مقالات

المهجرون بين بناء الذات وتحسين ظروف الحياة ..

مصعب الأحمد

كاتب وباحث وشاعر سوري
عرض مقالات الكاتب

كانت بداية الإسلام في الجزيرة العربية ، وكان شغل النبي صلى الله عليه  الشاغل هو (بناء الإنسان) وصناعة محتواه، بالعقيدة والسلوك ، أما العبادات فجاءت تباعًا وربما بعد سنوات، فلا تزيد آياتها في القرآن عن مئتي آية ، والباقي عقيدة وسلوك وتربية، وتركيز على صناعة الإنسان الصالح لعمارة الكون .
الإنسان بجوهره لا بمظهره ..
هذا (الإنسان )هو الذي فتح الفتوح وقهر أعظم امبراطوريتين آنذاك الفرس والروم .
هذا (الإنسان ) هو الذي حير الألباب وفتن الكتاب، وأعجب المستشرقين ..
لم تحظ فترة النبوة، والخلافة الراشدة بما يدل على اهتمام الخلفاء بشق الترع ، ونسج الثياب ، ومحاكات حضارة الآخرين المادية ، لم تهتم ببناء القصور ، وإعمار البيوت ، ورفاهة الناس .
قد يقال: كانوا في مشغلة عن ذلك لذا لم يفعلوه ، ونقول : وكان بوسعهم مع المشغلة فعل ذلك ..
لذا كان الناس -غالبهم – أجود ما يكون ، وأبسط ما يكون ، وأصلح ما يكون ، وأكمل ما يكون ..
ثم جاء بنو أمية ففتحوا معظم الفتوح ، وبلغوا الذروة القصوى ، والذؤابة العليا ، لم يفتح بنو العباس شيئًا ذي بال ، بل جاءوا وقد بلغت الدولة المشرق والمغرب .
جاء بنو العباس، ولهم مكارم في حفظ بيضة الدين، ولكنهم اتبعوا الشهوات ، وبنوا القصور ، وتركوا الجوهر ، وبحثوا عن المظهر ، وتشاجروا على الملك وقتل بعضهم بعضًا ، ..
وعندها بدأ الانحدار ..
وحتى أيامنا هذه ، جل تركيز الناس على القشور ، أما صناعة الإنسان الذي هو مبتدأ الأمر ومنتهاه ، إليه يرجع كل شيء  ، الذي تصلح بصلاحه الأرض وتفسد بفساده فلا ..
بنينا الدويلات، و المصانع، والجامعات، والأوقاف والزوايا، والمنظمات، وخربنا الإنسان فخرب كل شيء ..
المدارس ، الأوقاف ، الجامعات ، المعاهد ، الكليات الزوايا ، المنظمات ، كلها منوط بها صناعة الإنسان الذي لا تقوم الحضارة إلا به ..
الإنسان بالعلم، والعقيدة هو ما يخشاه الغرب الذي أفرغ كل ثقله في تدمير الأجيال، وإيقاف أي نهضة محتملة يمكن أن تقوم ، ولو اضطر أن يجمع لها مئة جيش.
يريدون شبابًا مسخًا مشوهًا ، فارغ العقيدة خالي التدين  كالخراف يسوقها أي كلب ..
عندما ترى المدارس الابتدائية، والجامعات، والمعاهد والهيئات، والمساجد، والزوايا التي يناط بها تعليم الناس قد أفُرِغ محتواها ، وعُبث بمناهجها ، واختلف الناس فيها بالأحجام إلا أنهم تساووا بالأحلام، فاعلم أنك أمام حملة صليبية هي الأشد، والأقذر، والأبلغ تدميرًا في تاريخ الأمة ومستقبلها ..
عندما ترى شباب الأمة مسلوب العقل مشتت الأفكار خاوي الانتماء ، فاسد العقيدة ، فارغ من المكارم ،ضائع في متاهات وسائل التواصل الاجتماعي متصل بكل شيء، إلا بما ينهض به حقيقة، وبأمته فاعلم أن العدو قد انتصر ووضع رجليه بماء وملح؛ ليستريح ..
عندما ترى الأحذية تباع على أجمل الرفوف ويتسابق الناس لاقتناءها، واقتناء الماركات العالمية ، والكتب تباع على الرصيف ، والثقافة والعلم لا حظ في اقتنائها ، فاعلم أنك أمام استعمار مباشر  .. 
عندما ترى ملايين الأطفال مشردين بين فلسطين، وسوريا، والعراق، واليمن وليبيا، وأفغانستان، وغيرها (كلهم من أهل السنة) وأنت تظن (ويا لسذاجتك ) أن المنظمات الأمامية، والدول الإسلامية، والجمعيات الأهلية غير قادرة على رعاية، وتعليم هؤلاء؛ لأنها في مشغلة عنهم بحفظ الحياة وتأمين استمرارها ..
وعندما ترى أن جل هؤلاء لا هم لها سوى تحسين ظروف العيش، وزيادة الرفاهيات ، فاعلم أنه أمر منظم لا لعب صبيان ..
مشكورة الجهود إن صفت النية عند البعض، لكن هناك أهم من تحسين ظروف العيش .
هل يعقل عاقل أن الأمم المتحدة عاجزة عن إنهاء أسباب هذه الحروب، والنزاعات لو أرادت ؟ إنها اليوم أقدر بألف مرة مما سبق على ذلك لكن الصراع يراد له أن يستمر، ويدمر المدمر، ويخرب الأرض، ويشتت الناس ، الحرب هي الغاية، وما تراه من بكاء، وأسف وأسمال إنسانية، فقط لشراء العبيد من نخاسة الانتخابات والصناديق ..
ماتراه الآن من أن ٦% من المهجرين من ديارهم يتلقون التعليم، وأن ٦%منه  تعليم  حقيقي، والباقي صوري، فقط فاعلم أن هذا ليس مما لا بد منه ولا صورة وقتية .
تسليط الضوء كاملًا على طريق غير معبد، وخيمة مهترئة، وطفل يلعب بالطين، وامرأة ترتجف من البرد، والتغافل عن عقيدة غير مستوية، ونفوس مهترئة، وطفل يضيع مستقبله، وامرأة أمية جاهلة سترضع الجهل للأجيال، وجيل يضيع تمامًا هو العبث بعينه . 
إن الحال الذي يراد لك، وللمعنيين بالأمر من اللاجئين أن يكافحوه، وينشغلوا بما يحسنه  هو الحياة الطبيعية التي كان يعيشها رسول الله وأصحابه ،
وما هو الا أن يعتادها الناس ويتأقلموا معها . بيد أن (اللاجئين اليوم )  يعيشون أفضل بكثير من الصحابة، والسلف، بل وحتى من هارون الرشيد !!
ما توفر لهم اليوم (مع الشدة ) كان حلمًا لأرباب ذاك الزمان الغابر، بل لا تذهب بعيدًا ، هو حلم حقيقي لكثير من الدول الفقيرة في آسيا وأفريقيا ..
لا شك أننا نتمنى جميعًا أن يعيش إخواننا أكرم حياة، وأجمل رفاهة، وأنعم ما يكون ، فأصحاب الزمان الغابر كانت هذه حياتهم، والكل متساوون فيها، وهو مبلغ حضارتهم ، لكن هؤلاء ليسوا كذلك ، فغيرهم يتقلب بالنعم، والرفاهية، وهم في الصحراء رجعوا إلى الحياة البدائية، ولكن لمَ العمار، والبناء، وإصلاح الطرق، و هم في حرب، والحرب لم تنته ؟ لمَ تنفق المليارات على خدمات الصف الثاني، وخدمات الصف الأول غير مؤمنة ؟
ما قيمة أن تبني آلاف المدارس ولايوجد مدرسون، وآلاف المساجد، ولا يوجد مصلون؟
بناء المساجد عظيم لكن بناء الساجد أعظم . بناء المشافي عظيم لكن بناء الطبيب أولى .
الحكمة الآن هي السيف الذي ينهي معاناة الناس، ويعيدهم إلى قراهم وبيوتهم ..
إنهاء الحرب الآن هو الأصل أما تخفيف المعاناة، فهو فرع طارئ، وعارض زائل ..
بناء المدن الآن يعني إقرارًا دوليًا أن هؤلاء لن يرجعوا إلى بلادهم ..
هكذا بنيت مخيمات الفلسطينيين في سوريا من مخيم فلسطين، ومخيم اليرموك، والسبينة، وحمص، وجرمانا وغيرها ….
هكذا بنيت مخيماتهم في لبنان ، البراجنة ، تل زعتر ، النبطية ، الرشيدية ، البص ، البرج الشمالي …
هكذا تبنى الآن مخيمات اليمنيين، و العراقيين، والسوريين في الزعتري، وعرسال والزرقا وإدلب .
ألف وثلاثمائة مخيم في إدلب، وحلب متفرقة في البلاد لا يعلم غير الله هل سيعود أهلها إلى ديارهم ..
كل الدلائل، والإشارات، والخيوط تشير إلى حقيقة مرة، وهي أن هذه المخيمات بنيت لتبقى، ولتدوم، وتستهلك أموال الأمة، وطاقاتها وتسلبها أفضل شبابها ورجالها ..
إن أي تحرك عند المسلمين يجب أن يوازن بين ثلاثية في العمل ( العلم ، والأخلاق ، والحياة ) ..
فصرف الجهود للحياة بلا علم وأخلاق هو تدمير للحياة ولو بعد حين ..
وإن أي أحد يأخذ على عاتقه سد ثغرة، وهو قادر أن يسد معها غيرها جاهل إن أحسنا الظن به، ولم نعتبره موظف خائن ..
ما يقتله الجهل أضعاف ما يقتله الجوع أيها العالم الكاذب ..
قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم ) ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى