بحوث ودراسات

مفهوم الخلافة عند د. محمد عمارة

د. عثمان محمد بخاش

باحث في الفكر الإسلامي والقضايا المعاصرة
عرض مقالات الكاتب

في جوابه على السؤال([1]): ما هي حقيقة الخلافة الاسلامية؟ هل الخلافة ضد الدول القطرية والوطنية و القومية؟ أم ان هناك توافق بين هذه المصطلحات، مصطلح الخلافة ومصطلح القطرية والوطنية والقومية؟ أجاب الدكتور محمد عمارة:”الخلافة الاسلامية هي ابداع عربي بعد وفاة رسول الله ﷺ كانت هناك دولة النبوة  في عهد الرسول، عندما توفي الرسول ﷺ الصحابة اقاموا نظام الخلافة الراشدة…. الخلافة لها ثلاثة مهام، أي نظام حتى ولو لم نسميه خلافة اسلامية، يقيم الشريعة الاسلامية، يحقق وحدة الامة الاسلامية، يحقق تكامل دار الإسلام ،هذه هي المقاصد والأغراض الثلاثة للخلافة الإسلامية، أي نظام لو سميناه جمهورية إسلامية أو تضامن إسلامي أو منظمة التعاون الإسلامي (فهو نظام إسلامي)..الاتحاد الاوروبي هو صورة مصغرة من الخلافة الإسلامية، دول لكل واحدة منها برلمان ولكل واحدة حكومة، ولكن هناك تنسيق في السياسة الخارجية هناك برلمان اتحادي، هناك محاكم اتحادية، هناك حقوق للانسان اتحادية هناك فتح الحدود..”

هذا الجواب يلخص  مجمل النظرية السياسية لدى د. عمارة، وتقوم على أن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم “ابدعوا” في اقامة النظام السياسي الذي يحقق مقاصد النظرية الاسلامية في الحكم والدولة والقائمة على تطبيق الشريعة الاسلامية، وتحقيق وحدة الأمة الإسلامية، و ايجاد التكامل  بين بلاد المسلمين، ضاربا المثل بنموذج الاتحاد الاوروبي…ومتى تحققت هذه المقاصد فلا يضير تسمية النظام بالجمهورية الإسلامية او منظمة التعاون الاسلامي….

  1. فقول عمارة إن “الخلافة هي ابداع عربي” فيه جرأة كبيرة لا تستقيم مع طريقة الاسلام في فهم مصادر التشريع الاسلامي قرآنا وسنة وإجماع صحابة.
  2. وجوابه في تعريف الخلافة انما هو احتذاء بنظرية الخلافة كما قدمها الدكتور عبدالرزاق السنهوري “باشا” في كتابه “فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية”([2])، وهذا الكتاب ترجمة عربية لرسالة الدكتوراة التي قدمها بالفرنسية في جامعة ليون الفرنسية في 1926، باشراف المستشرق الفرنسي ادوارد لامبير([3]).

أولا:القول بأن الخلافة هي “ابداع عربي من الصحابة”

  1. هذا القول يفيد أن الإسلام الذي أُنزِل على رسول الله ﷺ ترك “مقاصد عامة” للمجتمع الاسلامي، أما موضوع تنظيم الشؤون السياسية للمسلمين فبقي مهملا، إذ لم يحدد الأحكام الشرعية التي تفصّل النظرية السياسية للدولة الإسلامية، ولا تفاصيل العلاقة بين الحكومة الإسلامية والمجتمع الإسلامي الوليد، فجاء الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ليقوموا ب”ابداع” ما يلزم من نظم في الحكم وفي الاقتصاد والاجتماع وأمور المال والسياسة الخارجية وغير ذلك. فهل نفهم الوصف “ابداع” ليشير إلى أن النظام الذي “صنعه” الصحابة رضوان الله عليهم جاء “بديعاً”، يعني من قبيل الثناء عليه؟ أم أن صفة “إبداع” هي لوصف ما قام به الصحابة بأنه “ابتداع” أي الاتيان بأمر جديد؟
  2. وإضافة صفة العربي في قوله “إبداع عربي” طامة كبرى بحد ذاتها، و هذا التعبير يشير إلى أن النظام السياسي الذي سار عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، هو مجرد “ابداع” بشري عكس ظروف الزمان والمكان والبيئة العربية السائدة يومذاك، أي دون ربط بأحكام الدين، وبالتالي يمهد هذا الوصف لإمكانية أن “نبدع” نحن اليوم، وغيرنا من المسلمين، حسب ظروف الزمان والمكان والبيئة التي نعيشها، بما في ذلك الاقتباس من تشريعات الأمم الأخرى.
  3. 3-     والرد على هذه “الشبهة” يقتضي تبيان طبيعة الرسالة الإسلامية، فنتفق مع ما ذهب إليه الدكتور ظافر القاسمي رحمه الله، أنّ “المسألة لا تحتاج إلى كثير من النقاش. فإذا سلّمنا بأنّ الإسلام عقيدة وعبادة ونظام فعندئذ لا محيص من أن نسلّم بأنّ هذا النظام الوارد في الكتاب والسنة قد وضعت الوسائل اللازمة لتطبيقه، وإلا كان نظاماً نظرياً، لا قيمة له في الواقع العملي. أمّا أن نسلّم بأنّ الإسلام نظام وأن نذهب إلى أنّ هذا النظام لم يكن موضع تطبيق فذلك مما يأباه المنطق العادي. على أنّ واقع السيرة النبوية واضح في أنّ الرسولﷺ قد أرسى قواعد الدولة المنظمة كأحسن ما يكون  التنظيم…”([4]).وعبّر الإمام  أبو حامد محمد الغزالي عن الحاجة إلى السلطان بقوله: ” الدنيا مزرعة الآخرة، ولا يتم الدين إلا بالدنيا، والملك والدين توأمان، فالدين أصل، والسلطان حارس، فما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، ولا يتم الملك والضبط إلا بالسلطان”([5]). وفي كتابه “السياسة الشرعية في اصلاح الراعي والرعية” أكد ابن تيمية على أهمية الولاية بقوله : “يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين،بل لا قيام للدين إلا بها.”([6])     ويستشهد ابن تيمية بما جاء في مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال:”لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمّروا أحدهم”([7])، ويعقّب بقوله :”فإذا كان قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يولى أحدهم، كان هذا تنبيهًا على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك”([8]).
  4. و لا جدال،إلا عند تلامذة المستشرقين كما سنرى لاحقا ومعهم علي عبدالرازق في كتابه الإسلام واصول الحكم، في أن الرسولﷺ ” أقام جهاز الدولة الإسلامية بنفسه، وأتمه في حياته، فقد كان للدولة رئيس، وكان له معاونون، وولاة، وقضاة، وجيش، ومديرو دوائر، ومجلس يرجع إليه في الشورى.. و كان صلى الله عليه وسلم يقوم بأعمال رئيس الدولة منذ أن وصل المدينة حتى وفاته ، وكان أبو بكر وعمر معاونيْن له، وأجمع الصحابة من بعده على إقامة رئيس للدولة يكون خليفة للرسول في رئاسة الدولة فقط، لا في الرسالة ولا في النبوة، لأنها ختمت به. وهكذا أقام الرسول ﷺ جهاز الدولة كاملاً في حياته وترك شكل الحكم وجهاز الدولة معروفيْن وظاهريْن كل الظهور.”([9]) بل قد أحصى الدكتور  محمد مصطفى الاعظمي واحدا  وستين “كاتبا”  للرسول الكريم ﷺ في شتّى التخصصات:من المسائل العسكرية، إلى مكاتبات الملوك، الى سجلات الزكاة والصدقات الى غير ذلك. ويصحح د. الأعظمي ما اشتهر من أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو “أول من دون الدواوين” فيقول” إن الدواوين- في شكلها البسيط- كانت قد استعملت في عهد النبي ﷺ وعندما جاء دور سيدنا عمر رضي الله عنه، وتوسعت الدولة، أصبح من الضروري تطوير نظام الادارة، فقد أمر بتدوين الدواوين على “أساس أشمل” من ذي قبل. والدليل على ذلك أن ديوان الإنشاء أول ديوان وضع في الإسلام، وكان قد تم وضعه في عهد النبي ﷺ….” وكذلك ديوان الجيش وديوان الخراج([10])..
  5. وننوه بكلمة سريعة إلى ضرورة التفريق بين اشتمال الاسلام على التشريعات والقواعد والأحكام اللازمة لرعاية شؤون الفرد والمجتمع والدولة، وهذا ما لا يماري فيه إلا مفتر على دين الله أو مقلد أعمى لمفتريات المستشرقين، وبين الاستفادة من المهارات المدنية للشعوب الأخرى.والقاعدة المتبعة هنا أن ما يمت بصلة إلى التشريع فالشريعة الإسلامية جاءت كاملة تامة بشهادة رب العالمين (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ )،  أما ما يُعد من قبيل الأشكال المادية من علوم وصناعات لا ترتبط بعقيدة فلا ضير في الاستفادة منها، فهذه لها صبغة عالمية لا تختص بقوم دون قوم، ومن هذا القبيل علوم الرياضيات والهندسة والطب وما شاكل، وفي السيرة النبوية أن الرسول ﷺ أرسل من الصحابة إلى اليمن ليتعلموا صناعة السلاح، كما قبل نصيحة سلمان الفارسي رضي الله عنه “الفنية” في حفر الخندق كما جاء في كتب السيرة النبوية.
  6. بالتالي فلا مبرر للتشويش على أذهان الناس بالقول إن الشورى في الإسلام هي صنو الديمقراطية. و الرسول ﷺوصف طبيعة نظام الحكم في الإسلام بأنها الخلافة، فقد روى الإمام مسلم “عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة رضي الله عنه خمس سنين.فسمعته يحدث عن النبي ﷺ قال كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء.كلما هلك نبي خلفه نبي.وإنه لا نبي بعدي.وستكون خلفاء فتكثر قالوا: فما تأمرنا؟ قال فوا ببيعة الأول فالأول.وأعطوهم حقهم.فإن الله سائلهم عما استرعاهم.” و روى  عن عبد الله ابن عمرو بن العاص قوله: أنه سمع رسول اللهﷺ  يقول: «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر»([11]). وعن أبي سعيد الخُدري عن رسول اللهﷺ أنه قال: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»([12]). وروى  عن عرفجة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه»([13]).
  7. فهذه الأحاديث الصحيحة،وما جاء في القرآن الكريم من الآيات الصريحة بوجوب الاحتكام إلى شرع الله ونبذ شرائع الطاغوت أيا كانت مسمياتها، وإجماع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، تحدد طبيعة نظام الحكم في الإسلام. ولئن جهله البعض، أو تجاهله لسبب آو آخر كما فعل علي عبدالرازق، فهذا يؤخذ عليه، ويحاسب على افترائه، بدل النعيق وراء روايات المستشرقين الطاعنة في أحكام الدين.
  8. فقوله ﷺ: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما” يفهم منه صراحة أن نظام الحكم في الاسلام هو الخلافة  يوجب وحدة المسلمين، ويحرم وجود خليفتين..وما طرحه عمارة من تشبيه دولة الخلافة بالاتحاد الاوروبي حيث عده “صورة مصغرة عن الخلافة، هو فهم خاطيء لطبيعة النظام السياسي في الإسلام. فالنظام السياسي في الاسلام ليس اتحادا بين عدة كيانات-دول بل هو وحدة تامة تخضع جميع انحائه إلى سلطة الخليفة. و السلطان فيه للأمة فهي صاحبة الحق في مبايعة من ترتضيه، وكان مستوفيا لشروط الخلافة، ليصبح خليفة. وموضوع العقد بين الطرفين هو الخضوع لسيادة الشرع والتعاهد على تطبيق أحكام الشريعة كافة، التي يخضع لها الحاكم والمحكوم على السواء، فالسيادة للشرع وليس للأمة. والدليل على ذلك قوله تعالى:( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) وقوله:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ) ومعنى رده إلى الله والرسول هو رده إلى حكم الشرع. فالذي يتحكّم في الأُمة والفرد، ويُسيّر إرادة الأُمة والفرد، إنما هو ما جاء به الرسول ﷺ. فالأُمة والخليفة يخضعان للشرع في جميع أمورهم ، فالسيادة للشرع، ولهذا فإن الخليفة لا يُبايَع من قِبَل الأُمة كأجير عندها لينفذ لها ما تريد، كما هي الحال في النظام (الديمقراطي)، وإنما يُبايَع الخليفة من الأُمة على كتاب الله وسنة رسوله، ليُنفِذَ كتاب الله وسنة رسوله، أي ليُنفِذ الشرع، لا ليُنفِذ ما يريده الناس، حتى لو خرج الناس الذين بايعوه عن الشرع قاتلهم حتى يرجعوا، وإذا خرج الخليفة عن الشرع وجب عزله سلما أو حربا.
  9. ولهذا كان نظام الحكم في الإسلام نظاماً إسلامياً متميزاً عن غيره من النظم المعروفة الآن في أصوله وأسسه، وإن تشابهت بعض مظاهره مع بعض مظاهرها. فلا يصح القول أن الشورى هي صنو الديمقراطية، أو محاولة الباسه “صورا” و”أشكالا” تقربه من النظم الوضعية الأخرى من ملكية أو ديمقراطية أو جمهورية وغير ذلك…فهذه النظم تقوم على نظرية سياسية تعكس عقائد معينة تتناقض مع الاسلام جملة وتفصيلا. وقد مر معنا من قبل ، إبان فورة الاشتراكية، من حاول إظهار الاسلام بلبوس الاشتراكية قبل أن يطويها الزمان، وليست الديمقراطية المزعومة “نهاية التاريخ” كما يروج أهلها في الغرب وأتباعهم من المضبوعين بهم في الشرق، بل هي آخر مشهد من تيه البشرية عن شريعة ربها.

*********** الجزء الثاني************

ثانيا: نظرية الخلافة كما قدمها الدكتور عبدالرزاق السنهوري

 قال د. عمارة في جوابه:” الخلافة لها ثلاثة مهام، أي نظام حتى ولو لم نسميه خلافة إسلامية، يقيم الشريعة الإسلامية، و يحقق وحدة الإمة الاسلامية،و يحقق تكامل دار الاسلام هذه هي المقاصد والأغراض الثلاثة للخلافة الاسلامية،…فمتى تحققت هذه المقاصد فلا يضير تسمية النظام بالجمهورية الإسلامية أو منظمة التعاون الاسلامي….”

  1. الدكتور عمارة هو من المنافحين بقوة عن مدرسة فكرية ترجع إلى ما بثه جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ومن جاء بعدهما كطه حسين وعلي عبدالرازق، وعبدالرزاق السنهوري.([14])
  2. ومفهوم الخلافة الذي طرحه د. عمارة مقتبس من رؤية د. السنهوري لفقه الخلافة التي عرضها في اطروحته للدكتوراة في جامعة ليون فرنسا 1926،و ترجمتها ابنته د. ناديا السنهوري إلى العربية تحت عنوان فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية؛ وقد صرح عمارة بأن السنهوري هو صاحب فكرة “رابطة الشعوب الإسلامية” المشابهة لتجربة الاتحاد الاوروبي، التي يراها عمارة بأنها تشكل صورة الحكم الإسلامي المنشود اليوم[15].
  3. لا يني السنهوري يكرر ويؤكد في ثنايا اطروحته للدكتوراة أن تطبيق الشريعة أمر دونه عقبات كأداء لا تكاد تنتهي، دون أن يذكر  أيا من هذه العقبات المزعومة التي يبني عليها قوله باستحالة إقامة  دولة الخلافة. فلا عجب أن أشاد به استاذه المستشرق الفرنسي ادوارد لامبير في المقدمة التي كتبها للأطروحة:”لقد أجاد السنهوري في الإشارة إلى آثار “مبدأ الضرورة” في تطور “النظرية القانونية للخلافة.([16]) وقد قرت عينا لامبير بالتلميذ النجيب، وعبر عن ذلك بقوله: “لقد  وجدت ضالتي المنشودة أخيرا، على يد السنهوري، وهو من أنبغ تلاميذي الذين درست لهم خلال حياتي العملية كاستاذ، إنه تلميذ قد أثبت فعلا أنه جدير بأن يكون استاذا”.([17]) وقد اعترف التلميذ النجيب بفضل استاذه عليه :” اذا كنت حققت نجاحا في هذا الصدد، فإنني مدين بالفضل في ذلك إلى التوجيه المستنير والنصائح الحكيمة لأستاذي البروفسير ادوار لامبير”.([18]فهذا “الشبل المتغرب” من ذاك “الأسد الصليبي” المستشرق الغيور على دين الله!
  4. قامت نظرية الخلافة عند السنهوري على التفرقة بين “الخلافة الصحيحة” و”الخلافة الناقصة” وهو مصطلح صكه السنهوري ليطلقه على كل عهود الحكم الاسلامي بعد عهد الخلفاء الراشدين. فهو يرى أن الخلافة الصحيحة يجب أن تقوم على ثلاث ركائز:1- التكامل بين الشئون الدنيوية والدينية  و2- تنفيذ أحكام الشريعة 3- وحدة العالم الاسلامي و”متى اجتمعت هذه الخصائص في الحكومة الاسلامية  أصبحت حكومة شرعية مهما يكن شكلها واستحق أن توصف بأنها حكومة الخلافة”.[19] وقد لاحظ د. توفيق الشاوي، في مراجعته، بحق أن الصفتين الأولى والثالثة مستمدتان من  مبدأ عموم ولاية حكومة الخلافة أي الصفة الثانية، فكلاهما من الالتزامات التي يفرضها تطبيق الشريعة.
  5. أساس نظام “الخلافة الناقصة” عند السنهوري هو فكرة “الضرورة” التي تجعل المحظور جائزاً، فالخلافة التي تتوفر فيها جميع الخصائص المميزة “للخلافة الناقصة” تصبح رغم ذلك “جائزة” (أي شرعية) طالما أنها تمثل أخف الضررين([20]).فالسنهوري يرى أن واقع المسلمين اليوم(حين كتابته اطروحته 1926) يتعذر فيه إقامة الخلافة الصحيحة، فيلجأ إلى “فكرة الضرورة” لتسويغ اقامة “الخلافة الناقصة”. يقول:”اذا اصبح قيام نظام الحكومة(الخلافة)  الصحيحة مستحيلا لسبب أو آخر فإن المسلمين يجدون أنفسهم في مأزق، فهم من ناحية ملتزمون شرعا بإقامة هذا النظام(الخلافة) ، ولكنهم من الناحية الأخرى  عاجزون عن ذلك- في مثل هذه الظروف ينشأ نظام “الخلافة الناقصة”. ([21])
  6. في النتائج النهائية لدراسته يخلص السنهوري إلى القول: أ- بما أنه يستحيل اليوم تصور اقامة نظام الخلافة الراشدة أو الكاملة فلا مناص من اقامة حكومة اسلامية ناقصة(غير كاملة) وذلك على أساس حالة الضرورة للظروف التي يمر بها العالم الإسلامي حاليا. ب- هذا النظام  الإسلامي الناقص يجب اعتباره نظاما مؤقتا، وهدفنا المثالي هو السعي إلى العودة مستقبلا للخلافة الراشدة. ج- إن نظام الخلافة الراشدة التي يجب اقامتها مرة اخرى في المستقبل يجب أن يتصف بالمرونة، لقد راينا أن الشريعة الإسلامية لا تفرض اطلاقا شكلا معينا لنظام الحكم. وكل نظام يتوفر فيه الخصائص الثلاثة المميزة للخلافة هو نظام شرعي وصحيح.([22])
  7. في هذه الأثناء، ومن قبيل اقتراح آلية عملية تتفق مع روح العصر يدعو السنهوري إلى “ضرورة التمييز بين التنظيم الديني والتنظيم السياسي“، مع اقراره بأن التنظيم الديني(المقترح) لم يكن له وجود حتى الآن على صورة هيئة متميزة و مستقلة..في هذا الإطار  تكون الهيئة الدينية بالصورة التي نعرضها هي المحرك الأساس لهذه الحكومة غير الصحيحة وذلك حتى تحين اللحظة التي يمكن فيها أن يضاف إليها التنظيم السياسي الذي يمكن وحده أن يتيح لنا العودة إلى نظام الحكومة الصحيحة الراشدة.([23]) ثم يفصّل مهام هذه الهيئة الدينية المقترحة والتي تشابه إلى حد بعيد السلطة الكهنوتية لبابا الفاتيكان، لجهة الإشراف على النواحي التعبدية، أو ما أمكن منها.
  8. يلاحظ في مواطن عدة في كتابه أن السنهوري ينطلق من مسلمة أن تطبيق الشريعة كاملا هو أمر متعذر اليوم، ويتخذ من هذه المسلمة “ذريعة” للإيغال في توصيف ما يسميه “الحكومة الناقصة” من منطلق الضرورة. ومع زعمه أن اقتراحه للهيئة الدينية هو “مؤقت” ،الا إن روح رسالته تقوم على تكريس هذا الواقع المأزوم الذي يعاني منه المسلمون. “بالنسبة للمسلمين أنفسهم فان التشريع الاسلامي لا يمكن تطبيقه الا بعد ادخال ما يستلزمه التطور في بعض أحكامه وخاصة منها ما يتعلق بالنواحي الاقتصادية او المعاملات العقارية ليصبح متجاوبا مع ضرورات الحضارة الحديثة. يجب اذن بذل مجهود علمي شاق لاجتياز هذه العوائق، وإلى أن يتم هذا العمل فإن القوانين السائدة  تستمر الآن في البلاد الاسلامية ، طالما أن الشريعة الإسلامية لم تهيأ للتطبيق العملي الفوري”([24]) .
  9. وهكذا يتضح ان دعوته ليست مؤقتة بل هي باب لتكريس هيمنة القوانين الوضعية التي كان له، لاحقا ،الفضل الاكبر في تشريعها. علما أن الخصائص الثلاثة التي أشار اليها السنهوري مدارها على الركيزة الأساسية ألا وهي تطبيق الشريعة. فكيف يكون تطبيق الشريعة مجتزأ؟ وهل يجوز تطبيق بعض الأحكام والإعراض عن بعض؟ أما دعوته الى تطوير التشريع الاسلامي فيعني صرف عقود من الزمن في جدالات لا تنتهي بينما يعيش المسلمون في ظل احكام القانون المدني المستورد من الغرب!!كما ان تبرير هذا التطوير “ليصبح متجاوبا مع ضرورات الحضارة الحديثة”

كما ذكر فهذا يعني جعل الحضارة الغربية هي المقياس في الحكم على صلاحية التشريع الإسلامي.

وكان على السنهوري، بدل أن يجعل صياغة القانون المدني المقتبس من القانون المدني الفرنسي مشروع حياته، أن يدعو للتطبيق الكامل والفوري للشريعة الإسلامية. أما الدعوة الى انشاء رابطة الشعوب الشرقية فهي دعوة إلى تكريس التفرقة والتجزئة تحت عنوان “مرحلية التدرج” للوصول إلى الخلافة الكاملة المنشودة، وقد رأى السنهوري في أيامه كيف تمكن مصطفى كمال من هدم دولة الخلافة و استبدال القانون الوضعي بأحكام الشريعة الإسلامية، التي عاش المسلمون في كنفها عبر 13 قرنا من الزمان، وبشكل فوري دون تدرج أو “مراحل انتقالية”! والغريب أن  ابنته الدكتورة نادية عبدالرزاق السنهوري اعتبرته أبو منظمة المؤتمر الإسلامي التي جاءت تتويجا لمسيرته، شاهدة “للسنهوري بأن مشروعه لم يكن وهما ولا تخيلا”[25]. فيا فرحة المسلمين بمنظمة المؤتمر الإسلامي  التي لا تحتاج لكثير عناء في تبيان واقعها فانجازاتها المبهرة تتحدث عن نفسها!


([1] ) انظر السؤال والجواب  في الفيديو بعنوان: ردا على من يشوهون الخلافة الاسلامية، على الرابط: https://youtu.be/OzjyHkPm1-4

([2]) السنهوري، عبدالرزاق،فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية ،ترجمة د. نادية عبدالرزاق السنهوري، مراجعة د. توفيق الشاوي، الهيئة  المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية 1993.

([3] ) إدوارد لامبير( 1866-1947)  فقيه وباحث قانوني فرنسي، أمضى حياته العلمية في جامعة ليون، أُرسل إلى مصر فكان ناظرًا في كلية الحقوق الخديوية (1906-1907)، وحين عاد إلى فرنسا اصطحب معه 50 طالبا من  المصريين، فغرس فيهم حب القانون الفرنسي والافتخار به، مما جعل القانون الفرنسي مرجعا أسًاسيًا في القانون المدني المصري.كان شيخا موجها للسنهوري في طروحاته القانونية الدستورية.انظر المقدمة التي كتبها لكتاب السنهوري فقه الخلافة، ص 29-33.

([4]) القاسمي،ظافر، نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، الكتاب الأول الحياة الدستورية، ص 46-47.

([5]) الغزالي،أبو حامد محمد بن محمد، إحياء علوم الدين، ج1، ص 17.

([6]) ابن تيمية، السياسة الشرعية في اصلاح الراعي والرعية، ص 138.

([7] ) مسند الإمام أحمد، من حديث عبد الله بن عمرو، ج10 ص 134 ،رقم الحديث 6647 .

([8] )ابن تيمية، الحسبة، ص 31.

([9]) النبهاني، تقي الدين، الدولة الاسلامية، ص 25-27. وانظر مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، محمد حميد الله.

([10] )الأعظمي، محمد مصطفى، كتّاب النبي، ص 13-14.

([11]) صحيح مسلم، باب اذا بويع لخليفتين، ج 3، ص 1480. ورواه بنفس اللفظ ابن ماجه في سننه عن عبدالله بن عمرو بن العاص، سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1306.

([12]) صحيح مسلم، باب اذا بويع لخليفتين، ج 3، ص 1480.

([13] ) صحيح مسلم، باب اذا بويع لخليفتين، ج 3، ص 1480.

([14] )عمارة،محمد،في تقديمه لكتابه الدكتور عبدالرزاق السنهوري اسلامية الدولة والمدنية والقانون يذكر عمارة أن مشروعه الفكري يقوم على إحياء تراث “أعلام علماء مدرسة الإحياء والتجديد الإسلامي،من رفاعة الطهطاوي إلى جمال الدين الأفغاني إلى محمد عبده إلى الكواكبي إلى علي مبارك ورشيد رضا “،ص 5.

([15] ) انظر جواب د. عمارة على السؤال “التحدي الأكبر الذي تواجهه الأمة الإسلامية“، على الرابط: https://youtu.be/jMOE4OK5bW0.

([16] ) عمارة، محمد، المصدر السابق، ص 32.

([17] ) عمارة، محمد،المصدر السابق، ص 30.

([18] ) عمارة، محمد، المصدر السابق، ص 36.

([19] ) السنهوري، عبدالرزاق،فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، ص 66.

([20] ) السنهوري، عبدالرزاق، المصدر نفسه، ص 209.

([21] ) المصدر نفسه، ص 208.

([22] ) المصدر نفسه، ص 307.

[23] المصدر نفسه، ص 311.

[24] المصدر السابق،ص 315.

[25] السنهوري، عبدالرزاق،فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، 25، كرر ذلك د توفيق الشاوي في خاتمة الكتاب:”شرح وتقييم لمشروع إعادة الخلافة عند السنهوري ومسيرته التي انتهت بإنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي”، 337.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى