دين ودنيا

معوقات دعوة نوح (عليه السلام) خلالَ ألفيةٍ من العمل المتواصل

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

تحدث القرآن الكريم عن سيرة قوم نوح – عليه السلام – وأبرز أمراضهم وآفاتهم وصفاتهم، كما تحدث عن المعوقات التي منعتهم للاستجابة لدعوة التوحيد وإفراد العبادة لله عز وجل التي نادى بها نوح عليه السلام، ومن أهم المعوقات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم:

  1. المعوّق الأول: الكِبر

– معنى الكِبر: أكثر تعريف جامع له في قوله ﷺ: “الكِبر بطر الحق وغمط الناس” ، وغمط الناس هو الازدراء بهم واحتقارهم، وهو خلق باطن تصدر عنه أعمال هي ثمرته، فيظهر على الجوارح، وذلك الخلق هو رؤية النفس على المتكبر عليه، يعني يرى نفسه فوق غيره في صفات الكمال، فعند ذلك يكون متكبراً.

ويظهر الكبر في قوم نوح في آيات عديدة من قصته منها: ﴿ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: 63].  وحينما جهر في دعوتهم قالوا له: ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ﴾ [الشعراء: 111]. وقال: ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 31].

وجاء التصريح في سورة نوح عليه السلام بمنتهى الوضح ﴿ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾ [نوح: 7]، دلالة على رسوخ هذه الصفة القبيحة فيهم، وهذا الاستكبار تبرز من ثناياه ملامح الطفولة البشرية العنيدة، فيحاولوا كل جهدهم إغلاق آذانهم حتى لا يتسرب إليها صوت الحق بتاتاً، وهي صورة غليظة للإصرار والعناد، كما أنها صورة بدائية لأطفال البشرية الكبار.

وهذا الاستكبار دليل على وجود الحجاب الكثيف، والغطرسة النفسية عن سماع دعوة الحق، وتلك مبالغة تتفق مع أوضاعهم، فإنهم إذا جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم مع ذلك صار المانع من السماع أقوى، وكما قيل: من شر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم، وقبول الحق والانقياد له، وقوم نوح عليه السلام فعلوا ذلك كله للعلة الكامنة في نفوسهم، فهم “قوم نوح” استكبروا على ما جاء به نوح عليه السلام من الدعوة إلى الله تعالى، من حيث تعزّز النفس وترفّعها عن الانقياد، وهم يظنون أنهم محقون في ذلك، وتارة يمتنعون مع المعرفة، ولكن لا تطاوعهم أنفسهم للانقياد للحق والتواضع للرسول الكريم.

وقال الله عز وجل في كتابه: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ﴾ [النحل: 23]، وقال: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ﴾ [الإسراء: 37]. ووردت أحاديث كثيرة في ذم الكبر منها: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر”.

  • المعوّق الثاني: العناد:

العناد من صور الكبر والاستكبار، والمعاندون: هم الذين يتحاملون على الدعوة الدعاة، ويتهمونهم، ويسيئون بهم الظن، ويتصدّون لهم ولما يدعونهم إليه من حق.

وجاءت صيغة “عنيد” في القرآن الكريم أربع مرات، كلها في سياق الذم- كما يلي – مع ملاحظة أنه لم يرد من مشتقاتها غيرها:

– قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ [هود: 59].

– وقال تعالى: ﴿ وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ [إبراهيم: 15].

– وقال تعالى: ﴿ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ [ق: 24].

– وقال تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا ﴾ [المدثر: 16].

وقد اشتهر قوم نوح بالعناد، وكان من معوقات عدم الاستجابة لدعوة نوح عليه السلام، فلم يزدهم دعاء نوح لهم إلا الابتعاد والفرار من الدعوة ومضمونها ﴿ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ﴾ [نوح: 6].

فالعناد والإصرار، هما صفتان من أظلم قلبه وعقله عن النور الإلهي، فظن أن النور الباهر قد يذهب بصره؛ لأنه ألف العيش في مستنقعات الرذيلة وفي دياجير الظلمة، كالخفافيش، فنشأت من ظلمة بصره ظلمة بصرية، التي لا يعود بعدها قادراً على الانتفاع بالوحي الإلهي، وهذا ما حدث لقوم نوح عليه السلام فأساؤوا الظن به وبنواياه عناداً واستكباراً، فمنعهم العناد من الاستفادة من النور والهدى الذي جاء به من عند الله عز وجل.

  • المعوّق الثالث: التقليد الأعمى:

إنَّ تقليد الآباء والجمود على العادات، كان – في كثير من الأقوام – سبباً في وقوفهم أمام دعوات الرسل والأنبياء عليهم السلام، ويُلحظ أن معظم الآيات التي تحدثت عن اتباع الآباء جاءت في معرض الذم، وإن كنا لا نعدم موضع قد زكّت اتباعهم القائم على البرهان الدليل:كما ورد على لسان يوسف عليه السلام: ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [يوسف: 38].

وتقليد الآباء والتعصب لهم بدأ في مرحلة مبكرة من تاريخ البشرية من خلال قوم نوح عليه السلام الذين ركبوا متن الغواية، فساروا خلف آبائهم الأولين دون تدبر وتمحيص، فاتجهوا إلى أشد أنواع التقليد عماً وجهالة، وهو التقليد المتجه إلى العقيدة، والعبادة.

ويظهر هذا الدّاء الوبيل عند قوم نوح عليه السلام في قوله تعالى: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا﴾ [نوح: 21].

فاتبعوا أغنياءهم ورؤساءهم الذين أبطرتهم الأموال والأولاد، فهكلوا وخسروا سعادة الدارين، فصاروا أسوة لهم في الخسارة، والمقصود أنهم استمروا على عصيانهم لنوح عليه السلام، واتباعهم لذوي الجاه والمال، لا أنهم أحدثوا عصياناً جديداً، ولا اتباعاً جديداً، وفي ذلك إشارة إلى أن الرعاع من قوم نوح عليه السلام مؤاخذون بعصيانهم، وليس لهم عذر في أنهم تابعون لسادتهم، فما الإيمان إلا تحرير للنفس والعقل.

كما أن قوم نوح عليه السلام لم يهتدوا إلى معرفة الحق من الباطل، والصدق من الكذب بأنفسهم، بل رجعوا إلى الآباء، شأنهم شأن الضعيف الذي لا يثق بنفسه، ويعيش على حساب غيره، فإذا جاء الدليل وأحاط به البرهان، ولزمته الحجة رجع إلى الآباء يتمسح بهم، وإلى الأولين يحتكم إليهم، فكان الرجل من قوم نوح عليه السلام إذا بلغ له ولد وعَقلَ الكلام، وصاه فيما بينه وبينه ألا يؤمن بنوح ما عاش أبداً.

إنه مشهد بائس لاستعباد الواقع المألوف للقلوب والعقول، هذا الاستعباد الذي يسلب الإنسان خصائص الإنسان الأصيلة: حرية التدبر والنظر، وحرية التفكير والاعتقاد، ويدعه عبداً للعادة والتقليد، وعبداً للعرف والمألوف، وعبدا لما تفرضه عليه أهواؤه وأهواء العبيد من أمثاله، ويغلق عليه كل باب للمعرفة وكل نافذة للنور، وهكذا استعجل القوم العذاب فراراً من مواجهة الحق، بل فراراً من تدبر تفاهة الباطل الذي هم له عُبَّد.

ولقد جهد نوح وسعه في صرف قلوب قومه عن التعلق بموروث الآباء، ونبه على أن السبق في الزمان ليس آية من آيات العرفان، وإنما للسابق واللاحق في التمييز والفطرة سيّان، فأطلق بهذا سلطان العقل من كل ما يُقيّده، وخلصه من كل تقليد كان استعبده، ورد إلى مملكته فيه بحكمه وحكمته مع الخضوع في ذلك لله تعالى وحده والوقوف عند شريعته.

إنَّ التقليد الأعمى خطر داهم، أصاب البشرية بالويلات لا على مستوى العقيدة والعبادة فقط، بل على جميع المستويات، وما يشهده العالم الإسلامي اليوم من وضع بائس، ومن تبعية قاتلة وتقليد شامل يؤكد خطر هذا الجرثوم وآثاره المدمرة، فليس تقليد اليوم تقليد آحاد أو عشرات، أفراد أو جماعات، وإنما تقليد وتبعية دول كاملة بقضها وقضيضها، لدول قوية مستعمرة أو مستغرِبة حتى اختلط الحابل بالنابل، وأمسى المسلمون في حيص وبيص تبعية أخلاقية واجتماعية وسياسية واقتصادية في كل شيء، حتى دخلنا وراءهم جُحر الضب الكريه، حذو القذة بالقذة، وصدق فينا قول رسول الله ﷺ:”لتتبعن سُنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه”

ومن هنا أزرى القرآن بالتقليد والمقلدين في الباطل، وحقّر من شأنهم فقال الله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ* وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 170- 171].

“قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا” فأصروا على اتباع ما وجدوا عليه آباءهم عصبية، وكيف يؤثرون العرف الموروث على هدى الله المشروع، أذلك إذا لم يكن لآبائهم عقل ينضبط بتوحيد الله، ولا هدي مستقيم بتنزيل الله.

وازدراء لشأنهم وتحقيراً من أمرهم فوصفهم في تقليدهم لآبائهم ورؤسائهم بالراعي للبهائم السائمة ينعق ويصيح بها في سوقها إلى المرعى، ودعوتها إلى الماء، وزجرها عن الحمى، فتجيب دعوته وتنزجر بزجره بما ألفت من نعاقه بالتكرار، شبه حالهم بحال الغنم مع الراعي يدعوها فتقبل، ويزجرها فتنزجر، وهي لا تعقل مما يقول شيئاً، ولا تفهم له معنى، وإنما تسمع أصواتاً تُقبل لبعضها، وتُدبر للآخر بالتعويد، ولا تعقل سبباً للإقبال والإدبار.

فما أعظم التقليد – في الباطل- والقول المتقبل بغير برهان، وما أعظم كيد الشيطان للمقلّدين حين استدرجهم إلى أن قلّدوا  آباءهم في عبادة التماثيل، وعفّروا لها جباههم، وهم معتقدون أنهم على شيء، وجادّون في نصرة مذهبهم، ومجادلون لأهل الحق عن باطلهم، وكفى أهل التقليد سُبّة أن عبد الأصنام منهم.

  • المعوّق الرابع: الوثنية:

الوثن: واحد الأوثان، وهو حجارة كانت تعبد من دون الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا﴾ [العنكبوت: 25]، والوثنية: هي مذهب عبدة الأوثان. وجاء ذكر الأوثان ذمَّاً لها في ثلاثة مواطن من القرآن الكريم، وفي سياقين:

الأول: الأمر باجتنابها موصوفة بالرجس مقرونة بقول الزور، وفيه إشارة لا تخفى في الحط من شأنها، والتقبيح من أمرها: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ [الحج: 30].

الثاني: الذم لها وعدم نفعها البتة لا في الدنيا ولا في الآخرة: ﴿ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا﴾ [العنكبوت: 17]. ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا﴾ [العنكبوت: 25].

واللافت للنظر أن كلا الموضعين الأخيرين وردا في سورة العنكبوت التي شبهت عبادتهم للأصنام من دون الله ببيت العنكبوت لا يغني عنها في حرّ، ولا في برد، ولا في مطر، ولا أذى.

قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 41]، أي: وإن أضعف البيوت لبيت العنكبوت لتفاهته وحقارته، لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم ما عبدوهم.

وتظهر وثنية قوم نوح في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [نوح: 23]، فكان قوم نوح هم أول من عبد الأصنام في الأرض، وقد بينت كيف بدأ هذا الشرك الكبير في صفحات سابقة.

وتجدر الإشارة أن الأصنام المذكورة في الآية السابقة هي أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم، فخصوها بالذكر في قلوب العامة المضللين للحيمة والاعتزاز، وهي أكبر آلهتهم التي ظلت تعبد في الجاهلية بعدهم إلى عهد الرسالة المحمدية، وقد حرض الملأ من قوم نوح على تعبئة الجماهير للتمسك بعبادتها وعدم الاستجابة لدعوة نوح عليه السلام وقد أضلوا كثيراً ككل قيادة ضالة تجمع الناس حول الأصنام.

  • المعوق الخامس: الملأ:

إنَّ الحديث عن الملأ في القرآن – كما سيظهر – جاء في أكثر من سياق، وذلك لخطورة ذلك الأمر على جميع المستويات، وفي مختلف العصور؛ لأن نشوء الحضارات أو كُبوّها منوط بطبيعة وأخلاقيات القمة المؤثرة، وليست المشكلة في طغيان هؤلاء القادة فحسب، ولكن المشكلة تزداد تعقيداً عندما تجمد الأمة وتصبح قطعاناً تؤجر عقولها وطاقاتها وإمكاناتها لأولئك القادة الوهميين، والذين سيجرّونها طوعاً أو كرهاً إلى الهاوية والجحيم.

والملأ: الرؤساء والوجهاء الذين يرجع إلى قولهم. وترددت كلمة الملأ في القرآن الكريم ثلاثين مرة منها:

– مرتان في مقام التشريف حين ذكر الله الملأ الأعلى بقوله: ﴿ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [ص: 69]، وفي سورة الصافات: ﴿ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ﴾ [الصافات: 8].

– وخمس مرات على معناها الظاهري وهم كبار القوم وأصحاب الرأي والمعرفة، كقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ﴾ [يوسف: 43].

– وثلاث وعشرون مرة في مواطن الاستعلاء والكفر والتمالؤ ضد الأنبياء عليهم السلام مثل: ﴿ قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [القصص: 20] وغيرها.

وكذلك جاء وصفهم في القرآن الكريم نحو: الأحبار والرهبان، أكابر القوم، المترفين، أئمة الكفر، الملوك، المجرمين، الظالمين، شياطين الإنس.

وقد تحدثنا في الجدال الذي حدث بين الملأ ونوح عليه السلام، واتهاماتهم لنوح بأنه في ضلال مبين، وأنه بشر مثلهم، وأنه يريد أن يتفضل عليهم، وأن أتباعه من الفقراء والضعفاء، وكيف رد نوح على كل تهمة وجهت إليه.

وبيَّنت سورة نوح مكر الملأ الكبّار، وجمودهم على الوثنية، وتقاليد الآباء والتحريض على نوح، وإيذائه ومن معه من المؤمنين ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا* وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا﴾ [نوح: 22- 24].

  • أسباب عداوة الملأ للدعوة والدعاة عديدة، من أهمها:

– الكِبر: هم يتصورون أن الدعوة إلى الله تعالى وإلى طريق الحق ستُقلص نفوذهم، وتُذهب رواءهم، وربّما قضت على مكانتهم نهائياً، وهو تصور لا يكون صحيحاً، إلى إذا كانوا من الظالمين الذين يعيشون على غمط الحق، ويبنون حياتهم على هدم حياة الآخرين، وأما إذا كانوا أهل حق وعدل ومساواة فإن الدعوة إلى الله تعالى تكون أكبر حصن لهم، وأحسن أمان.

– حب الرياسة والجاه: يقول الشيخ محمد الغزالي في هذا الصدد: إننا نلحظ في أحوال الأمم المكذبة أنها لا تبحث قضايا الألوهية والبعث والاستقامة بحثاً موضوعياً تُعمل فيه ما وُهب لها من عقل، وتمنحه ما يستحق من عناية، إنها تهتم بشيء آخر يجب أن نكشفه، فإن جرثومته لا تزال تفسد الأمم حتى عصرنا الحاضر. ماذا طلب نوح من قومه؟ قال لهم: “أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون”، ثم وصف لهم الإله الذى يدعوهم إلى عبادته  ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً  لكن قوم نوح لم يفكروا في هذا الإله وعظمته وحقوقه، بل فكروا في أنفسهم ومكانتهم ومالهم وجاههم، وحسبوا أن الدعوة الجديدة ستجعل نوحاً فوقهم درجة، وتجعل قمت سبق إلى اتباعه أعلى قدراً، والغبي يرى في الذكاء تحدياً له، ويخاصم كل شيء يتوجس منه.

– الجهالة والسفاهة: الجهل: هو على ثلاثة أضراب: الأول: هو خلو النفس من العلم، وهو الأصل. والثاني: اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه. والثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل، سواء اعتقد فيه اعتقاداً صحيحاً أو فاسداً. والسّفه: خفة في البدن، واستعمل في خفّة النفس لنقصان العقل.

وهذه أهم المعوّقات التي واجهت دعوة نوح عليه السلام.

المصادر والمراجع:

  • حسن الترابي، التفسير التوحيدي، دار الساقي، بيروت، لبنان، 2004م، 1/137.
  • عباس العقاد، التفكير ضرورة إسلامية، المكتبة العصرية، بيروت. صيدا، لبنان، 2008م، ص 20.
  • علي الصلابي، نوح والطوفان العظيم، ص 223- 240.
  • محمد الغزالي، المحاور الخمسة للقرآن، دار الشروق، القاهرة، ط1 2000م، ص 108.
  • محمد رشيد رضا، تفسير المنار: تفسير القرآن الكريم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990م، 2/93- 94.
  • محمد عبده، رسالة التوحيد، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 2009م، ص 160.
  • الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، ص 100.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى