بحوث ودراسات

ثورة التوابين قراءة تأريخية تحليليةعن ثورة جماعة التوابين 4من 4

د. هاني السباعي

مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية بلندن.
عرض مقالات الكاتب

خامسا: أسباب فشل حركة التوابين

  1. نلاحظ بعد هذا العرض قلة عددهم إذا ما قورن بخصومهم (4000 في مقابل 30،000)، ولكن قد يثور في الذهن أن قلة العدد ليست سبباً أساسياً في الفشل ووقوع الهزيمة! ودليل ذلك قول الله تعالي: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله).. وردّنا على ذلك أن الآية القرآنية تتكلم عن فئة استحقت عناية الله ومعيته ونصرته.. هذه الفئة قد أخذت بالأسباب التي شرعها الله في مثل هذه المواطن من الصراع. فالفئة القليلة قد أعدت واستعدت واتخذت كافة التدابير الاحترازية بقدر المستطاع وأفرغت وسعها في إعداد العدة للمعركة. ومن ثم استحقت النصر الموعود والتي بشرها الله بها في القرآن كما حدث للصحابة في غزوة بدر وغيرها رضي الله عنهم. وعلى مدار التاريخ الإسلامي نجد أن هذه القلة التي أخذت بهذه الأسباب الكونية التي خلقها الله للمسلم والكفار. فلما استمسكت الفئة القليلة المؤمنة بهذه الأسباب عوض الله قلتها بأن أيدها بجنده وقذف الرعب في قلوب أعدائها. أما جماعة التوابين رغم شهادة السلف لهم بالتقوى والصلاح والزهد في الدنيا والجهاد في سبيل الله إلا أنهم لم يأخذوا بالأسباب الموجبة للنصر كما هو واضح من نصائح الولاة والمخلصين لهم في عدم الخروج إلا بعد إعداد العدة.
  2. قدوم المختار الثقفي وظهوره على الخريطة السياسية في الكوفة كان له أثر كبير في انصراف الناس؛ بل وانشقاق التوابين عن أميرهم سليمان بن صرد. فقد كان يزعم أنه مفوض من قبل ابن الحنفية رحمه الله للثأر بدم الحسين وأنه وليه، مما ثبط الناس وأقعدهم عن الخروج مع جيش التوابين.
  3. خذلان معظم أعضاء الجماعة لقادتهم وانصرافهم عنهم فلم يحضر إلا 4 آلاف من 16 ألف رجل، وظلوا ينقصون حتى قبيل معركة عين الوردة.
  4. عدم أخذهم بنصيحة والي الكوفة؛ عبدالله بن يزيد الأنصاري، وكذا عدم سماع نصح والي الخراج على الكوفة؛ إبراهيم بن محمد اللذين طلبا منهم أن يظلوا معهم في الكوفة حتى يتهيأوا ويعدوا العدة ليقاتلواعدوهم جميعاً، أو حتى مناصرتهم في قتالهم لعدوهم، لأنهم في هذه الحالة سيقاتلون وهم في حماية ذويهم وأهليهم و إخوانهم.
  5. عدم أخذهم بنصيحة والي قرقيسيا؛ زفر بن الحارث الذي عرض لهم أن يبقوا معه في حصنه ليقاتلوا عدوهم جميعاً، أو يظلوا مرابطين أمام الحصن هم وجنده ورغم ذلك أبى التوابون وأصرت قيادتهم على الخروج لقتال عدوهم كفاحاً.
  6. نلاحظ ضعفهم العسكري والتكتيكي: من خلال نصيحة زفر بن الحارث الذي أشار عليهم بتغيير موقع القتال ونصحهم بالإسراع إلى منطقة عين الوردة. كما أن خطته في طريقة القتال وتعبئة الجنود يدل على مهارته وحنكته، وفي الوقت نفسه يدل على بساطة التوابين رغم شجاعتهم الفردية إلا أن المعارك تكون جماعية وتعتمد على الخداع والكر والفر والمناورة.

ونود في هذا السياق أن نرد على مقولة الدكتور شحاتة الناطور الذي قال:

“لم يمد ابن الزبير بالمال أو السلاح أو الجند (..) وعلى كل حال أبلى التوابون في عين الوردة وقتلوا من جيش الأمويين عدداً كبيراً، ولكن موقف ابن الزبير وواليه كان سلبياً وهنا قد أضر بمكانته في العراق”[1]

وردنا على الدكتور الناطور يتلخص في الآتي:

ماذا عسى ابن الزبير أن يفعل أكثر مما ذكره الإخباريون والرواة؛ فواليه على الكوفة قد بذل لهم النصيحة وأعانهم بالسلاح والعتاد، ولم يقصر في النصح لهم والإشفاق عليهم، وأرسل لهم رسالة يطلبهم بالرجوع إلى الكوفة والتحصن بها لقتال عدوهم ولعلمه بضعفهم. ووالي ابن الزبير على الخراج ابراهيم بن محمد بذل لهم مثل والي الكوفة عبدالله بن يزيد. أما والي قرقيسيا من قبل ابن الزبير زفر بن الحارث فهو الذي زودهم بالطعام وبالخيل وبالسلاح وطلب منهم التحصن معه في حصنه والانتظار حتى يقاتلوا عدوهم جميعاً ودعاهم إلى وحدة الصف، فأبوا وأصروا ورغم ذلك لم يقصر في حقهم حتى في رسم الخطة العسكرية وبعد المعركة أيضاً؛ فهذا الوالي نفسه هو الذي كان يضمد الجرحى ويعينهم ويطعمهم وأوصلهم إلى الكوفة وإلى بقية أمصارهم. وماذا عسى ابن الزبير أن يفعل وهو كان يحارب على عدة جبهات وفي وقت واحد. أليس من الأجدى والأنفع أن يتحدوا معه ويقاتلوا عدوهم جمييعاً.؟!

نلاحظ أن الضعف الإداري لديهم والقيادي أيضاً بالمقارنة بقادة جيش الشام:

فالقائد العام عبيدالله بن زياد، وقائد الجيش الحصين بن نُمير، وقادة مشاهير أخر مثل شُرَحْبيل بن ذي الكَلاع، وأدهم بن مُحْرِز، وجَبَلَة بن عبدالله الخثعمي.

وقد كان هذا الضعف العسكري واضحاً حتى أثناء القتال: ففي معمعة المعركة يتجادل التوابون فعبد الله بن خازم يتجادل مع الأمير عبدالله بن وال في إمساك الراية، وكأنه استقلها حتى صاح في إخوانه: أطع أميرك يرحمك الله ليس هذا وقت الجدال. فأمسكها قلبلاً ثم أخذها عبدالله بن وال.

فقضية السمع والطاعة كانت مهزوزة إلى حد كبير وكأنهم خرجوا ليقاتلوا فرادى، وبالطبع هذا الجدل كان له أثر كبير في زعزعة معنويات جند التوابين. وللأسف الشديد نجد أن هذا الجدل و هذا الخلف تكرر في عدة مواطن من خلال دراستنا لهذه الحركة.. فمثلاً عندما أراد أميرهم رفاعة بن شداد أن ينحاز بالبقية الباقية من جيش التوابين، لم يعجب ذلك بعض الناس، فرفضوا وانغمسوا في عدوهم واعتبروا أن مايفعله أميرهم فراراً، رغم أن ما فعله رفاعة بن شداد يماثل ما فعله خالد بن الوليد رضي الله عنه في مؤتة عندما انحاز جيش المسلمين لعدم التكافؤ بين الطرفين وليحافظ على البقية المقاتلة معه. وسنجد تصداق ذلك ما فعله عبدااله بن غزية الذي أصر على الإنغماس في عدوهم، ونفس الصورة مع عبدالله بن جزء، وعبده بن سفيان. لدرجة أن إخوانهم أشفقوا عليهم وكانوا يلحون عليهم ويرجونهم أن يبقوا معهم باعتبارهم من خيار الناس، ولكي لا يطمعوا فيهم عدوهم أكثر مما حدث.. فكان الرجل يقاتل وحده ويترك إخوانه!.

  • وجود كيان قائم في تلك الحقبة، وكان هذا الكيان بيعة الناس لعبدالله بن الزبير رضي الله عنه، ورغم ذلك لم يتحدوا معه ولم يستفيدوا من قتاله لجند الشام. مما أدى إلى الفشل الذي حلّ بهم.
  • لم يأخذوا برأي قائد منهم وهو عبد الله بن سعد الذي صار أميرا فيما بعد حيث رأى أن يقتلوا من في أيديهم ممن اشترك في قتل الحسين رضي الله عنه، لكن رفض ابن صُرد وأصر على قتل الرأس المدبر رغم قلتهم وضعف حالهم كما بينا آنفاً.

سادسا: أقوال أهل العلم فيهم

الحافظ شمس الدين الذهبي:

يقول عنه في سير أعلام النبلاء: “سليمان بن صُرد الأمير أبو مطرِّف الخزاعي الكوفي الصحابي. له رواية يسيرة. وعن أُبي وجبير بن مُطعم (..) قال ابن عبد البر: كان ممن كاتب الحسين ليبايعه، فلما عجز عن نصره ندم وحارب. قلتُ: كان ديناً عابداً، خرج في جيش تابوا إلى الله من خذلانهم الحُسين الشهيد، وساروا للطلب بدمه، وسمُوُّا جيش التوابين. وكان هو الذي بارز يوم صفين حَوشباً ذا ظُليم، فقتله. حضَّ سليمان على الجهاد؛ وسار في ألوف لحرب عبيد الله بن زياد (..) والتقى الجمعان، وكان عبيد الله في جيش عظيم، فالتحم الفريقان ثلاثة أيام، وقتل خلق من الفريقين، واستحرّ القتل بالتوابين شيعة الحسين، وقتل أمراؤهم الأربعة؛ سليمان، والمسيَّب، وعبدالله بن سعد، وعبد الله بن وال، وذلك بعين الوردة التي تُدعى رأس العين سنة خمس وستين، وتحيّز بمن بقي منهم رفاعة بن شداد إلى الكوفة”[2].

العلامة ابن الأثير الجزري:

قال عنه في أسد الغابة: “سليمان بن صُرد (..) كان اسمه في الجاهلية يساراً فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سُليمان، يكنى أبا الـمُطَرِّف. وكان خيراً فاضلاً، له دينٌ وعبادة، سكن الكوفة أوّل ما نزل المسلمون، وكان له قدر وشرف في قومه، وشهد مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه مشاهده كلها، وهو الذي قتل حوْشَبَا ذا ظُلَيْم الأُلهاني بصفين مبارزةً، وكان فيمن كتب إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما بعد موت معاوية، يسأله القدوم إلى الكوفة، فلما قدمها ترك القتال معه، فلما قتل الحسين نَدم هو، والمسَيّب بن نَجَـبَة الفزاري، وجميع مَنْ خذله، ولم يقاتل معه، وقالوا: ما لنا تَوبة إلا أن نطلب بدمه، فخرجوا من الكوفة مستهل ربيع الآخر من سنة خمس وستين، وولوا أمرهم سليمان بن صُرد، وسموه أمير التوابين، وساروا إلى عبيد الله بن زياد، وكان قد سار من الشام في جيش كبير يريد العراق، فالتقوا بعين الوردة، من أرض الجزيرة، وهي رأس عين، فقتل سليمان بن صُرَد والمسيب بن نجبة وكثير ممن معهما، وحمل رأس سليمان والمسيب إلى مروان بن الحكم بالشام، وكان عمر سليمان حين قتل ثلاثاً وتسعين سنة”[3].

الحافظ ابن كثير:

يقول عنه في البدابة والنهاية: “وكان جيش سليمان بن صُرَد وأصحابه يسمى بجيش التوابين رحمهم الله، وقد كان سليمان بن صرد الخزرجي صحابياً جليلاً نبيلاً عابداً زاهداً، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في الصحيحين وغيرهما، وشهد مع علي (رضي الله عنه) صفين، وكان أحد من كان يجتمع الشيعة في داره لبيعة الحسين (رضي الله عنه”[4].

الحافظ ابن حجر العسقلاني:

يقول عنه في الإصابة: ((سليمان بن صرد (..) وكان خيراً فاضلاً شهد صفين مع علي (رضي الله عنه) وقتل حوشباً مبارزة ثم كان ممن كاتب الحسين (رضي الله عنه) ثم تخلف عنه ثم قدم هو والمسيب بن نجبة في آخرين فخرجوا في الطلب بدمه وهم أربعة آلاف فالتقاهم عبيدالله بن زياد بعين الوردة بعسكر مروان فقتل سليمان ومن معه وذلك في خمس وستين في شهر ربيع الآخر وكان لسليمان يوم قتل ثلاث وتسعون سنة”[5].

الحافظ أبو عمر بن عبد البر:

قال عنه في الإستيعاب: “كان رضي الله عنه فاضلاً له دين وعبادة كان اسمه في الجاهلية يساراً فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمان (..) وله سن عالية وشرف وقدر وكلمة في قومه، شهد مع علي رضي الله عنه صفين (..) وكان فيمن كتب إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما يسأله القدوم إلى الكوفة فلما قدمها ترك القتال معه، فلما قتل الحسين رضي الله عنه ندم هو والمسيب بن نجبة الفزاري وجميع من خزله إذ لم يقاتلوا معه ثم قالوا ما لنا من توبة مما فعلنا إلا أن نقتل أنفسنا في الطلب بدمه فخرجوا فعسكروا بالنخيلة (..) وولوا أمرهم سليمان بن صرد، وسموه أمير التوابين ثم ساروا إلى عبيد الله بن زياد (..) فاقتتلوا فقتل سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة بموضع يقال له عين الوردة”[6].

صفوة القول

هكذا نكون قد ألقينا الضوء على جماعة التوابين؛ تلك الجماعة التي ظهرت في القرن الهجري الأول والخلافة الإسلامية قائمة، جماعة تخلفت عن نصرة ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخذلت آل البيت ثم كانت كربلاء التي جرّت على الأمة بلاءً وويلات تعاني منها أمتنا إلى وقتنا الحاضر. طلب التوابون المغفرة من الله وحده وشعروا أنه لن يتحقق لهم ذلك إلا بتوبة صادقة بقتل قتلة الحسين أو قتل أنفسهم في طلب دم آل البيت رضي الله عنهم. لذلك لا عجب أن نرى اصرارهم على ملاقاة جيش ابن زياد رغم قلتهم. لا عجب أن نرى عزمهم على المضي لقتال جند الشام وعدم استجابتهم لنداءات ونصائح الولاة المخلصين لهم بالتريث لعلمهم بقوة جيش الشام واعداده وتنظيمه. غير أن القوم كان يحركهم شوق إلى لقاء ربهم لنوال المغفرة والغفران من الله سبحانه وتعالى.

من خلال هذا العرض رأينا كيف تعامل سلفنا الصالح معهم وكيف نظروا إليهم، فلم يلعنوهم، ولم يتهموهم بالتهور والجنون والانتحار وتعريض المسلمين وأنفسهم للتهلكة والخطر، لم يعلقوا من عاش منهم على أعواد المشانق. لم يتهموا أميرهم بصلابة الرأي وعدم النظر في عواقب الأمور. لم يفعلوا كما نفعل نحن اليوم بأنفسنا رغم البون الشاسع بيننا و بينهم ورغم عدم وجود هياكل أو حتى كيانات إسلامية نحتمي بها أو نلجأ إليها.

لم يفعل السلف كما نفعل نحن مع أي جماعة مجاهدة أياً كان اسمها! لقد رمتنا الدنيا بقوس واحدة! فلا عبد الله بن الزبير رضي الله عنه في الحجاز، ولا ولاته في الكوفة أو قرقيسيا ولا الناس أمس هم أناس اليوم! القلة التي ذكرها الحسن البصري رحمه الله يوم أن رأى الناس في زمانه مختلفين “يا أهل السنة ترفقوا يرحمكم الله إنكم اليوم قلة”. لقد ترحم السلف على التوابين وذكروهم في أنصع صحائفهم، بل أشفق عليهم حتى الخصوم.

ومن ثم لم يبق لنا إلا أن نترحم عليهم جميعاً، وفي الختام نناشد الغيورين على تاريخ أمتنا أن يعيدوا قراءة وكتابة تاريخ جماعة التوابين، وأن يعيدوا قراءتها بنظرة جديدة، وعدم الاكتفاء بالسرد التاريخي، كما نوجه دعوتنا إلى الحركات الإسلامية خاصة المجاهدة أن تستفيد من دراسة مثل هذه الحركات مع استخلاص العبر والعظات.


[1]  عبدالله بن الزبير والإنتفاضة الثورية في عهد بني أمية للدكتور شحاتة ناطور ص148.

[2]  سير أعلام النبلاء 3/394-395

[3]  أسد الغابة 2/297-298.

[4]  البدابة والنهاية 4/255

[5]  الإصابة في معرفة الصحابة لابن حجر 2/76.

[6]  الإستيعاب في معرفة الأصحاب 2/63-64.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى