مقالات

معامل صناعة العبيد الصُلب  (سوريا مثلًا)

مصعب الأحمد

كاتب وباحث وشاعر سوري
عرض مقالات الكاتب

مما لا خلاف عليه أن  الإنسان يولد حرًا ، فأبواه يعلمنانه، أو يتمسحانه أو يبعثنانه أو يحزبنانه أو يجيشنانه )..
شرح المفردات :
يعلمانه : أي يدخلوه مدارس الاستبداد ..
يبعثنانه : أي يضمونه لحزب البعث عقيدة وولاء ..
يحزبنانه : أي  يربونه على مبادئ الحزب وقوميته..
يجيشانه : أي يرسلونه إلى الخدمة العسكرية ..
يتمسحانه : يعلمونه أن يقبل الإهانة، ويرضى الذل ويمشي الحيط الحيط، وأن يدمن على مورفينات ومسكنات الضمير  .
وما ذاك إلا لأن هؤلاء الآباء أنفسهم عبيد ، والعبد لا ينجب حرًا .. ولا يربي حرًا .. ولا يصنع حرًا ..
كل ما في الأنظمة الاستبدادية من طاقة وجهد يصرف لصناعة العبيد ، وتنمية البشر ليكونوا (خرافًا) ..
منذ أن يفتح عينيه على الدنيا ينظر يمنى ويسرى ، فلا يرى إلا صورة الصنم، صاحب الدولة، ورئيس البلاد المفدى وصاحب الجلالة وولي العهد والفرعون الأكبر .
يدرج على قدميه، فيرى، ويسمع أهله، وأقرباءه يكررون ما يشبه أوراد الصباح والمساء، حتى فيما بينهم وفي خلواتهم ( الله يستر ، الله يفرج ، يالطيف ، امش الحيط الحيط وقول يا رب الستر ، الحيطان الها آذان ، والعين لا تقاوم المخرز ،  وحط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس … )
حتى ليخيل لهذا الطفل الغرّ أن هذه حكم، أو آيات يسمعها أولاً من أبيه، وأمه ثم يسمعها أنى ذهب وتوجه ..
ثم يكبر المسكين، فيدخل المدرسة، ويرى صورة الأسد على كل الكتب ، وفي كل مكان  ، ويردد صباح كل نهار قبل أن يفتح كتابًا، أو يخط حرفًا أذكار الصباح والمساء البعثية ..
بدأ بتحية العلم الصباحية :
يقف بانتظام كما يقف الناس للصلاة، وينظر إلى العلم بخشية وإجلال ، وويل لمن يهمس، أو يتحرك، أو يتنفس ..
وبصوت واحد يصرخون من أعماقهم : حماة الديار (أي: جيش الإجرام والخيانة والعمالة والتعفيش ) عليكم سلام !!
أبت  
أن تذل النفوس الكرام (إلا لإسرائيل وروسيا وأمريكا والغرب) ..
عرين العروبة (أي بيت الأسد )
وما هو بعرين! بل وكر ثعلب ، ومَزجَر كلب ..
إلى آخر تحية العلم …
ثم يقف العريف مقابل الأطفال فيقول :
أهدافنا ؟
فيرد الطلبة جميعًا :(وحدة ،حرية ،اشتراكية ) ولو صدقوا لأضافوا أول الكلام  (لا)
قائدنا إلى الأبد ؟
فيرد الطلبة  : (الأمين حافظ الأسد)  . ولو صدقوا لقالوا الخائن العميل  .
ثم يدخلون إلى الصفوف، ليدرسوا من كتب القومية أضعاف ما يدرسونه في كتب الديانة ..
يختار الحزب من الأطفال من ينضم لصفوفه، ويغري الأهل بالنصب، والجاه، والامتيازات ، ويلزمهم بحضور الندوات، والمحاضرات ليصطنعهم على عينه ..
يكبر هذا الطفل، وهو لا يرى إلا ما يراه هؤلاء الأساتذة الذين إن رأوا شيئا مخالفِا ، لا يستطيعون خوفًا أن ينطقوا بخلافه ..
والآباء في البيوت ، المعلمون في المدارس ، الشيوخ في المساجد ، (حتى الشيخ يلزم بالدعاء لولي الأمر بالاسم في آخر الخطبة ) يمشي وهو يتلمس رأسه.. تعمد النظام أن يفقره، ليجعل منه مسخًا مشوهًا يخشى على القوت أكثر من خشيته لله ، يعلم معظم الشيوخ أن خطبة الجمعة مسجلة والدروس والأسئلة الخاصة، والاجتماعات ، يعلم أن أي سائل، أو خادم مسجد يحتمل أن يكون عنصر أمن، أو مخبر، أو خطه حلو (يعني يكتب تقارير ) رجل دين كهذا لو اعتبرنا أنه تلقى تعليمًا نقيًا صافيًا غير مشوب بالقومية ، والمعاني والحِكَم السابق ذكرها ، هل يمكن أن يحيي أمة؟  أو يشعل جذوة؟ أو يغير واقعًا ؟ وهو المنوط به ذلك ؟
  تلك المعاني ترسخ في النفوس حتى يبلغ سن التمرد، واستكشاف الذات، وكسر المألوف والخروج عن السلطة الأبوية سن (الثامنة عشر )  .
تأتي مرحلة الخدمة العسكرية الإلزامية . 
وهي مرحلة التنظيف ، والتعقيم ، والقضاء على أي مخلفات نفسية، أو فكرية ، أو بذور خير ، أو معاني كفيلة بأن تدفعه للبحث عن الحرية، والعدالة، والأنفة  والذات  ..
تأتي هذه المرحلة لسنتين ونصف متتاليتين ، لا يعرف فيها المجند الغرّ شيئًا عن استعمال السلاح، والدفاع عن البلاد، والذود عن الحياض ، بل إذلال منظم ، وكسر مؤصل ، واستعباد مميت ، وزرع للخوف الذي يستمر معه طيلة حياته ،  مع انتهاك مفرط لكل معاني الكرامة الإنسانية، والأخلاق و(الدين) !.. ومن لا يعرف من السوريين (الجاموقة ).. ،ونأسف لعدم وجود شرح مفردات ..
ثم يأتيك الإعلام بقضه وقضيضه، ليلبس ذاك الخروف صوفًا جميلًا، ويضع في رأسه سلسلة وجرسًا .. ويرسخ في الأذهان ما عجزت عنه المدارس، والجامعات، والمساجد، والخدمة الإلزامية ..
وقد تعجب هل يعبث بالدين وهل يمكن سلخ الشاب من دينه ؟
نعم لا غرو !
في سوريا  يمنع أي مجند من ممارسة أي طقوس دينية، أو أفعال، أو أشكال شرعية ، وويل وسجن، وعذاب، وإذلال لمن يشم منه أنه يفكر أن يصلي، أو يصوم ..وهو يسمع سب الله ورسوله صباح مساء .
لا أحد في الكرة الأرضية يتفنن بشتم الله، ورسوله كالعلوية في سوريا ..
يأنف الشاب البسيط بادئ الأمر، و يستنكر، ويشجب لكن في نفسه؛ لأنه ربما يكون تربى في بيت عزّ،وكرم ، أو تنسم شيئًا من الخير والعقيدة ،وهي متوفرة في الشام بلا ريب سعى حزب البعث لاجتثاثها ، بيد أنها موجودة لا تنكر ، ومع التكرار، والتكرار تصبح هذه المعاني السامية راسخة في نفسه رسوخ أضدادها في نفس أضداده ..
(كسر الشهامة ،ونزع الكرامة ،واستمراء الإذلال ،وقبول الإهانة ، والاعتياد على الخوف و الرعب ، وتقبل الأمر  الواقع ، وإذا جن ربعك ما ينفعك عقلك ….  )
يخرج الشاب من الخدمة وقد تمت تصفيته من الشوائب ،والعوالق ، والترسبات ،وفلترته تمامًا ، ليكون صالحًا للمجتمع البعثي( مجتمع الخراف ) ، ليركض بعد ذلك لا هم له إلا العيش، و رغيف العيش ، وخوض ومعارك الحصول على اللقمة ..
لا وقت لغير ذلك، ولا هم سواه ..
وليس هذا في سوريا فحسب ..
بل في كل بلاد الاستبداد صنو الخسة بالخمسة، والنذالة بالنذالة ..
أفهمك تمامًا ، وأنت تقرأ الآن ويدور في خلدك – وهو بمكانه- ذاك السؤال الطبيعي : (كيف إذا قامت الثورات )!؟
الثورات يا بني لا مبررات لها، ولا يمكن التنبئ بوقتها ، هي أمر الله تعالى ، وسنة من سنن الكون ، طفرة جينية ، وعجيبة كونية ، لا يمكن لأحد أن يدعي أنه أشعلها أو صنعها ..
ويمكن لكثيرين أن يمهدوا لها، أو يركبوها وبسهولة ..
ولهذا لا يظنن أي درويش أنه يمكن أن يخطط لثورة، و ينفذها، أو أن يعود إلى بيته فيرتب أوراقه ،  ويحشد صفوفه ثم يرجع إلى الميدان ..
لن يكون هناك ميدان ..
من أركان الثورات- إن لم تكن تعرفها -إن قيامك بنصف ثورة سيرسلك إلى السجن، أو القبر . 
وهذا ما يفسر أنك لو نظرت الحال بعد مدة قصيرة لرأيت – ذاك العبد الظريف، والدرويش البسيط من مسوخ العلمانيين، والليبراليين ، والبعثيين ، والقومجيين ، وأشباه المتدينين ، وأغنياء القوم ، والمتنفعين والوصوليين ، والتجار ،وكثير غيرهم – ممن ثاروا، أو تورطوا بثورة ، يتمنون ! أن لو لم يخرجوا !
ولو رجع الزمان بهم للحقوا رؤوس الجبال، واعتزلوا الدنيا ولما تورطوا ..
لاعجب! يا صديقي..
بل يرجعون باللوم على من ورطهم وكلما زادت مدة الثورة تتساقط المناهج، والتربية الفاسدة، و الحقائق، والعبيد وتنكشف أوراق التوت ..
يتمنى العبد أن يَصفَع من غرر به فأبق، ويتمنى لو يرجع كل حياته عبدًا كما كان ولا زيادة ..
هذا تفسير ما تراه في طاولات المفاوضات ومجالس الهيئات ،وأحزاب الجماعات، والفصائل ، ومنصات جنيف ، وسوتشي ، وأروقة الأمم المتحدة ،  هي ليست مفاوضات للحصول على الحرية، بل للتوبة وإصلاح الأمر، والعودة إلى حضن الوطن ، أو لتحسين شروط العبودية ..
يبقى العبد عبدًا، ولو أطرته على الحرية أطرًا ..
تركيبته النفسية، والجسمية، والفكرية طيلة عشرين عام جعلته يرى باب القفص فيخشى أن يخرج منه، ويعتاد الذلّ، وألوان، ويألف الازدراء، والامتهان ..
ومن ألف شيئًا عادى ما سواه ..
يتدخل الله تعالى برحمته فيشعل جذوة الثورات، ويحركها؛ ليعلن نهاية الظالمين لأحد أمرين ..
الأمر الأول ليرحم المستضعفين ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين ، وليفرج عنهم كربًا طال واشتد ، وليل طغى وامتد ..
فإن لم يكن هؤلاء الناس ممن يستحق نصرًا، أو أهلاً لذاك الفَرَج ، يهلك سبحانه وتعالى الظالم ليقول له ولغيره( أنا الله ) أكبر منك ومن غيرك ، وليجعله عبرة لكل ظالم، والأمثلة كثيرة ..
الحل يا عزيزي؛ لنتخلص من تلك الصناعة، و نذيب الحديد بأن نعرضه لحرارة عالية جدًا، ثم نعيد تشكيله ، الحل هو غسيل الدماغ ، وهدم تلك المصانع والبيع، والمساجد (مساجد الضرار ) ومسح كل تلك الأفكار ، وإن عجزت عن هذا ، فامسح أصحابها فإن لم يكن، فبناء جيل بعيد عن كل تلك المهالك والمفازات ، وإذا أردت إصلاح العالم فسارع بانهياره ..

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى