مقالات

متى يثمر الربيع العربي؟

د. عثمان محمد بخاش

باحث في الفكر الإسلامي والقضايا المعاصرة
عرض مقالات الكاتب
  1. ما المقصود بثمرة الربيع العربي؟ هل تحقيق شعار “الشعب يريد اسقاط النظام”  بتغيير {اس النظام هو الثمرة المرجوة؟ هل ادرك المنتفضون في الميادين والساحات ما معنى ودلالات اسقاط النظام؟ على الأغلب لم يدركوا ذلك..فلو ادركوا معنى الشعار لعلموا ان “النظام” لا ينحصر فقط في شخص الرئيس بل هومنظومة متكاملة من مراكز القوى التي بمجموعها تشكل النظام..وهذا ما أدركه مثلا الخميني في ايران كما ادركته الثورة البلشفية في روسيا وثورة كوبا..ففي هذه الثورات الثلاثة نجد ان المنتصرين تأكدوا من عدم الابقاء على أي سند من اركان النظام البائد، ورغم أن كل ثورة مرت في مرحلة انتقالية قبل استتباب “النظام الجديد” إلا أن مفاصل القرار كانت بيد القيادة الثورية في كل حالة. وقد حرصت هذه القيادة على خلع رجالات النظام السابق من كل مفاصل القرار في العهد الثوري الجديد…
  2. وعلى فرض صحة هذا الشعار فهل كان معروفا لدى الثوار ملامح النظام الجديد المراد ايجاده؟ الجواب أيضا بالنفي..لم يكن لدى الاخوان المسلمين  في مصر ولا السلفيين أي تصور واضح لملامح النظام الجديد، ولذا تميزت مواقفهم وممارساتهم بالتخبط والتناقض من قرار الاخوان بعدم المشاركة في مظاهرات 25 يناير الى القرار بعدم المشاركة بالانتخابات الرئاسية في مصر ثم مخالفة هذين القرارين، إلى قبولهم بعقد صفقة تسوية مع عمر سليمان بداية،قبل سقوط مبارك، ثم مع ضباط العسكر في المرحلة الانتقالية وصولا الى تعيين مدير المخابرات الحربية، ربيب البنتاغون، وزيرا للدفاع للرئيس المنتخب د محمد مرسي،بينما لم يستحي قادة السلفيين من الاصطفاف الى جانب العسكر في انقلابهم.
  3. غياب هذه “الرؤية السياسية” هو الذي جعل كثيرين، منهم د. طارق الزمر، يرون في أن إيصال الاخوان المسلمين في مصر إلى الحكم كان “فخا” يراد منه إسقاط المشروع الإسلامي بعد تشويه صورته لتنفير الناس منه وممن يطرحونه[1]. وقد تابعت بعض الندوات التي عقدها مركز حريات للدراسات السياسية في اسطنبول بمناسبة مرور عقد على ثورة يناير، وقد شارك في هذه الندوات حشد من المفكرين الإسلاميين، ومن الناشطين الذين كان لهم دور في أحداث ثورة يناير.  هذه الكلمات التي القيت كشفت بشكل واضح عن التخبط المستمر في تحديد معالم المشروع السياسي المراد تحقيقه في الواقع، ما بين دعوة البعض(د . ثروت نافع مثالا) إلى تبني النموذج الديمقراطي صراحة وبعيدا عن “النفاق وازدواجية الخطاب”[2]، حيث يتفق الاسلاميون على النموذج الديمقراطي المسمى بالدولة المدنية، ثم يخرجون إلى أنصارهم مطالبين بتحقيق المشروع الإسلامي[3]،  إلى دعوة د جاسم سلطان الحركات الإسلامية لتراجع مشروعها بحيث تصبح أكثر مرونة ومسايرة للعصر، فتصبح “جزءاً من الحل وليس جزءاً من المشكلة”، أي بإصرارها على الهوية الاسلامية و تحقيق المشروع الإسلامي (الذي أصلا لم تحدده تلك الحركات)، وصولا، في القطب الآخر، إلى مطالبة د. سامي العريان للحركات الإسلامية باتباع “المسار الثوري”، بعد أن أثبتت الأحداث عقم المسار الإصلاحي الذي يحاول تحقيق بعض الإصلاحات تحت سقف منظومة سايكس بيكو[4]، أي بما يمكن أن تسمح به الدول الغربية المتحكمة في المنطقة.
  4. كشف عقد الربيع العربي إلى الان عن نقص خطير في الرؤية السياسية لمرحلة ما بعد الثورة، أو مرحلة ما بعد إسقاط النظام. هذا النقص تسبب في تخبط السير وإحباط البعض من جدوى الثورة.والمتابع للنقاشات الدائرة يجد أنها تتخذ من المرجعية الغربية “سقفا” للمطالبات، وآخر ذلك محاولات هيئة تحرير الشام “تلميع” صورتها باستضافتها الصحفي الأمريكي مارتن سميث، وظهور القائد الجولاني بلباس مدني عصري متخليا عن العمامة والبندقية، فيما فسر بأنه مغازلة من هيئة تحرير الشام للقادة الغربيين بامكانية دمج الهيئة في مشروع الحل السياسي القادم.
  5. من يراجع مسار الثورات الكبرى التي شهدها العالم يجد أن الثورة تنطلق ليس فقط من واقع الإحساس بالمظلومية وفساد النظام السياسي المهيمن، بل أيضا تقوم الثورة على فكرة سياسية تستهدف إعادة صياغة المجتمع والدولة ليس فقط محليا بل عالميا. فالثورة الفرنسية قامت لتحطيم اركان النظام الاقطاعي المستند على تزاوج السلطة الملكية- الإقطاعية مع نفوذ الكنيسة المهيمن في الفضاء المجتمعي، و هذا مشروع سياسي يقوم على الإعلاء من شأن المواطن الفرد وحقه في تقرير مصيره عبر انتخاب سلطة سياسية تنوب عنه في الحكم والتشريع باسم الشعب، فيما عرف بنظرية العقد الاجتماعي لروسو. هذا المفهوم السياسي أدى انتشاره إلى تغيير جذري في بنية النظم الحاكمة في اوروبا؛ وبالرغم هزيمة نابليون وانهيار الثورة الفرنسية إلا أن نموذجها الفكري انتصر لاحقا بتعميم مفهوم النظام الديمقراطي القائم على تقديس (ظاهريا، بينما حقيقة هو تكريس عبودية الفرد لسلطة الدولة التي تغولت مع الوقت) الارادة الشعبية عبر صياغة الدستور الذي يضبط عمل السلطة الحاكمة والتشريعية. اما الثورة البلشفية فجاءت لتطبيق النموذج العملي للمشروع الماركسي، علما أن ماركس لم ينتهي إلى صياغة الحلول العملية لقضايا الساعة ولكن حسبه أنه قدم نقضا للمشروع الرأسمالي، ولكن أتباعه بقيادة لينين تصدوا لمهمة ترجمة مشروعه الفكري الى واقع سياسي ليس فقط في روسيا نفسها بل في العالم كله.
  6. إذن السؤال الأساس: ما هو المشروع الفكري السياسي الذي تقدمه الحركات الإسلامية في الربيع العربي؟ هل قدمت نموذجا حضاريا “ثوريا” يحمل رسالة الإسلام الى العالم؟ أم انها أجهدت نفسها، وجمهورها، في تقديم طروحات مهما تباينت إلا أنها تدور تحت سقف منظومة سايكس بيكو، فيما وصفه الدكتور سامي العريان بالمسار الإصلاحي؟
  7. لقد أصبح واضحا لكل ذي بصيرة أن الغرب الذي هدم دولة الخلافة وعطل حكم الشريعة وفرض قوانينه وشرائعه وأهمها منظومة الدولة الوطنية التي تدعي،زورا وبهتانا، الاستقلال والسيادة، بينما حكامها والطبقة السياسية المنتفعة معهم، ليسوا أكثر من “نواطير” أجراء عند “معلمهم” الغربي. وهذا ما هو متوقع من الدول الغربية أصلا التي لا تحتمل وجود مشروع حضاري منافس لهيمنتها الاستعمارية، ولو كان علماني الهوية( كالماركسية مثلا) فما بالك حين يطرح الإسلام نموذجا للبشرية…أما المستغرب فهو إصرار الحركات الإسلامية على تحصيل أكبر قدر من المصالح المرحلية تحت هذا السقف، وتحت ذرائع وتبريرات شتى. و الناظر في الحراك الشعبي في الربيع العربي يلمس إصرار حكام الغرب على حصر الجلبة والحديث ضمن مربعات سايكس بيكو…وإلا فما حاجة مصر للاقتراض من البنك الدولي والارتهان لاوامره ونواهيه، بينما هي تستطيع أن تبني أقوى اقتصاد حين تتحد مع ليبيا؟ وقل مثل ذلك عن تونس؟؟ ولكن هذا الاتحاد يعد من الخطوط الحمر التي لا تسمح به عواصم الاستعمار، وهي خطوط حمر بمعنى ان الغرب لا يمانع في سفك الدماء الزكية تحت جنازير دبابات العسكر التي داست أيضا كل نفاق الديمقراطية والانتخاب الشعبي…ثم بعد هذا كله نسمع أصوات تدعو إلى ضرورة عدم استفزاز “المجتمع الدولي” أي مجتمع يقصدون؟؟ مجتمع الوحوش الضارية  التي لن تقبل أن تسمع كلمة التوحيد مدوية ولا تطيق أن ترى شرع الله مطبقا، كما صرح بذلك أحمد طعمة  رئيس الحكومة المؤقتة في نوفمبر 2015 :” هناك نقاط اذا حصل (المجتمع الدولي) على اجابة تقنعه يمكن أن يبدأ حينها الحل..أولها ما هو شكل الدولة في سوريا المستقبل؟ بمنتهى الصراحة ايها الاخوة اذا كان شكل الدولة في سوريا هو  دولة تطبق الشريعة فبحار من الدماء سوف تجري…من سابع المستحيلات ان يقبل المجتمع الدولي بدولة في  سوريا تطبق الشريعة، مستحيل.”[5] فالمجتمع الدولي لا يقبل بدولة تطبق الشريعة، والإصرار عليها يعني ضوء أخضر من المجتمع الدولي لبشار الكيماوي بالمزيد من القتل والتدمير بكل ما يستطيعه ، ورفده بكل آلة الحرب الروسية لمساعدته في ذلك بعد أن عجزت عصابات أمريكا الإيرانية عن تحقيق المهمة.
  8. وهكذا تتضح معالم الصراع الحقيقي: ليس ضد حكام الامارات والسعودية الذين ايدوا انقلاب العسكر في مصر، ولا ضد حكام تركيا وايران الذين يراوغون لتحقيق مصالحهم القومية ضمن سقف المجتمع الدولي، بل الصراع في جوهره هو في تحطيم قيود العبودية والتبعية للاستعمار الغربي الذي ما زال ممسكا بمخانق الأمة منذ تمكن من هدم دولة الخلافة على يد مصطفى كمال في 1924 / 1342 هـ.  أو بعبارة أخرى جوهر الصراع يختصر في تحقيق معنى الخضوع والعبودية والاستسلام: إما لله خالق السموات والأرض (وهذا ما نرجوه ونعاهد الله عليه)، وإما لإرادة الدول المستعمرة (وهذا ما لن يكون ما دام فينا عرق ينبض بالإيمان بالله تعالى). فأول الخطوات ليثمر الربيع العربي تكمن في حسن تبصرنا في واقع الصراع الذي نعيشه فنحدد من هو العدو ومن هو الصديق، وأول خطوات الهزيمة والدمار هي حين نأتمن ذئب الاستعمار الغربي على غنم الأمة، فتضيع التضحيات سدى، ولكننا على ثقة ويقين بأن مصير المعركة محسوم، فالنصر لهذا الدين ولو بعد حين، ولقد سبق لأمتنا أن تعرضت لهجمات المغول والصليبيين في الوقت ذاته وتمكنت من دحرهما، كما تمكنت قبل ذلك من تحطيم القوتين المتغولتين الفارسية والرومانية، وذلك بعد أن نفضت الأمة عن كاهلها أعباء الجاهلية ولبست لبوس الإيمان والإسلام فحققت معنى الشهادة على نفسها ومن ثم على العالم.

[1]  جواب د طارق الزمر:  https://www.youtube.com/channel/UCKUa259wHZZq23n-MvdU_DA

[2] كلمة د ثروت نافع جاءت في سياق الندوة التي  عقدها مركز حريات للدراسات السياسية والاستراتيجية في اسطنبول،يوم الاثنين 15-2-2021،بعنوان( ماذا بعد عشر سنوات على ثورة يناير) https://www.facebook.com/hfpssOfficial/videos/1305646273124671/

[3]    في خطاب شعبي القاه في 13-11-2011، دعا الأمين العام لحركة «النهضة» الإسلامية حمادي الجبالي لإقامة الخلافة الراشدة السادسة، (https://al-akhbar.com/Arab/97696  )وفي وجه الضجة الاعلامية التي وقعت سارع نور الدين البحيري الناطق الرسمي باسم الحركة في حينه،  للتأكيد على” أن حركة النهضة كانت وما زالت وستبقى تناضل من أجل الدولة المدنية التي تكون فيها السيادة للشعب وحده عبر انتخابات حرة مستقلة و نزيهة و أن حركة النهضة تدافع عن النظام الجمهوري الذي يتساوى فيه كل المواطنين في الحقوق و الواجبات”  https://www.mc-doualiya.com/articles/20111117-tunisia-ennahda-double-discourse-hamadi-jbeli-revival-of-caliphate

[4]  كلمات جاسم سلطان و سامي العريان جاءت في سياق الندوة التي  عقدها مركز حريات للدراسات السياسية والاستراتيجية في اسطنبول،يوم الاثنين 11-1-2021، بعنوان( التيار الإسلامي والربيع العربي.. بعد عشر سنوات)             .https://www.facebook.com/hfpssOfficial/videos/188994712910324

[5] أحمد طعمة : من سابع المستحيلات أن يقبل ( المجتمع الدولي ) بنظام يطبق الشريعة الإسلامية في سوريا. https://youtu.be/c4eftktNfp0         

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى