بحوث ودراسات

الفرد والمجتمع والثورة: خمس مقاربات سوسيولوجية في الفضاء السيبيري 2من 2

أكرم حجازي

كاتب وباحث أكاديمي
عرض مقالات الكاتب

المقاربة الخامسة: المجتمع الافتراضي

 إن عمليات التبدل والتحول المنبتة عن كل ماضي تواترت عبر الزمان والمكان وقلبت حياة الأفراد والمجتمعات رأسا على عقب. ولما كان البعض محقا في توصيف العصر الذي نعيش فإن العلامة العربي ابن خلدون هو أجدر من يوصِّف عصرنا حين يقول: “إذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة، وعالم محدث” (ابن خلدون، بدون تاريخ:31).

إذا استعرنا لغة أوجست كونت عن الكلية الاجتماعية فالمجتمع بالمحصلة هو كل الأفراد الأحياء منهم والأموات وكل إجمالي الذاكرة الاجتماعية. والكل بحسب هذا المعنى سيحشر في مبدأ الصفر – واحد وسيصير افتراضيا لا محالة وبالتالي فهو، إلى حد كبير، معرض للتلاشي الكوني. فالمجتمع الرقمي ليس مجتمعا محليا تقليديا تحدده اللغة أو الثقافة أو الأصول الإثنية أوالتضاريس الجغرافية، إنه أوسع بكثير مما يُظَن ويبدو أنه حتى اللحظة مجتمعا هلاميا مبعثرا في شتى أنحاء الأرض والفضاء السيبيري ولكنه في طريقه إلى التشكل والتقارب على نحو يجعل منه قارة سادسة مضمونها المال والتجارة والتقانة والاتصالات والاقتصاد…إلخ هذه القارة هي الحيز الافتراضي الذي ولدته الرقمية (جان كلود غيبو أ، 2000). ولأن خمس سكان الكرة الأرضية هم المعنيون فقط في المعيش الذي تفرزه سياسات العولمة (هانس بيترمارتين وهارالد شومان، 2003)، فالمجتمع/ القارة الذي يجري الحديث عنه إذن هو مجتمع الخمس هذا.

وإذا أردنا تكثيف عمليات التغير المنتظرة فلن يكون بوسعنا الحديث، في إطار الخمس، إلا عن مجتمع متخيل يسير كالإنسان بسرعة الضوء. فإذا كان الإنسان الواقعي نفسه مهددا بنوع من التلاشي فلماذا لا يكون المجتمع كذلك؟ ربما علينا التساؤل أيضا عن حاجة الإنسان الافتراضي إلى مجتمع ذو طبيعة تقليدية مكون من تشكيلات اجتماعية وثقافية وجغرافية وإنسانية؟ بل ربما علينا التساؤل عن طبيعة العلاقات الاجتماعية والأسرية المنتظر صياغتها أو ولادتها في ظل إنسان حاضر في كل زمان ومكان، بل أنه متواجد في أكثر من مكان في نفس الوقت. وكذا التساؤل عما إذا كان للموجودات الاجتماعية والثقافية والمحيط الاجتماعي عنده قيمة تذكر؟ 

فالحواسيب والبرمجة وتقنيات الخزن والإرجاع والبحث ستوفر إمكانية نقل مختلف المنجزات الحضارية على أقراص أو توفيرها على المواقع، وحتى الطبيعة بتنوعاتها وتضاريسها وظواهرها يمكن حشوها في أدمغة الحواسيب ومشتقاتها. فقد تمكنت شركة أرشفة أمريكية  www.archive.orgما بين عامي 1993-1999 من أرشفة ألف قرص إلكترونيا من سعة 15 جيجا بايت، ومع معطيات اليوم سيرتفع الحشد إلى 100 جيجا بايت (محمد اسليم أ: مرجع سابق ). وهو ما فعلته صحيفة النهار اللبنانية التي خزنت على أقراص مدمجة قرابة64 عاما من الذاكرة العربية واللبنانية وضعت في متناول الباحثين وأصحاب القرار بطريقة سهلة وسريعة (عماد بشير وآخرون، 2004: 31).

          من الصعب تصور ما تخفيه القشرة الرقمية، ولكن من المدهش انتظار ما ستكون عليه الأمور بعد بضعة سنوات أو عقدين على الأكثر إذا علمنا مثلا أن أنظمة البث التفاعلي باتت تطرق الأبواب ولوحات الاستقبال والإرسال ستعلق على الجدران وفي الساحات العامة، والبنى التحتية يجري تحويلها في الكثير من مدن العالم إلى بنى رقمية لتكتسح البيوت الرقمية المجتمع الواقعي ولتغدو أنظمة الاتصالات الراهنة عما قليل في ذمة التاريخ.

وفي واقع الأمر فنحن لا نتحدث عن تلاشي الإنسان الواقعي أو المجتمع الواقعي ليحل محلهما الافتراضي، بل نتحدث عن أنماط اجتماعية واقتصادية واستهلاكية جديدة بنفس القدر الذي نتحدث فيه عن أنماط السلوك والقيم والعادات والرموز والثقافة التي سيتمتع بها الإنسان الجديد. ونتساءل عن المحتوى الحضاري والإنساني الذي سيميز شخصية الإنسان الافتراضي؟ كما نتساءل عن الوسط الاجتماعي الذي سيعيش به ونمط العلاقات التي سينسجها؟ بل أننا نتساءل عن المفاهيم الجديدة التي سيتخذها للتعبير عن كينونته في إطار الفضاء الافتراضي كمفهومه للوجود والحياة والحضارة والدين والثقافة والعلم والمعرفة والإنسان والجماعة والأسرة والمؤسسة والبنية والآخر والعدو والصديق والمكان والزمان والعمل والبطالة…إلخ؟ ترى، ألسنا بصدد اشتقاقات جديدة للغة؟ لا ريب البتة أن التساؤلات أكثر من أن تحصى، فنحن نعيش لحظة انفجار كوني جديد (New Bingbang) من المستحيل أن نقدر على استشراف آثارها.

 لو عاينا قليلا ثنائية الدولة والمجتمع والآثار المترتبة على الثورة المعلوماتية فالتوجهات العالمية السائدة اليوم تقوم على مبدأ السوق المعولمة وتتجه في الوقت نفسه نحو إنشاء الحكومة الإلكترونية، وهما متغيران بنيويان سيؤديان إذا ما استمر العمل بهما على نفس الوتيرة من السرعة إلى غياب الدولة وعجز المجتمع عن التدخل والتأثير في سلطة السوق. ولا شك أن مثل هذه الأحداث ستكون كافية لاستحضار النبوءات الماركسية التي ترى أن الحاجة إلى الدولة ستختفي كلما اقتربت المجتمعات الاشتراكية من آخر مراحل تطورها، أما ليبراليا فيجري الحديث الآن عن عالم فوضوي يحكمه السوق ويقوده أصحاب المال والثروة من شتى المنابت والأصول، وهم الذين يتلاعبون بالدول والمجتمعات على حد سواء ويفرضون السياسات التي تلائم مصالحهم دون أي وازع إلا من السوق. وهو الأمر الذي أفرز ما يعرف اليوم بالعولمة. وتأسيسا على ذلك يتخوف البعض من فقدان الدول المتقدمة لرأسمالها الاجتماعي المتمثل بالرفاهية وتعدد الطبقات وأنظمة التأمينات والنقابات وسطوة المجتمع المدني بل وتعرضها إلى العنف وخطر التفكك بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية (هانس بيترمارتين وهارالد شومان، 2003).

في أواخر السبعينات من القرن العشرين كان العالم الثالث بقيادة حركة عدم الانحياز يجهد للمطالبة بديمقراطية إعلامية من خلال الاتفاق على نظام اتصال وإعلام جديد وفضاء عادل للبث على اعتبار أن العالم بفعل تطور وسائل الإعلام أصبح قرية صغيرة ولما تزل القوى الكبرى في العالم تحتكر المعلومات (مصطفى المصمودي، 1985)، وفي عصرنا الراهن وقد اختفت هذه المطالبات إلى غير رجعة يصف لنا إدوارد لوتاك أحد الاستراتيجيين الأميركيين التحولات الجارية بالقول: ” إن السرعة المروعة التي تجري بها التحولات قد غدت صدمة لشطر عظيم من السكان” (هانس بيترمارتين وهارالد شومان، 2003: 291 )، بينما لم يجد المهتمون بالبحث لدينا وعلى أبواب العصر الرقمي إلا نفس العبارة لتوصيف عالم اليوم وهو يصير “قرية صغيرة“! وكأن شيئا لم يتغير.

حتى تعريف المجتمع المعلوماتي كان موضوعا لإشكالية أثارها أحد الباحثين محدثا بعض اللبس والتوتر في الفهم من حيث “النشأة غير الطبيعية” لهذا المجتمع “المفاجأة” من خلال تبرير وجوده تارة بـ ” ردة فعل أمريكية ذات طابع عسكري على قيام الاتحاد السوفياتي/سابقا في عام 1957 بإرسال القمر الصناعي العسكريSputnik Space!!  ” (عمر بن يونس أ، 2004: 47) مما أربك الولايات المتحدة ودفعها إلى إعادة النظر في مناهجها التربوية والعلمية والتفكير ببناء قاعدة معلومات جديدة فكانت شبكة الانترنت العسكرية أولى بواكير المجتمع المعلوماتي. أو برده تارة أخرى إلى تطور علمي هو بالضرورة طبيعي حين ” أطلق العلماء فكرة وجوده مع ظهور الحوسبة“! (عمر بن يونس أ، 2004: 50).

إن الأطروحات التي تنطلق من المجتمع المعلوماتي متصورة إياه مجرد تقنية يصعب ملاحقتها وبالتالي يصعب تعريفه باعتباره مجتمعا يتشكل بصورة لا نهائية إنما تقع في فخ الحيرة التي تخلفها التقنية الرقمية ذاتها على الدوام ولن تصل إلى نتيجة البتة، ويحضرنا في هذا السياق تعليق الدكتور بطرس غالي الأمين العام السابق للأمم المتحدة حين يقول: “ إن التاريخ يشهد على أن أولئك الذين يعيشون في غمرة التحولات الثورية نادرا ما يفهمون المغزى النهائي لهذه التحولات ” (هانس بيترمارتين وهارالد شومان، 2003: 74).

ودفعا للالتباس والخوف واللغط ينبغي الإقرار ببعض الحقائق المنهجية:

  • أن المجتمع المعلوماتي بالنهاية ليس منبتا عن المجتمع الواقعي الذي يمثل حاضنة له فضلا عن أنه أحد ظواهره، وبالتالي فمهما اتسع الفضاء الافتراضي لهذا المجتمع ومهما كانت قوته وقدرته على اختزال المجتمع الواقعي سيظل أحد منتجاته ولن يقو على إزالته.
  • ·   والأهم من هذا وذاك أن الحرب النفسية والمادية الشرسة والإرهابية التي تشن على شعوب العالم الثالث وحتى على الطبقات الوسطى والفقيرة في العوالم المتقدمة ينبغي أن تشكل حوافز للعلوم الإنسانية كي تتأني في رصد مثل هذه الظواهر وطمأنة المجتمعات، فأيا تكن تطورات التقنية والثورات العلمية فإن موضوع علم الاجتماع في الكثير من نظرياته هي حكما العلاقات الاجتماعية ولا شيء غيرها.
  • ·   وهذا يعني أن  التفكير في المجتمع الرقمي ينبغي ألا ينصب على المكونات والخصائص التقنية له التي هي مختلفة قطعا عن المجتمع الواقعي بل على التفاعل الاجتماعي معه وعلى السلوكيات والمواقف والآراء التي تصاحب هذا التفاعل أو تنبثق عنه. إذ أن من البديهيات البسيطة أن المجتمع الواقعي كائن وموجود ولا يمكن إلغاءه تحت أي ظرف كان، بينما المجتمع الرقمي لا يمكن له أن يتواجد في أية كينونة من دون تفاعل الأفراد والجماعات والمؤسسات مع مناهجه ومنتجاته. وعليه فإن تطوره مرهون بمدى تفاعل المجتمع الواقعي معه وتقبله له.
  • ·   أن أي خروج “غير طبيعي“عن الحاجات البشرية أو العجز الإنساني عن مواكبة الانفجار العلمي سيعني قطعا تراجعا ليس في التقنية ولا بالتقدم العلمي بل بالتفاعل معهما، وفي ذلك يستوي الفقير والغني فردا أو دولة أو مجتمع، ولنستمع لما يقوله أومبيرتو أميللي المدير السابق لشركة فيات الإيطالية: فـ” حينما تبلغ التكاليف الاجتماعية للتكيف مع السوق العالمية حدا لا يطاق ستزدهر عقلية الانكفاء على الذات في مختلف دول العالم” (هانس بيترمارتين وهارالد شومان، 2003: 16). أما اللاهوتي الألماني الكبير كارل راهنر فيعلق على مفاعيل الرقمية وغزوات التكنولوجيا مبتعدا عنها وقانعا فيما  لديه بعبارة طريفة:] ” نوافق أن نبقى” أغبياء متنبهين” و”بلهاء حاملين البراءة” يشوبنا من دون أن ندري”جهل الفقهاء”[ (جان كلود غيبو أ، 2000).

إن الفكرة القائلة بأن فهم المجتمع المعلوماتي والكشف عن ماهيته تحتاج إلى تقنيات منهجية جديدة تلائم مكوناته وخصائصه صحيحة نسبيا، ولكن ما هو الهدف الذي نسعى إليه من هذا المنحى إن لم يكن بالمحصلة تفسير الوقائع والأحداث والظواهر الناتجة عن التفاعل البشري معه حتى لو كان في الفضاء الافتراضي؟ قد يقترح البعض القول أن “الظواهر الكامنة في المجتمع المعلوماتي، وهي لم تكشف بعد، ليست ظواهر طبيعية” (عمر بن يونس أ، 2004: 75) وبالتالي تحتاج إلى تقنيات غير مألوفة. ففي هذا السياق يطرح مثلا مسألة البنية القانونية التي يتوجب عليها التوقف عند ظواهر مجتمع المعلومات بحيث تلائم المكونات البنيوية لهذا المجتمع والسلوك البشري في الوقت الذي يكون فيه الفرد في الفضاء الافتراضي وليس الواقعي. وهذه مسألة يمكن الاستجابة لها عبر التحديث المستمر للمنظومة القانونية وتفعيل فقه القضاء محليا ودوليا وتبادل الخبرات لمواجهة الظواهر الطارئة.

وحقيقة الأمر فالظواهر الكامنة في المجتمع المعلوماتي هي ظواهر صحية حتى لو نشأت في سياق التطور ولكن ما ليس صحيا هو المراهنة على الرقمية دون أن يكون للدولة أي خطط للاستفادة منها. وهنا تغدو ظاهرة فائض الوقت في العالم الرقمي إحدى أكبر وأغرب الظواهر الإنسانية على مر التاريخ. فقد كان العالم يتعامل مع المعلومة بوصفها خدمة تقدمها المصادر وبنوك المعلومات في سبيل تنمية المجتمعات وتحقيق المزيد من التقدم العلمي والرفاهية الاجتماعية، ولكن مع ظهور الحوسبة والرقمية تحولت المعلومة منذ عام 1994 إلى سلعة ذات طبيعة استهلاكية(عمر بن يونس أ، 2004: 52)، وما كان يستغرق إنجازه شهورا أو سنينا أو عقودا بات يتحقق اليوم في بضعة ثواني أو دقائق أو أيام على الأكثر، وا كانت تستوعبه البشرية من تطور تكنولوجي في أربعين عاما باتت تتفاعل معه في أربع سنوات( باسم غدير، 2003: 39)، وهذا يعني توفيرا هائلا للوقت والجهد والمال،  والسؤال هو: كيف سيقع التصرف بفائض الزمن الذي بات يمثل سلعة ذات رأسمال مادي وذو قيمة هائلة؟ ففي الدول المتقدمة وبعض دول العالم الثالث كالبرازيل وماليزيا والهند يجري استثمار الزمن الفائض في تضخم واضح للثروة وسباق علمي مذهل. فهل هذا هو الحال عند العرب؟ من المؤكد أن الجواب بلا خاصة إذا عرفنا أن حجم مجمل سوق المعلوماتية العربية حسب أرقام عام 2001 يتوقف عند  نحو ملياري دولار، منها 400 مليون دولار للبرامج، وهي سوق صغيرة إذا قارناها بالسوق الهولندية مثلا والتي تفوقها بأربعة أضعاف (ثورة الديجيتال  www.annabaa.org).

مكانة العرب في الفضاء السيبيري

يكثر العالم العربي الحديث عن نقطتين أساسيتين في هذا السياق عن سد الفجوة الرقمية وإنشاء الحكومة الالكترونية. ولو نجح العرب مثلا في مسعى الحكومة فسيعني ذلك انقلابا تاما للصورة التقليدية لاسيما وأن الدولة في المجتمعات العربية متمركزة في كل ناحية من نواحي المجتمع التقليدي. ففيما خلا بعض الإجراءات التي تستوجب الحضور فالمؤسسات الإدارية ستغدو خالية من المتعاملين، وكلما توسعت الخدمات المقدمة للمواطن من الحكومة الإلكترونية كلما تلاشت الحاجة إلى جيوش الموظفين وكلما أمكن السيطرة على الفساد الإداري والمالي. ولكن ما هي المؤشرات المتاحة لتقييم ولو نسبي لحجم العالم الرقمي في البلدان العربية حتى يمكن التحقق من جدوى إقامتها إن كان ذلك ممكنا؟

 فالتقرير الذي نشرته لجنة الخبراء في منظمة (اليونسكو) عام 2000  يشير إلى أن  حجم الانترنت يبلغ 1.5 مليار صفحة تتزايد بمعدل 2 مليون صفحة يومياً، أما جمهور الشبكة الدولية فيقدر بحوالي 300 مليون مستعمل مع زيادة يومية تبلغ 150 ألف يومياً، وتصل الشبكة بين 220 مليون جهاز، يضاف إليهم يومياً 200 ألف جهاز، ويخضع تدبير تلك الأجهزة إلى أمور عدة من ضمنها الاقتصاد الإلكتروني الذي يتوقع أن يصل حجمه إلى 5 تريليون دولار خلال الأعوام الخمسة المقبلة، لكن 5% فقط من البشر يحوزون جل تلك الأرقام، إن لم نقل كلها، فلا يصل إلى البقية الباقية من البشرية إلا الفتات وتأتي هذه النتيجة المعلوماتية من البلاد الصناعية الأكثر غنى وثراء (ثورة الديجيتال: مرجع سابق).

هذه الأرقام تمثل لحظة تأمل لما يشيع في الكثير من الكتابات العربية حول مصطلح الثقافة الرقمية الذي يروج له حتى رسميون ليدل على مدى استخدام السكان لوسائل وأدوات التكنولوجيا الرقمية وأنظمة الاتصال، وينتهي الأمر إلى الإقرار بوجود فجوة رقمية ينبغي سدها من خلال تعميم استخدام التكنولوجيا الرقمية لتكون بمتناول أوسع الفئآت الاجتماعية. أما محتوى الفجوة فيجري التعرف عليه من بعض الأرقام المتداولة، مع وجوب الحذر في التعامل معها، والتي تقدر أن مستخدمي الإنترنت في الدول العربية لا يتجاوز 3.5 مليون شخص من أصل 275 مليون مواطن عربي (الفجوة الرقمية www.c4arab.com ). وهي نسبة تعادل فقط  0.6% من إجمالي عدد السكان أبرزها موزعة على النحو التالي: الإمارات العربية المتحدة بنسبة 10.2%، تليها لبنان 8%  والكويت 5.5% و الأردن 2% وتأتي المملكة العربية السعودية و دولة مصر بنسبة 0.8% (ثورة المعلومات… www.c4arab.com ).

 باختصار فقد جرى تعريف الثقافة الرقمية بمنتجاتها المادية ومدى انتشارها في المجتمع في حين تفتقد الكثير من الدول لإمكانيات التعامل معها. فرغم أن المؤشرات لا تعد ولا تحصى في هذا السياق إلا أن ما يثير الاستغراب فعلا هي الكيفية التي تفكر بها الدول العربية بإنشاء حكومات إلكترونية ونسب الأمية في القراءة والكتابة عند الكثير من مواطنيها يزيد عن نصف عدد السكان؟ هذا ناهيك عن التراجع الكبير في اللغة العربية قراءة وكتابة حتى لدى الطلبة الجامعيين؟ فإنْ لم يكن المواطنون هم المدعوون للتعامل مع الحكومة الإلكترونية فمن هي إذن الشرائح المعنية؟ ولأية غاية وجدوى تقام مثل هذه الحكومات إنْ لم يكن أفراد المجتمع مؤهلين للتعامل معها والاستفادة من خدماتها؟

أما على صعيد البحث العلمي فسنكتفي بما أورده تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة. إذ يكشف التقرير ببلاهة عن حجم الإنفاق الحكومي العربي على البحث العلمي دون أن يتحقق من اتجاهات الإنفاق وفعاليته. ومع ذلك فبالمقارنة مع إسرائيل التي تنفق 2.4% من ناتجها القومي السنوي تنفق الدول العربية التي أمكن الحصول على أرقام معلنة لديها مثل الإمارات: 0.6% والكويت: 0.2% والأردن: 0.3% وتونس: 0.3% وسورية: 0.2%  ومصر: 0.2% (تقرير التنمية البشرية،2001 ).

وفي قطاع الاتصالات فإن عدد مشتركي الهاتف في الدول العربية بلغ 69 مشتركاً لكل ألف شخص عام 1999، وكان مستقبلو صفحات الإنترنت 0.4 لكل 1000 شخص عام 2000 وهي نسبة تقل عن 20% من معدلها في الدول النامية وتساوي 250 /1 من معدل الدول المتقدمة والغنية، ويجب الأخذ بالاعتبار هنا مدى فاعلية استخدام تقنيات الاتصالات وإسهامها في التنمية والتعليم (تقرير التنمية البشرية،2001 ). وثمة ما يدعو إلى الصدمة إذا ما علمنا أن حجم الهواتف النقالة المستخدمة في اليابان مثلا يفوق حجم مثيلاتها في كل أفريقيا، أو أن عدد الخطوط العاملة في ضاحية مانهاتن في نيويورك يساوي ما لدى دولة عربية مثل موريتانيا بكاملها (غسان سنو، 2004)، وأن المواطن في دول عربية يدفع قرابة 12$ شهريا رسوم وضرائب بدون أي استخدام للهاتف.

وفيما يتصل بتأهيل الإطارات المتخصصة فثمة حديث عن هؤلاء في بعض البلدان العربية. وفي هذا السياق يشار إلى مصر التي تقدم إلى السوق العربية نحو 16 ألف مبرمج  و6 آلاف آخرين إلى دول غربية، وتخرج جامعاتها وكلياتها 5 آلاف مبرمج في العام الواحد، ويتجه هؤلاء إلى سوق يقدر حجمها الحالي بحوالي 70 مليون دولار، وهو حجم قطاع البرامج وحدها، ويبلغ حجم سوق المعلوماتية الكلي نحو 450 مليون دولار. وفي فلسطين تعمل 150 شركة في المعلوماتية وتشغّل نحو 1000 خبير تقني، ويصل حجم استثماراتها في البرمجيات إلى 20 مليون دولار. ويميل الأردن إلى الاعتماد على توافر الأيدي الحسنة التدريب، وفيه ما يقارب 9000 مبرمج يعمل ثلثهم في القطاع الخاص، ويصل حجم سوق المعلوماتية الإجمالي إلى 180 مليون دولار. ويكاد لبنان أن يشكل حالة خاصة نظراً لقوة دخول المعلوماتية إلى الحياة اليومية، وفيه 250 شركة تعمل على قطاع البرامج، وتشغل ثلاثة آلاف خبير تقني يعطون دخلاً يقدر بحوالي 150 مليون دولار، وتتجدد الخبرة العلمية عبر 1800 خريج في المعلوماتية كل عام، يذهب كثير منهم للعمل في الجوار العربي، أو في الدول الغربية (ثورة الديجيتال: مرجع سابق).

بيد أن هؤلاء يتوجهون أصلا إلى السوق، في حين تحتاج الحكومة الإلكترونية إلى بنية تحتية هائلة بل إلى إعادة نظر في التعليم والتنمية والمفاهيم والاستراتيجيات على نحو غير مسبوق، إذ أن غلاء الأسعار في استعمالات وسائل الاتصال والتكنولوجيا الرقمية (عبد العزيز الشمري، www.alwatan.com) (3) وفرض القيود القانونية على انتشارها اجتماعيا لا يفيد البتة في التحول نحو الاستثمار فيها ولا في خدمة التنمية ولا في تحسين حياة المواطن إن لم يكن العكس هو الحاصل زيادة في تكاليف الحياة الاجتماعية رغم تصاعد مؤشرات الفقر وتدني مستوى الدخول في غالبية الدول العربية. وفيما يبدو ابتزازا للمواطن هدفه تحقيق أقصى ما يمكن من الأرباح فقد أدخلت علوم الحوسبة إلى الغالبية الساحقة من الجامعات العربية والمعاهد والكليات العليا والمتوسطة وفرضت بعضها معدلات عالية لا تقل عن 95% للراغبين في دراسة العلوم الرقمية(عبد العزيز الشمري: مرجع سابق) فضلا عن أسعار بعضها يفوق ما تشترطه كليات الطب والهندسة على طلابها من رسوم. فكيف يمكن توفير الأيدي الخبيرة الكافية لتشغيل هذه الحكومة؟

وحتى اللحظة لا ندري كيف تقبل العالم العربي دعوات بيل غيتس صاحب الثورة الرقمية الراهنة عندما زار العالم العربي ودعا قادته إلى الاستثمار في التعليم والصحة إذا أرادت هذه الدول اللحاق بعالم المعلومات وتحسين فرص حياتها (مصطفى أبو لبدة: 8/2/2004) للمرة الأولى في تاريخها.

الحواشي

1- مع الإشارة إلى أن للكاتب مؤلف بعنوان “رواية الواقعية الرقمية/الرواية  في العصر الرقمي” ويتحدث فصلها الثاني عن “الإنسان الافتراضي”، وقد نشرت صحيفة الرأي الأردنية الرواية أو أجزاء منها فيما ينشرها بالاتفاق مع المؤلف موقع:http://www.middle-east-online.com  .

2-  وفي مقالة أخرى له على موقعه بعنوان:”المشهد العربي في الانترنت” أرجع فيها مفهوم: “النص المتشعب التخييلي“، إلى جنس أدبي استحدثه مبدعون روائيون في الولايات  المتحدة الأمريكية مباشرة بعد صياغة تد نلسون لمفهوم “النص المتشعب“، أولهم ميكائيل جويس بروايته Afternoon التي صارت الآن من كلاسيكيات هذا الجنس الروائي.

3-  إن نسبة ما يدفعه المواطن الأمريكي من دخله الشهري لقاء استهلاكه للإنترنت بمعدل3 – 4 ساعات يوميا يبلغ 20$  مقابل 60$ يدفعها المواطن العربي، وهو مبلغ باهظ بالنظر إلى الفارق الكبير في مستوى الدخل الذي يميل لصالح المواطن الأمريكي وبالنظر إلى ما يوازي حجم راتب أحد الموظفين في بعض الدول العربية.

قائمة المصادر

  • القرآن الكريم- سورة النمل، الآيات: {38} ،{39} ،{40}.

أولا: الكتب

  1. باسم غدير غدير (2003 )، العالم الرقمي وآلية تحليل البيانات: دمشق، دار الرضا للنشر.
  2. بيار أنصار(1992ترجمة نخلة فريفر العلوم الاجتماعية المعاصرة: بيروت، المركز الثقافي العربي.
  3. حنا جريس وآخرون(2004) مستقبل الثورة الرقمية:العرب والتحدي القادم (الهيبر تكست: عصر الكلمة الإلكترونية)، كتاب العربي55، سلسلة فصلية تصدرها مجلة العربي الكويتية، الكويت: 15 كانون أول- يناير.
  4. 4.      تقرير التنمية البشرية (2001): ” توظيف التقنية لخدمة التنمية البشرية“، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي undp.
  5. سعد الدين إبراهيم وآخرون (1982) ثورة يوليو وإعادة تفسير التاريخ: مصر والعروبة وثورة يوليو: بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية.ط1.
  6. عبد الرحمن ابن خلدون(بدون تاريخ)، مقدمة ابن خلدون: القاهرة: دارالشعب، نسخة محققة.
  7. عبد الوهاب الكيالي  مؤسس وماجد نعمة، مدير تحرير(1986) موسوعة السياسة (هجائية): بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، سبعة أجزاء، وما زالت مستمرة في التنقيح ومواكبة الأحداث، الجزء الأول. ط1.
  8. عماد بشير(2004) مستقبل الثورة الرقمية:(الصحافة العربية اليومية في العصر الرقمي): مرجع سابق.
  9. عمر محمد بن يونس- أ (2003) المجتمع المعلوماتي والحكومة الإلكترونية، مقدمة إلى العالم الافتراضي: الإسكندرية: دار الفكر الجامعي.
  10. عمر محمد بن يونس- ب (2004) مشكلة قواعد البيانات: الإسكندرية: دار الفكر الجامعي ط2.
  11. 11.                         غسان سنو (12،13 /1/2004) البنية التحتية الضعيفة عائق أمام الإنترنت: ندوة مجتمع المعلومات بين المفهوم والتطبيق: الكويت: معهد الكويت للأبحاث العلمية.
  12. هانس بيتر مارتين وهارالد شومان(آب2003) فخ العولمة: الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، شهرية عالم المعرفة / 295، ط2.
  13. مصطفى المصمودي (1985) النظام الإعلامي الجديد: الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، شهرية عالم المعرفة.
  14. موسى الخلف(تموز2003) العصر الجينومي، استراتيجيات المستقبل البشري: الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، شهرية عالم المعرفة.
  15. نبيل علي(2004) مستقبل الثورة الرقمية: (عنف المعلومات… وإرهابها): مرجع سابق.

ثانيا:  صحف ومواقع الإنترنت

  1. 16.                         أحمد مغربي (صحيفة الحياة اللندنية 10/11/2003): التراكم المعلوماتي عالمياً…كم يساهم العرب فيه؟ نقلا عن غرافيك: ” التراكم المعلوماتي على الصعيد العالمي”.
  2. 17.                         ثورة(الديجيتال) والفجوة الرقمية: متوفرة على الشبكة الدولية- إنترنت: موقع شبكة النبأ المعلوماتية www.annabaa.org.
  3. 18.                         جان كلود غيبو أ (صحيفة لوموند ديبلوماتيك تشرين الثاني/نوفمبر2000): هل الإنسان على طريق الزوال؟: النسخة العربية.
  4. جان كلود غيبو ب (صحيفة النهار البيروتية 22 /1/2003): مقابلة أجرتها صباح زوين.
  5. عبد العزيز الشمري (تعطل بدء تطبيق الحكومة الإلكترونية): متوفر على الشبكة الدولية– الإنترنت: http://www.alwatan.com.
  6. فرانسيس فوكوياما، (مجلة نيوزويك 25 ديسمبر2001):“هدفهم العالم المعاصر”، الطبعة العربية/ عدد81.
  7. محمد اسليم (المشهد العربي في الانترنت): متوفرة على موقع المؤلف في الشبكة الدولية- إنترنت: rhttp://aslimnet.free.f.
  8. محمد اسليم (مقدمات العصر الرقمي): مقالة وعنوان لكتاب قيد الإنجاز متوفرة على موقع المؤلف في الشبكة الدولية- إنترنت: نفس الموقع أعلاه.
  9. محمد سناجلة (منْ هو الانسان الافتراضي؟): متوفرة على الشبكة الدولية- إنترنت: http://www.al-mashreq.org “.
  10. مصطفى أبو لبدة (صحيفة الرأي الأردنية 8/2/2004): بيل غيتس لديه«خطة طريق» التنمية: متوفر على الشبكة الدولية- إنترنت:  http://www.alrai.batelco.jo.
  11. الموسوعة العربية للكومبيوتر والإنترنت (ثورة المعلومات وأسباب تأخرها في الدول العربية): متوفرة على موقع الموسوعة في الشبكة الدولية www.c4arab.com.
  12. الموسوعة العربية للكومبيوتر والإنترنت (الفجوة الرقمية): نفس الموقع أعلاه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى