مقالات

القطار و السكة

محمد علي صابوني

كاتب وباحث سياسي.
عرض مقالات الكاتب

يقول العالم الاسكتلندي ألكسندر غراهام بل (Alexander Graham Bell)‏ : “لا تمش أبداً على الطريق المرسوم لأنه يقودك حيث ذهب الآخرون” وبطبيعة الحال لا يمكننا الجزم بصحة هذا المثل بالمطلق ، بخاصة فيما يتعلق بالدول العظمى وخططها وسياساتها المرسومة لعشرات الأعوام القادمة، لكنه يمكن أن ينطبق على من يكرر الأمر ذاته الذي تورط فيه أسلافه وثبت أنهم خُدعوا وضُلّلوا دون أن يتعظ ويوفّر على نفسه عبء التجربة.
“جون كيربي” المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية “البنتاغون” قال للصحافيين في الثامن من شباط الحالي : “إن موظفي وزارة الدفاع ومقاوليها ليسوا مخولين بمدّ يد العون إلى شركة خاصة تسعى لاستغلال موارد نفطية في سوريا ولا إلى موظفي هذه الشركة أو إلى وكلائها”.
وأضاف رداً على سؤال بشأن مهمة القوات الأميركية في سوريا إن العسكريين الأميركيين المنتشرين في شمال شرق سوريا والذين يتجاوز عددهم حالياً قرابة ال 900 عسكري “هم هناك لدعم المهمة ضدّ “تنظيم داعش” في سوريا و هذا هو سبب وجودهم هناك”.
وقد تلقفت معظم وكالات الأنباء هذا التصريح لتعتبره تغيّراً جذرياً في السياسة الأميركية بعد تسلّم بايدن، بيد أن ما حصل لا يعدو كونه تلاعب أميركي بالتصريحات الإعلامية كما جرت العادة، حيث يُمكن اعتبار هذا التصريح تغييراً في اللهجة بين الإدارة الديمقراطية الجديدة وسابقتها الجمهورية أكثر منه تحولاً استراتيجياً، إذ لم يسبق أن انخرط الجيش الأميركي تحديداً في أي عملية استغلال للنفط السوري، ولا تزال الغالبية العظمى من حقول النفط في شرق سوريا وشمالها الشرقي خارج سيطرة النظام، وتقع تحت سيطرة تنظيم (ي ب ك/بي كا كا) الذي يعمل تحت أمرة وحماية الأميركيين والذي تشكل العائدات النفطية في تلك المنطقة الاستراتيجية المصدر الرئيسي لمداخيله.
أما فيما يتعلق بتخلّي الولايات المتحدة الأميركية عن الفصائل الكردية المتعاملة معها فتلك قضية أخرى لها أبعادها وشواهدها التاريخية القريبة والبعيدة، ومن الصعب فهم قرار الرئيس الأميركي السابق “دونالد ترمب” بترك الفصائل الكردية السورية التابعة لحزب العمال الكردستاني “بي كاكا” و المتحالفين مع الولايات المتحدة يواجهون العملية العسكرية التركية الحدودية في سوريا آنذاك من دون فهم أصول العلاقة الأميركية الكردية وحقيقتها، حيث تعود جذور عملية تخلي واشنطن عن الأكراد إلى سبعينيات القرن العشرين وما قبل ذلك، بحسب وثيقة سرية أعدها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق “هنري كيسنجر” الذي كان في ذلك الوقت يشغل منصب مستشار الأمن القومي للرئيس “ريتشارد نيكسون” ففي الثلاثين من يونيو/حزيران عام 1972 وصل شخصان كرديان هما “إدريس برزاني” و”محمود عثمان” إلى مقر وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “سي آي إيه” بولاية فرجينيا الأمريكية، حيث التقوا بمدير الوكالة في ذلك الوقت، وقد ناقش “برزاني” و “عثمان” حينها مع مدير “سي آي إيه” “تحولاً مذهلاً” في السياسة الأمريكية، وكان “كيسنجر” قد أوعز لهيلمز أن يعرب للرجلين عن تعاطف الولايات المتحدة مع “محنة الأكراد” وطمأنتهم باستعداده للنظر في طلباتهم للحصول على “المساعدة”، وكان الأكراد على مدار أكثر من عقد يقاتلون ضد الحكومة العراقية، وناشدوا الأمريكيين غير مرة كي يساعدوهم، أما في ذاك الاجتماع فقد أبلغ “هيلمز” الأكراد أن الولايات المتحدة سوف تساعدهم، لكن ما لم يخبرهم به هو أن واشنطن ستغير رأيها سريعاً.!
والجدير ذكره هنا وفي السياق ذاته أن “كيسنجر” قد كتب في مذكراته عام 1999 و من جملة ما ذكر أن “منطقة كردية مستقلة لن تكون قابلة للحياة”
والمتتبع للعلاقة الأميركية مع الأكراد يعي ويذكر أنه بعد دخول الجيش العراقي إلى الكويت عام  1990، حثّت الولايات المتحدة الأكراد العراقيين على التمرد ضد حكومة صدام حسين، لكي تتخلى عنهم إدارة “جورج بوش الابن” لاحقاً في أوج حاجتهم إليها.
وما يجهله الكثيرون اليوم هو أن مثل هذه “الخيانات الأمريكية” كانت متوقعة تماماً بالنظر إلى طبيعة العلاقة التي جمعت الجانبين منذ عقود، وأن لا مستقبل للأكراد سوى بالشراكة الوطنية الحقيقية مع مواطني هذه الدولة أو تلك، حالهم حال العرب وغيرهم من القوميات، وما الشعارات القومية الرنانة التي أطلقتها بعض الأحزاب أو المنظمات المؤدلجة سوى للّعب على أوتار عواطف بعض الأكراد، و الذين تخلوا عن محيطهم وبيئتهم وعوّلوا على ولائهم لجهات خارجية مهما كانت طبيعة تلك الولاءات، فلن يكون مصيرهم بأفضل حالٍ من مصير أسلافهم الذين غدر بهم من ورّطهم وباعهم الوهم بأثمان باهظة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى