تحقيقات

البضاعة الشبابية عند التنظيمات العسكرية في الغوطة الشرقية

أحمد عبد الحميد

معد تقارير

كاتب صحفي
عرض مقالات الكاتب

بدأ اشتداد عود التنظيمات العسكرية في الغوطة الشرقية، بعد انتقالها من مرحلةٍ عشوائيةٍ إلى مرحلة التنظيم العسكري والإداري، مستفيدة من قنوات الدعم المالي من الأطراف المُتَبَنية، إضافة إلى الاغتنام اللوجستي خلال اقتحامها مواقع عسكرية عدةٍ تابعة للنظام. كان ذلك عبر مجموعةٍ من المتطوعين الثائرين بدؤوا يدخلون مرحلةً أكثر تنظيمية وحيوية من خلال الانضمام إلى ألويةٍ عسكريةٍ تضم كتائب متنوعة التكتيك والمهام، إضافة إلى المشاركة في إنشاء منشآتٍ صناعيةٍ، ومؤسساتٍ إغاثيةٍ وأخرى تنموية وتعليمية، تشرف عليها مكاتب إدارية تدير ذلك كله.
وكل ذلك يحتاج إلى العنصر البشري الفاعل للانتقال من مرحلة حرب العصابات إلى مرحلة الدعوة وإعدادٍ أشبه بتنظيم يحاكي هيكلية الدولة.

بدأت قوافل الشباب تتوافد نحو التنظيمات العسكرية للعمل ضمنها يدفعها بذلك عدة أسبابٍ تتعلق بالعنصر البشري نفسه ونمط تفكيره وأسلوب حياته، وأخرى تتعلق بالتنظيمات العسكرية والاستراتيجية التي اتبعتها تلك التنظيمات بهدف تكثيف إقبال الشباب نحوها، وخاصةً إن تحدثنا عن بقعةٍ محاصرةٍ بدأت معالم الحياة فيها تتحول عبر سنوات الحصار إلى معالم ضبابيةٍ وغير مفهومة، إضافة إلى سوداوية المشهد اليومي ككل، إذ لا رائحةً فيه إلا رائحة الموت، ولا لوناً إلا لون الدم، ولا طعماً إلا طعم الفقر والفاقة.

إن تحدثنا عن البدايات نستطيع أن نقول بأن إقبال عنصر الشباب نحو التنظيمات العسكرية كان لأسباب عديدة في مقدمتها: الإيمان الديني بأن العمل ضمن العسكرة نوع من أنواع الجهاد فضلاً عن نيل الشهادة إن تحققت، وهذا مراد كثيرٍ من الشباب المؤمن بقضية الثورة وأحقية الدفاع عن الأرض والدين والعرض من نظامٍ لاتعرف قواته وميليشتاته الرحمة، خاصةً بعد تصاعد موجة الطائفية، والرغبة في الانتقام من هوية بحدِّ ذاتها وإلغاء وجودها، وعنفه المفرط تجاه الصغير والكبير، إضافة إلى توافقِ الرغبة في الثورة على نظامٍ مجرمٍ دون النظر بمنهجية الدين والاعتقاد غير المعلنة والمرئية تلك الفترة، والمشاركةِ في القضاء على الظلم وتحقيق أهداف الثورة، وكان ذلك قبل اتضاح معالم طريق كل تنظيم ورسم سياسة خاصة به، ولم ننسَ في مقابل ذلك صعود وجوهٍ دينيةٍ امتلكت الثقافة الإسلامية والفقهية، والخطاب الحماسي وحاولت تجذيرها في نفوس الشباب، واعتبرتها طريقاً سريعاً للتحكم في المشاعر وتوجيهها من خلال تصدير سلوكياتٍ جهاديةٍ تاريخيةٍ وفتاوى دينية.
من جهةٍ أخرى نرى أن الإحباطَ والتفاوت الطبقي أو الثقافي أو التعليمي أو المادي لدى كثيرٍ من الشباب في مرحلةٍ عاشوها ضمن أوساطهم المحيطة، والرغبةَ العارمةَ في التدمير، وإثبات الذات بأي طريقةٍ مهما كانت، والتمرد على الوضع الاجتماعي السابق كان سبباً حيوياً لميل الشباب نحو تلك التنظيمات العسكرية، أضف إلى ذلك أن التهميش، وخاصةً لأولئك المسحوقين اجتماعياً، وثقافياً هو سببٌ وجيهٌ للرغبة في الانتقال من هذا المنحدر إلى مراكز التأسيس، والتحكم بالمصائر، والمشاركة بها وصنع القرار بحدٍّ أدنى إن أتيح الأمر.

وبالمقابل، وبعد إطباق الحصار أكثر فأكثر، وانعدام فرص العمل، وانتشار البطالة والفقر بشكل مرعب، وتحكم التنظيمات بموارد العيش وانفرادها بمرحلة حساسة جداً بمركزية ضخ الأموال كيفما يحقق لها المصلحة وعلى الوجه التي تريد، إضافةً إلى اشتداد العمليات العسكرية وحاجتها المفرطة إلى العنصر البشري نتيجة ارتقاء العناصر، أو ازدياد عدد الجرحى دخلت التنظيمات مرحلةً جديدةً في استقطاب العناصر كان محورها الأهم الاستفادة من الدورات العسكرية الضخمة إعلاميًا، وتسويقيًّا للضغط على الداعم بذاتياتٍ إضافيةٍ لعناصر جدد بهدف استجلاب المزيد من الدعم.
وحصل الاستقطاب نتيجة حاجة العنصر الشبابي الملحة إلى المال وتأمين قوت اليوم ولو بالقدر الذي تحدده التنظيمات. وكان لها ذلك، إذ عملت ولترسيخ فكرة الاستقطاب على الترويج لمقاطع مصورةٍ وفيديوهات وبروموهات محترفةٍ نوعاً ما تُظهِر فيها الانتصارات في المعارك، ومشاهد التمرس باستخدام السلاح الخفيف والثقيل، ومشاهد الغنائم والطعام وقيادة السيارات والآليات والأرتال العسكرية، ومظاهر التفاخر بذلك، في طفرةٍ إعلاميةٍ مركّزةٍ جداً في وسائل التواصل الاجتماعي كانت موجهةً للداخل والخارج في آنٍ واحد.

مع ارتفاع وتيرة الخلافات الداخلية العسكرية فيما بين التنظيمات وانتقالها ديناميكياً إلى البيت الواحد، خاصة إذا ماعلمنا أن الأسرة الواحدة قد تضم أفرادًا موزعين على فصيلين أو أكثر.
كان الشرخ الواسع نتيجةً طبيعيةً بين أفراد الأسرة الواحدة أو البلدة الواحدة من خلال حوادث المضايقات الشخصية، إذ تعدت في مرحلةٍ ما إلى منع دخول المدنيين إلى بيوتهم، أو مالهم، أو حقولهم، أو حتى دخولهم بلدتهم بالكامل، وصولاً إلى الاعتداء الجسدي، والاعتقال، و المضايقات، أو التهديدات، أو الإجبار على النفي خارج البلدة لمجرد الولاء المضاد، أو إبداء الرأي علناً، أو الانتقاد، أو انتساب أحد من الأقارب للفصيل الآخر في الضفة الثانية.

كلُّ ذلك أدّى لانطلاق تلك الفئة _ التي عانت هذا القهر، ودفعت ضريبةً لاذنب لها بها أصلاً_ نحو الانتساب إلى التنظيمات العسكرية المضادة بهدف حماية النفس، والعائلة، والممتلكات من الاعتداء من جهة، إضافةً إلى اقتناع هذه الفئة أن التنظيمات العسكرية دخلت مرحلة إعطاء حصانةٍ لم تعد خافيةً على أحد إلى أفرادها، وخاصة قيادات الصف الأول، والثاني ومن يحيطون بهم، وإطلاقها للشباب الصغير، وتجنيدهم ضمن صفوفها وإيكال مهامٍ استفزازيةٍ خاصةٍ كان من ضمنها العمل في السجون على وجه الخصوص، لا بل تجاوز الأمر إلى اهتمامها المفرط أيضاً بهم على المستوى الإعدادي والمالي والدورات، وغسل عقولهم دينياً وخاصةً بمسألة الولاء والبراء الأعمى، مستغلةً بذلك الفهم السطحي لهم للمسائل الدينية، وتحميلهم حجماً أكبر من مستوى إدراكهم خاصة حجم الطاعة العمياء ومبدأ “اسمع وأطع”، فقيمة القوة المفرطة والضخ الإعلامي للآلة العسكرية القوية هي الجاذب الأكبر لكثيرٍ من السذج وقليلي التعليم، أو المجبورين، في الوقت الذي نرى فيه بدء ابتعاد كثيرٍ من الفئات الناضجة، إضافةً إلى الرجال ذوي الأسر كانوا أكثر وعياً وواقعيةً وأبعد عن الورديّة تجاه حوادث ومجرياتٍ كثيرة زادتها عريّاً آخر سنتين قبيل التهجير.

لم توفر التنظيمات العسكرية معتقليها في سجونها وبمختلف تهمهم من الإجبار على الانضمام ضمن صفوفهم، خشية انتقال أولئك المعتقلين مع ما يحملونه من غلٍ وحقدٍ ورغبةٍ في الثأر تجاه من اعتقلهم إلى تنظيمٍ آخر معاد؛ فنسبة ولاء هؤلاء كبيرةٌ جداً للطرف المضاد، خاصة إذا ما علمنا لجوء تلك التنظيمات إلى سلسلةٍ من الانتهاكات المخالفة لحقوق المعتقل تبدأ من الإصرار على احتجازه ضمن سجونها ورفض تقديمه إلى قضاءٍ مستقل، وانتهاءً بتصوير هؤلاء المعتقلين، وهم يعترفون باعترافاتٍ وجرائمَ متعددةٍ أدناها كانت أخلاقية، وأعلاها الاعتراف بالانتماء للتنظيم المحارَب دوليّاً “داعش” أو التخابر مع النظام وبغض النظر عن مدى صدقيّة هذه الاعترافات وإمكانية حدوثها أم لا فإن ذلك كان وسيلة ضغطٍ فاعلةٍ لكسب الولاء والإجبار على العمل معهم ضمن شروطهم ومن فمٍ ساكت، وإلا الفضيحة والعار وتنفيذ القصاص في مجتمع يؤيد حكم القصاص بهذه التهم، ويجعل منها مثار تهكمٍ وتعييرٍ مدة طويلة قد تطال أسرة المتهم كاملةً أو بلدته في المنظور البعيد.

بيع الوهم
كان للمنابر دورٌ كبيرٌ في دعوة الشباب للانتساب للفصيل الداعم لهذا المنبر، ولما للمنابر من رمزيةٍ رفيعةٍ عند من عاينوا الحصار حرصت ألسنة تلك المنابر على تسويق فكرة الأمل المنشود، ودغدغة عواطف الطاقات الشبابية، بإقامة الدين وبناء دولة العدل والمساواة ورفع الظلم وإقامة الحقوق، وتحرير الوطن برايةٍ واحدةٍ، وإعادة عهدٍ جديدٍ منتظَر بعد سعي نظام الأسد طمس هوية تلك البقعة، وقتل كلِّ ساكنٍ ومتحركٍ بها من جهة، واستثمار تلك التنظيمات فرصة رسم هوية أخرى ترسمها بألوانها، محاولة ترسيخها في نفوس المحاصرين إما لإثارة الخوف والرعب والترهيب والإقناع ببناء الدولة الجديدة وما تتطلب من جهة، وإما للترغيب وقطع الوعود والاستشراف، والإقرار أنها سلطةُ الأمر الواقع مستقبلاً المخلِّصةُ من أعتى الأنظمة إجراماً ودمويةً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى