فى مثل هذا اليوم قبل عشر سنوات ، أعلن اللواء عمر سليمان نائب رئيس جمهورية مصر العربية بعد عصر الجمعة الحادي عشر من فبراير 2011 تنحي مبارك عن منصب رئيس الجمهورية ، لتبدأ جولة جديدة بين القائم والقادم تضع أمامنا ثلاثية من الإشكاليات والتحديات .
الأولى – المطالب :
كانت الرغبة فى تنحية مبارك وعزله من منصبه من مطالب الثورة التي تطورت بسرعة خلال ثمانية عشر يوماً ، تطورت المطالب من الاعتراض على ممارسات الشرطة القمعية إلى المطالبة بعزل الرئيس ، فالمطالبة بمحاكمته و المحاكم الثورية و الدولة المدنية و و و و و مطالب لا نهاية لها ، تلك المطالب التي لم يكن لها مُنطلق إلا العاطفة والحماسة والرغبة فى التمتع ما استطعنا بالحرية التي عشنا نعيمَها ساعتئذ فى نشوة المنتصر .
إن إشكالية المطالب والرغبات التي لا تنتهي ، بل تتنامى وتتضاعف ، مع عدم وجود رؤية تُقدِرُ تَناسُبَ هذه المطالب مع القدرات والتحديات تخلق ما نسميه ” ثلاثية الشقاء المركب “ , يقول جان جاك روسو ” إنّ المُخيلة التي تُجَسِمُ لنا رغباتنا خطرة غاية الخطورة ” إميل ص 83 .
ولكن كيف كان ممكناً لنا هذا التوازن والتعقل والحكمة ؟ فى هذا التوقيت ؟ كانت المعارك طاحنة والبلايا نازلة فى أحداث متسارعة متراكبة بعضها فوق بعض – بين القائم والقادم وداخل كلاً منهما – لا تعطي عاقلاً مجالاً للتعقل ولا حكيماً فرصة للتمهل والتفكر ، كانت كل الأمور والأحكام والقرارات على كل الأصعدة من كل التيارات تسير من مُنطلق مُلاحقة الأحداث ومُواكبة التطور وإثبات الذات والوجود ، بعيداً عن توازن المطالب مع القدرات ومع التحديات .
إنّ ما تبين للجميع بلا مجال لشكٍ أو ريبة بعد عشر سنوات من التنحي ، أنه أساء عندما أطلق العنان لمخيلته لِتُجَسِمَ له رغبات ومطالب لم يكن مُؤهلاً لها حق الأهلية ولا مدركاً لتحدياتها ومخاطرها تمام الإدراك .
الثانية – القدرات :
إذا تناولنا المطالب التي تستلزم عملاً يعتمد أصلاً على القدرة فى أداء العمل وتحقيق الهدف ، فإن هذه المطالب والرغبات تُصبح أماني فارغة بل مطالب مُهلِكة إذا لم تتوفر القدرة علي تحقيقها والقيام عليها ومواجهة تحدياتها .
إن الشقاء الذي يَحياهُ الأشقياء من أمانيهم ورغباتهم التي لا تتوقف ولا يملكون قُدرات وأدوات الوصول إليها ، لا دواء له سوي تقييد المخيلة وامتلاك القدرة . وبالطبع لا نريد بهذا أن نُحطِم الأحلام أو نُقيد الرغبات ، بل نلفت النظر إلى ضرورة العمل على امتلاك القدرات والأدوات والوسائل التي تتحقق بها المطالب والرغبات .
لقد كشفت لنا الثورة المضادة على مدار عشر سنوات أن جميع رفقاء الثورة بأطيافهم المختلفة لم يكونوا يمتلكون هذه القدرة ، ولا الرؤية الشاملة للوصول لهذه المطالب المتفجرة ، وخير دليل على هذا العجز والضعف ، تعذُر تحقيق مطلب واحد ينادي به الجميع منذ يناير 2011 ، وهو وحدة الصف الثوري فى مواجهة القوي القائمة القديمة ، وهو مطلب متجدد فى الداخل والخارج حتى اليوم .
إنّ عناصر القدرة وتفصيلاتها أكثر من تُذكر أو أن يُشار إليها هنا فى مقال ، ولكن ما لا يَسعُنا تركه ، هو امتلاك الرؤية الفكرية الشاملة التي تنطلق منها مسارات المشاريع الحضارية التي ننشُدها ، فى كل المجالات والقطاعات والمؤسسات .
الثالثة- التحديات :
تُمثل التحديات الركن الثالث من أركان الشقاء فى مشاريع التغيير الكبرى ، إننا إذا تناولنا المطالب والرغبات وما يستلزمها من قدرات وإمكانات فإنه لابد ألا ننسي أن هناك آخرون فى الطرف آخر لهم رغبات مغايرة وعندهم قدرات وإمكانات أكبر أو أصغر ، ما يضعنا أمام تحديات متفجرة بقدر مطالبنا المتفجرة.
إنّ عاقلاً لا يعرف حقيقة التحدي أو المخاطر التي هو مُقدِمٌ عليها حريٌ به أن يتراجع أو على الأقل يتوقف ، فكيف به إذا كان يعرفها مخاطرها ويدرك مفاوزها .
إن التحديات التي وقف أمامها الكثير منذ عشر سنوات حتى اليوم لا تعدو كونها سطحية تبسيطية ، لما تحمله كلمة تحدي من معاني فى مثل هذه المراحل الحرجة من التغيرات الكبرى ، ما نسميه ” تحدي الكتل “ ، إن كتل التحدي فى مراحل المطالبة بتغيرات كبرى ، من عسكري لمدني ، من قمع لحرية ، من ظلم لعدالة ، من جهل لعلم …….، تظهر وتتشكل وتتحرك بين مساحات الضغط والخلخلة ، ما يستلزم مرونة وخطة ومهارة .
إن كتل التحدي تلك لم تأخذ حقها حتى اليوم من التفكيك والتحليل والبحث والدراسة ، فضلاً عن إعداد القدرات الفكرية والتخطيطية والكوادرية لمجابهتها والتصدي لها .
معادلة الفوز والخسارة فى مثل هذه المعارك الطويلة ، يحسمُها مَعقُولُ المطالب ورائيها ، حائز القدرات ومُنظمها ، مُدرك التحدي و ماهِرهُ .
التوازن المطلوب بين هذه الأضلاع الإشكالية المنتجة ل ” ثلاثية الشقاء المركب ” ، لا تمثل فقط مُقومات الفوز والمنافسة بين الأطراف ، بل تشكل معيارية التماسك والنجاح والاستمرارية داخل كل فريق من أطراف المنافسة .