دين ودنيا

آيتان في الاستشراف العملي للمستقبل

أ.د فؤاد البنا

أكاديمي ورئيس منتدى الفكر الإسلامي
عرض مقالات الكاتب

قيل بأن أفضل طريقة لاستشراف المستقبل هي أن تقوم بصناعته بنفسك. ومثل كل القيم الحضارية الحاضرة في القرآن العظيم، فإن من يتدبر النص القرآني يجد أن قيمة استشراف المستقبل تحتل مكانتها بين هداياته؛ فقد وردت آيات عديدة تحث على التفكير العملي بالمستقبل القريب والبعيد، أي تحويل الهَمّ العقلي إلى إرادة قلبية، ثم صياغته في مخطط علمي مدروس، ثم ترجمته في مشروع عملي ناجز، ومنها هاتان الآيتان:

▪️ الآية الأولى: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، فالغد يشمل كل ما هو آت بعد اليوم الذي نعيشه، ودعوة النفس للنظر في ما قدمت اليوم لغدها هي دعوة عريضة تضم مفردات كثيرة، ومما تشمله في دلالاتها الأمر بالتخطيط لكل ما ينفع في تحقيق السعادة الدنيوية والفوز الأخروي، ومراعاة ذلك في مشاريعها اليومية وأعمالها الراهنة، حتى لا يصبح ما نفعله اليوم عقبة كأداء أمام ما نود أن نكون عليه غدا.

ومن المعلوم في الرؤية الإسلامية أن الدنيا مزرعة الآخرة وأن الطريق لارتياد الفردوس الأخروي هو فردسَة الدنيا وفق التعاليم السماوية الكريمة، ثم إن التقوى التي ابتدأت بها الآية واختتمت، إنما ينصرف معناها إلى التزام الأوامر واجتناب الزواجر، وتعني هنا أن لا يجدك الله حيث نهاك من كل ما له علاقة بالإفساد في الأرض وأن لا يفقدك سبحانه حيث أمرك من كل ما له علاقة باستعمار الأرض وصناعة الحياة {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها}.
وهذا هو لبّ الدعوة لولوج أبواب المستقبل بكل اقتدار وبأفضل كفاءة ممكنة؛ وذلك نتيجة ترابط القيم الحضارية مع بعضها ضمن منظومة العبودية الشاملة لله في محراب الحياة وتضافر مخرجاتها في صناعة (خير أمة أخرجت للناس).

▪️ الآية الثانية: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}، فحتى لا يبقى استشراف المستقبل رؤية نظرية منبتّة عن الواقع أو مجرد حلم متعالٍ في المثال لكنه بعيد المنال؛ فقد أمر تعالى بأن يتم وضع بذور المستقبل في تربة الحاضر، فقال تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة…}، وجاء الأمر هنا في سياق مواجهة الأعداء الذين لن يتركوا أمتنا وشأنها حتى لو انشغلت بذاتها؛ وذلك حتى يتم استثمار سنة المدافعة ومواجهة التحديات، وذلك من أجل تعظيم الدافعية للعمل وتسريع وتيرة الحركة وتنشيط عملية البناء، وكأننا سنتعرض لهجوم مباغت في أي وقت بل وكأننا سنعيش أبدا!
وقد ذهب بعض فلاسفة الحضارة، وفي مقدمتهم أرنولد توينبي، إلى أن التحدي المناسب شرط من شروط النهوض الحضاري لأي أمة، ومن يتدبر نص الآية وسياقها سيجد أنها تتضمن دعوة غير مباشرة لتفعيل شرط التحدي الذي يمثله الخصم المنافس والعدو المحارب، بجانب دعوة الآية بوضوح لصناعة مستقبل متكامل الأركان والحلقات، ويزخر بكافة أنواع القوة المادية والمعنوية التي تجعل كفة المسلمين راجحة في التوازن الدولي.

وإذا كانت القوة المعنوية تضم كل ما يرتقي بتصورات العقل ويزكي أشواق القلب ويمنح نفخة الروح أزوادها الضرورية المتصلة بالإيمان وعالم الغيب، فإن القوة المادية تتوزع في عالم الشهادة، وهي عنوان عريض يضم تحته: القوى الاقتصادية والإعلامية والصناعية والتقنية والزراعية والسياسية والاجتماعية والعسكرية والفنية والأدبية؛ فقد استخدمت الآية كلمة {قوة} وهي كلمة نكرة وليست معرفة؛ من أجل أن تستغرق كل القوى الآنفة الذكر بل وأي قوة يمكن أن تظهر عبر المستقبل حتى قيام الساعة، ومن ثم فإن كل مفردة تسهم في صناعة الحضارة وتعديل ميزان القوة لصالح المسلمين في الحاضر والمستقبل بأي قدر وفي أي مجال، يصبح إعدادها واجب النفاذ على الأمة وجوبا كفائيا، وذلك في إطار الاستطاعة {ما استطعتم}.

لكن إطار الاستطاعة ليس جامدا؛ إذ تجعله صياغة الآية مرنا، بحيث يستوفي جهود المسلمين ويحقق مقصد إرهاب من يرفعون راية العداء لهم {ترهبون به عدو الله وعدوكم..}، ومن ثم فإن بإمكان هذه الاستطاعة أن تظل في اتساع مستمر، وذلك عبر أمرين رئيسين:
الأول: البحث العلمي المنساب من فريضة الاجتهاد بمعناه الواسع، والذي يكفل الوصول إلى ابتكارات واختراعات تخدم مصالح الناس وتدفع المفاسد عنهم.
الآخر: الدأب العملي الذي يتضمنه الجهاد بدائرته العريضة المنسابة في ساحات العبادة الكونية الحريصة على ابتغاء فضل الله في الرزق الحلال والاستمتاع بزينة الأرض وطيبات الحياة، مما أباحه الله لهم من شهوات متصلة بتكوينهم الترابي الأول.

وبجانب ذلك، ستظل استطاعة الأمة قابلة للارتفاع الدائم، ما دامت روحُ التعبد لله تستوطن المسلمين الذين يبتغون مرضاة الله بعلومهم وأعمالهم، وما داموا على وعي بالأخطار الخارجية المحدقة أو المتربصة بهم، جاعلين منها طاقة مذكيةً لسعيهم الدائب نحو إحراز مراكز السبق في مضامير التفوق الحضاري على الأعداء والخصوم والمنافسين، وحاثة لهم على البعد عن الغفلة، والحرص على استفراغ الوسع في تحصيل كل علم نافع وممارسة كل عمل بناء في سبيل احتلال نواصي الريادة والقيادة، بوصفهم منتمين لخير أمة أخرجت للناس ولكونهم يمتلكون مقومات الشهود الحضاري على إخوة الإنسانية وأشقاء الكرامة الآدمية، من أي دين أو عرق كانوا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى