا به الذاكرة، وهذا ما يتسع له المقام، ونحن نستذكر يوماً له وجه منير، وآخر شر مستطير،
وسيكتب التاريخ في صفحاته ما جاءت به الأيام، وسينقل للأجيال القادمة ما حدث في الثامن من آذار، في بلد اسمه “سوريا”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى