دين ودنيا

الصف

م. حسام تيسير السعدي

.
عرض مقالات الكاتب

هبط آدم الأرض وقد اكتملت لديه أسباب الإقامة ومنهج الاستقامة؛ و الاستقامة لا بدّ لها من إمامة كالاهتداء في ظلمات البر والبحر ببروج السماء، وفي هذا مثل بيّن أن المسير يدل على المصير… بدليل مبين..
ولأنها للناس كافة ولأن السيم تعزز القيم ،كان لا بد للقرى من أم لها، كما في كل قرية أمها هي أسماها وأوسمها، وهكذا استقام الناس صفًا صفا، إذ (ما بين المشرق والمغرب قبلة) ”حديث شريف“، كما استقاموا بالقسطاس عدلاً فما الناس إلا أخوة؛ حتى إذا ادّاركوا إلى أم القرى التفت الصفوف والتقت حتى تواجه الناس في الوسط لتنبئ أم القرى أن الأرض كرة.

{۞ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
ففي هذه الآية إدراج لذكر الشهر الحرام المتعلق بنظام القمر، وذكر البيت الحرام الذي به استقامت الصفوف والتقت دليل على التكوير؛ ولو استقاموا بدونها (الكعبة) لتوجهت صفوف الليل ضد صفوف النهار، ولتحلق كل صف شطرين ضده، حتى تصير أطراف القرى من الجانبين في انتكاس بين، وإن إدبار الوجه إدبار للتوجه، وتأويل بنقض عهد الاستقامة.. كما هي الصفوف تأويل بحفظ العهد بالاستقامة.
إن السيم لتعزز القيم وتدل عليها
واستوت الصفوف كالبنيان المرصوص صفًا صفًا، بما لا للبرية قِبل بها، وكأنها قرية واحدة، كل يدعو بالإخوة والتقوى في جنة الأرض وفدًا وفدًا، من شتى بقاع الأرض إخوانا، ليحفظوا هذا المقام الكريم إقامة واستقامة.
من ذا الذي رأى استقامة الصف والقسطاس، والأخوة بين الناس ثم يرضى أن يكون الناس أعداء؟
من ذا الذي رأى الكسوة كالطير، والحرص على البيت، ثم يرضى بفضِّ الريش والنسل؟!
من ذا الذي يكره الموت آتيه، ويرضى الخلد لاقيه، ثم يسعى وكأن موت الغير يحييه؟!
من ذا الذي رأى أن الأسباب ميزان، وأن الموت والحياة شتان، ثم لا تهديه الاستقامة إلى الرحمن؟!
من ذا الذي شق الصف عن الأولى: آدم أبو الورى، وإبراهيم الذي بنى، والنبي الأمي بأم القرى؟!.
قد آثروا الإمامة كإبليس على الاستقامة وانشقوا عن الصف الأسمى والاعظم والأوسم،وآثروا الفساد كإبليس والدم. فهم أولئك بغير أمن، يتخافتون بينهم بوحي الإشارة، ويلبسون سرابيل الحرب بدار الإقامة،ويطوفون بحصون الخرف بين العامة، فأي خزي آثروه على صفوف الصفوة آدم وإبراهيم والنبي الخاتم؟!
أما سلكوا أنابيب النفط بخسًا من حول أم القرى، كما سلكوا أقوات الناس في خزائن الأرض ربًا؟
أما علموا أنما نحيا بدعوة السلم سعيًا في كل صف، تلقاء صرح إبراهيم، وهم يحيون بدعوة الحرب خوفًا من تقويم عوج المترفين، إذ سلكوا الأرض حربًا ودمارًا وعمروا السماء أقمارًا وجندوا مرتزقة وعبيدا يحسبهم الجاهل رجالاً!
لقد انشقوا عن صفوف الملائكة والأنبياء كِبرًا أملا بشجرة الخلد وملك لا يبلى، بهذا خرجوا من جنات وعيون ونعمة كانوا فيها فاكيهن، فأحلوا قومهم دار البوار، في موت وطاعون، وشجر” المارغوانا والايفون وزواج المثليين في محاكمَ وصك مَختوم” وعداوة في القلب ضد سلام مزعوم، ونبذوا لنا سلالة منهم بأنفاق بين الصفوف يبغونها عوجًا، هم المنافقون بشتى المناصب، وبآفاق من فوف الصفوف هم قرصان القدس وأحبار فارس..
تحملوا مشقة الشقاق كمن يكره ضوء النهار ومنظر المرآة، وبلغوا آجالهم، وأورثوا الشقاق أجيالهم..
أما آن لهم ليعلموا أن صفوف الصفوة تدعوهم الي سبل السلام ودار السلام، ولا تزال تزداد صفا صفا..
وما هذه الصفوف إلا بصرح أبي الأنبياء – إبراهيم- قامت..
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ 🔹 فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}
[آل عمران : 96-97]

ثم جاء النبي الخاتم على فترة من الرسل ينبئ أن دعوة جميع الأنبياء والرسل في شتى بقاع الأرض دعوة تترا.. فختمت بلم شمل البلاد كافة بالدعوة الكبرى… ليعود الناس أمة واحدة صفًا صفًا إخوانًا قائمين بالقسط والقسطاس المستقيم..
{۞ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ}
[الشورى – الآية21َ]

لهذا بُعث في أم القرى لتكون إماما وأمن القرى، لينبئ عن اخبار الأمم التي خلت منها قائم وحصيد، في كتاب محفوظ فُصِّلت آياته ليظل حجة وبرهانا بلاغا بلسان الصادقين كأول ما نزل اول مرة..
{وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ۚ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يحافظون}
[الأنعام – 92]

فجعلها بلدًا آمنًا بتقوى الصلاح لا بقوة السلاح، فحرم حتى الصيد سعيًا إليه بإحرام في وعيد فريد لمن يريد…
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ۗ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ۚ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ}
[المائدة – الآية 95]

هو البلد الأمين وهو مثابة الآمين الآمنين، وسوق لهم يبغون فضلا من ربهم ورضوانا..
آلاف مؤلفة صف واحد لباس واحد، شعوبا وقبائل شتى، رجالا ونساءً، صوت واحد…
وفود مؤلفة من قرى الأرض كافة يدندنون نشيد السماء بالسمع والطاعة، ويدعون الناس لوحدة الصف والجماعة، من أم القرى إيلافاً بإيلاف…
هنالك البيتُ العتيق معلمُ القبلة، شطرِ المسجد الحرام، رُفع محرابا، وساترا أن يتواجه الناس في الصلاة فلا ينبغي ذلك ولا حتى التوجه في الدعاء، فإن الخطيب إذا دعا بسط الناس الأكف مؤمّنين وهو يرفع سبابته مثبتا ان الأكف ما بسطت إلا لرب السماء.
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 🔹 كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}
[البقرة : 150-151]

فالأمر بالتوجه كان للمكان لا للمكين، الذي هو ليس إلا معلمٌ للمكان محرابا وساترا للمتقابلين…
ثم بعد النفير إذا بالثج والعج عيدا يعمر القلوب ويغمرها فرحا وفرجا حتى لا يبقى بائس ولا فقير…
هو ذا نفير هذا الصف..
نفير يزيد الأرض خضرة والناس نضرة… هم يحيون الحرث والنسل… هم يخرجون الناس من خزي التعري والتعدي إلى عز الأخوة والتقوى… ومن ظلمات الهوى والهوان إلى نور الاستقامة واليقين…
هو ذا البلد الآمين أم القرى… وكأن الزمان استدار ليعود الناس أمة التقوى …
أروني صفًا سيماه كمسعاه استقامة باستقامة…
أروني صفًا بميعاد خمسا كل يوم سلكه حبًا لا خوفًا…
أروني صفًا بإيلاف ألوفًا مؤلفة من شتى البلاد تلتقي كل عام..
أروني دعوة السلم كل عيد ألوفا مؤلفة بتقوى الصلاح لا بقوة السلاح..
إنها أم القرى وحُق لها، فمن عقها واتخذ أماً سواها فقد شق الصف وأبق، وآثر الإمامة على الاستقامة، والشقاق على الشقيق، والفساد على السداد والرشاد..
هاهي القوميات تشهد…
أما علموا أن السلم والأخوة أحظى في الغيمة وأوقر في المقام، وأن الكِبر لا يوحي به إلا شيطان..
إن الصفَّ قوةٌ والإقامةَ بالاستقامةِ، وإن السيَمَ لتدلُ على القيم…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى