بحوث ودراسات

مرابط النظام الدولي 1من 2

أكرم حجازي

كاتب وباحث أكاديمي
عرض مقالات الكاتب

لحظة تمهيدية

   ليست « الهيمنة» إلا التعبير الوضعي المقابل للمفهوم الشرعي لـ « الحٌكْم الجَبْري» أو « الجَبْريَّة». وفي الدلالة يتطابق المفهومان لغة وشرعا. فمن جهة؛ ينطوي المفهومان على معاني العمومية والشمولية، ومن جهة أخرى يتأسسان على » العظمة والتجبُّر والترفُّع عن الانقياد«، وتبعا لذلك سيمتلكان، وفقا للمعطيات اللغوية، من السمات المميزة التي تمكنهما من ممارسة: (1) القهر والإكراه ( التسلط)، و (2) إحكام السيطرة والسطوة (الإخضاع)، و (3) الرقابة، و (4) الحفظ، على كل من في الأرض، تحت تهديد » القتّال في غير الحق«. هذه السمات؛ وهذا المحتوى يعني بالضرورة أن « الحٌكْم الجَبْري» لم يكن اختياريا، ولا يمكن أن يكون كذلك، بقدر ما يتعلق الأمر بقوة قاهرة، تنتمي لملل الكفر أصلا وفصلا، تَوَفَر لها من الشروط، في مرحلة معينة من الزمن، ما مكنها من القدرة على ممارسة « القهر« و « الإكراه«، وفرض نماذجها على كل من في الأرض.  

  بعض من الفقرة أعلاه كانت جزءً من بحث سابق من جزأين؛ كان الأول بعنوان: « الحٌكْم الجَبْري: مقدمات ونتائج1 – 14/4/2014«، والثاني بعنوان: « العقل العقدي والعقل الجَبْري2 – 18/4/2014«. أما في الجزء الأول، فقد تم التمييز بين امتلاك قوى « الجَبْر« أو « الهيمنة» لأدوات القوة، باعتبارها ] مقدمات الدخول في الحكم الجَبْري[، وهي: (1) المعرفة والعلم، و (2) إقامة الدولة القومية، و (3) إقامة النظام الدولي، وبين ]الوقوع في الحكم الجَبْري[، الذي يتطلب (1) تفكيك الجغرافيا، و (2) تحييد الدين، و (3) تفكيك الهوية، و (4) تعميم الشرائع الوضعية.

  في الصفحات التالية سنعرض مبدئيا لـ (1) المراحل التي مر بها النظام الدولي، ووصل إليها في وقتنا الحاضر. لكن حين الغوص في تاريخية النشأة سنلاحظ أن (2) تأسيس النظام الدولي لم يكن إلا نتيجة لمقدمات موضوعية دلت على أفول مرحلة، من ضمن ثلاثة مراحل سابقة، ذات سمات مركزية، والدخول في أخرى رابعة، ذات مدخلات ومخرجات تناقض كل ما سبق من مراحل. نعني بذلك مرحلة « الهيمنة» (= الحكم الجَبْري). كما سنلحظ في العمق (3) تلك الآليات والأدوات التي مكنت « الهيمنة» من إحكام السيطرة والرقابة، والتوغل عميقا في الأمة، وشتى مناحي الحياة الإنسانية، وتفكيكها وقهرها وإذلالها، حتى بدا « حديث القصعة«[1] هو التوصيف الأبلغ تعبيرا عن حال الأمة، التي تشهد اليوم تدافعا بين قوى الحق والباطل، في شتى أرجاء الأرض.

تاريخية النشأة

    إذا انطلقنا من التجليات المؤسسية الأولى لما يسمى بـ « النظام الدولي» الراهن فسنتوقف قطعا عند الإعلان الرسمي عن تشكيل « عصبة الأمم المتحدة»، التي تأسست بجهود القوى العظمى، بما فيها جهود الرئيس الأمريكي، توماس وودرو ويلسون[2]، في أعقاب مؤتمر فرساي للسلام سنة 1919. وهي نشأة لم تكن، فيما يتعلق بالشأن الإسلامي في العالم، إلا نشأة استعمارية صارخة،  بأغطية سياسية وأخلاقية، تتحدث عن تحديث وتمدين الشعوب المتخلفة ونقلها إلى ركاب « التحضر» و « التمدن» باعتبارها، وفق وثائق صكوك الانتداب البريطانية والفرنسية المتعلقة ببلاد الشام، «أمانة مقدسة في عنق المدنية». وبهذه النشأة التاريخية لم تكن « العصبة» إلا التجلي الأول لـ« نظام النهب الدولي» كنظام استعباد، ونهب منظم دشنته وقادته المنظومة الرأسمالية العالمية.

  لكن؛ بالتزامن مع نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945 ظهرت « هيأة الأمم المتحدة» ابتداء من 24 أكتوبر سنة 1945 في مدينة سان فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، كوريثة شرعية لـ « عصبة النهب»، حيث كانت الرأسمالية العالمية على موعد تاريخي آخر من الصراع البيني، وتقاسم النفوذ الدولي عبر ما يمكن تسميته بـ « النظام الدولي الأيديولوجي». وتبعا لذلك تم إدارة النظام، طوال أربعة عقود من الحرب الباردة وإلى حدود نهاية القرن العشرين، على أسس أيديولوجية بين فلسفتي « الرأسمالية» و « الماركسية». وهنا لا بد من الانتباه إلى أن الصراع في هذه المرحلة كان على النفوذ، بأدوات أيديولوجية، وليس على النظام الدولي الذي لا يختلف عليه قطبا الغرب والشرق. أما العشرية الأخيرة منه، والتي دٌشنت بداياتها بتفكك الاتحاد السوفياتي رسميا في 25 ديسمبر سنة 1991، فلم تكن إلا نوعا من الفترة الانتقالية التي تميزت بهيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي برمته، فيما عرف بمرحلة الأحادية القطبية.

   فجأة؛ ودون سابق إنذار قطعت وسائل الإعلام والفضائيات بثها المعتاد لتنقل ما يكاد يكون أضخم حدث هز العالم، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. إنه يوم 11 أيلول/سبتمبر 2001 الذي نفذ فيه تنظيم « القاعدة» سلسلة هجمات مدمرة، ومهينة، وغير مسبوقة، منذ نهاية الحرب الثانية، استهدفت رموز « الهيمنة» والقوة في الولايات المتحدة، أبرزها أبراج منهاتن في مدينة نيويورك. أما النتائج المتمخضة عن هذه الهجمات فلم تكن إلا بداية لمرحلة جديدة دشنت ما يمكن تسميته بـ « النظام الدولي الأمني». وفيه غدا « الأمن» هو المعيار الذي تقوم عليه العلاقات الدولية برمتها وتدور في فلكه، بموجب معادلة رقمية عبر عنها الرئيس الأمريكي، جورج بوش الابن، بعبارة شهيرة: « إما معنا أو ضد»!!!

    وما أن مضت عشر سنوات أخرى فقط على ولادة « النظام الدولي الأمني»، وبصورة لا تقل مفاجأة عن أحداث 11 سبتمبر، حتى انفجرت الثورات العربية ابتداء من تونس في 14/12/2010 لتبدو النظم السياسية العربية كما لو أنها سلسلة أحجار دومينو أخذت تتهاوى الواحد تلو الآخر. بل أن أشد المفاجئات دهشة لم تكن فيما يراه البعض نكسة أو انهيار لما أُسمي بـ « الربيع العربي» الذي انتقل من الاحتجاج السلمي إلى الاحتجاج المسلح، خاصة مع الثورتين الليبية والسورية، بل في الأزمات التي تعصف بالنظام الدولي الذي لم يعد يتحدث عنه أحد اليوم بصيغة الانتقال من حالة إلى حالة، كما لاحظنا في الفقرات الماضية، بقدر ما يجري الحديث صراحة عن انهياره[3].

   على كل حال؛ ففي مستوى الأهداف والغايات التي وجد من أجلها، أو سعى إلى تحقيقها، لم يختلف النظام الدولي بالأمس عنه اليوم. لكن في مستوى البنى المشكِّلة له أو في مستوى « أمنه» و « استقراره» و « استمراريته» فهو في وضع شديد الحرج إنْ لم يكن قد بات في مهب الريح بعد مضي مائة سنة على تشكيله. فحين يغدو « الأمن» و « الاستقرار» هو المشكلة الأولى للنظام الدولي الراهن فهذا يؤشر على أنه بات في أقصى حالات الاستنفار، مثلما هو بالضرورة المنطقية في أضعف حالاته على الإطلاق، مما يجعله، حُكْما، في وضع الدفاع إنْ لم يكن في صراع على البقاء!!! فما هي خلفيات النشأة؟ وعلى أية أسس أمكن بناء نظام دولي مهيمن؟ وبأية آليات أمكن حمايته من « التفكك» و« الانهيار»؟

   لا شك أن انتصار الثورة الفرنسية سنة 1789 مثّل الانعطافة الأعظم في تاريخ أوروبا على وجه الخصوص، وتاريخ البشرية على العموم. فالانتصار عنى، في حينه، نهاية عصور التفكير « الميتافيزيقي» ( مرحلة الاعتماد على القوى الخارقة أو ما قبل العقل في تفسير الظواهر والأحداث) و « الفلسفي» ( اليوتوبيا = المثالية)، ليحل محلهما عصر « الوضعية» (العقل = العلم). وبموجب العلم أصبح بالإمكان (1) تعريف المادة و (2) القدرة على تشكيلها و (3) التحكم بها، كمقدمةً للخروج من العصر البايولوجي، والانطلاق نحو العصر الميكانيكي. وتبعا لذلك فقد ظهرت الحاجة الماسة إلى الرأسمال والموارد والثروات، الكائنة على امتداد الأرض وبواطنها، والتي تحتاجها أوروبا كي تلج العصر الصناعي من أوسع الأبواب. وكان على أوروبا أن تجيب، قبل كل أمر وشيء، على سؤال جوهري في حينه هو: كيف يمكن جلب هذه الاحتياجات (الرأسمال والموارد والثروات) من الخارج؟

    سؤال؛ يعني أن أوروبا لا بد وأن تخرج من حدودها عاجلا أم آجلا. ولكن كيف؟ وبأية مبررات ووسائل؟ فإذا كان لـ « الخروج الأوروبي» أن ينجح، فلا مفر من آلية تسمح بذلك دون أن تؤدي إلى حروب بينية في قارة ألحقت فيها الحروب الدينية جروحا غائرة، وسط تيارات جارفة من الكتابات والأفكار التي تتحدث عن الحاجة إلى « القانون» و« الأمن» و « التعايش السلمي» لوقف سفك الدماء الذي استمر قرونا طويلة.

     كانت فكرة إقامة نظام دولي قد شقت طريقها مبكرا في أوروبا منذ مطالع القرن19 لتشتد في أواخره. وكان يتواجد في العالم حتى آنذاك نحو 24 دولة، مما يعني أن الوحدة السياسية المركزية للنظام الدولي العتيد لا بد وأن تكون « الدولة القومية» الحديثة. لكن نمط « الدولة الممتدة» لم يكن قد فارق أوروبا والعالم بما في ذلك العالم الإسلامي. ولأن الصراع يجري على الرأسمال، فمن الطبيعي أن تشهد أوروبا صراعات سياسية على النفوذ والامتيازات والمكاسب، وكذلك انقسامات اجتماعية تسمح بإشاعة نموذج « الدولة القومية» ذات الحدود السياسية الواضحة بديلا عن « الدولة الممتدة» التي لا بد وأن تتفكك في أوروبا أولا[4] ثم في العالم ثانيا.

    هكذا انطلق الفكر القومي الأوروبي في أربعينات القرن19 ليفجر صراعات دامية لتفكيك الدول الممتدة في أوروبا أو للتوافق على صيغ سياسية ذات قيم لبرالية حديثة تسمح لمجموعة بشرية من عدة قوميات بالعيش بموجب ما يسمونه « قيم العالم الحر» كـ: « الحرية» و « إرادة العيش المشترك» و « التسامح» و « التعددية» و « المساواة» … وهي المنظومة القيمية التي يتحدث عنها اليوم لبراليو العرب وعلمانيوهم، وكأنها قيم أصيلة أنبتها التاريخ العربي ووقائعه، ناهيك عن التراث الإسلامي، الذي ينبذونه عقيدة وحضارة وتاريخا. والأعجب من ذلك حين يتحدثون بدوغمائية عجيبة عن « القومية» كفكرة جامعة، يمكن أن توحد العرب في دولة واحدة، في حين أنها لم تنوجد في أوروبا أصلا، ولم يكن لها ثمة حاجة، إلا لتفكيك « الدولة الممتدة» ذاتها!!! بل أن « الدولة القومية» في أوروبا تأسست بمقتضى قيم ملفقة كمبدأ « إرادة العيش المشترك»، وهو الذي يعني أنه ما من دولة في أوروبا نشأت على أساس « النقاء القومي» بقدر ما تأسست على قيمة ملفقة أخرى هي « التعدد القومي» المرشح، كغيره، لٍِأنْ يهدد وجود الدولة ذاته، عبر حركات الانفصال التي تشهدها دول مثل إيطاليا وإسبانيا وبريطانيا وحتى الولايات المتحدة وكندا. كما أنه ما من معنى أو مضمون جوهري لـ « قيم العالم الحر»، ماضيا وحاضرا وحتى مستقبلا، إلا الانقسام أكثر منه التوحد. وما من ضامن للتوحد وسط عناصر انقسامية بنيويا.

  مع ذلك فقد انطلقت الجيوش الاستعمارية الأوروبية نحو أفريقيا وآسيا وأمريكا لتفكيك الإمبراطورية العثمانية الأخطر، باعتبارها « الدولة الممتدة»، ليس عبر الحدود بل وعبر القارات. وهو ما سيعني بالمحصلة وجوب تفكيك العالم الإسلامي برمته. ولأنه عالم ينظم بموجب قيم عقدية لا وضعية، فقد كان من الطبيعي أن يجري استهدافه مبكرا جدا على المستوى الثقافي، وتعريض الكتل السكانية الكبرى فيه، بما في ذلك القوى الحيوية التي تداولت الحكم عليه ( العرب والترك والكرد)، إلى تمزيق شديد وبالغ التعقيد، ابتداءً من حدود المحيط الهادي شرقا وانتهاءً بتخوم القارة الأفريقية على حدود الأطلسي غربا. ولأن الدولة الإسلامية هي، في المبدأ والمنتهى، نظام حكم شرعي، ممثل بسلطان الخلافة، أكثر مما هي جغرافيا سياسية ممتدة، فقد عمد النظام الدولي، منذ صياغته الأولى، إلى تحطيمه وإلغائه بصورة تامة، كي لا يأتلف العالم الإسلامي مجددا، لا على أساس شرعي تاريخي، ولا حتى على أساس « الدولة القومية»، ذات المرجعيات الوضعية الصرفة.

    على الرغم من أنه ما من فرصة لإقامة نظام دولي بدون تفكيك العالم الإسلامي، إلا أنه أيضا ما من فرصة لِأنْ يستمر بموجب معاهدات ووثائق، ولا حتى عملاء وخونة لا بد للزمن أن يطويهم. لذا كان لا بد قبل ذلك من التفكير والبحث عن قوى مادية (1) تمسك في النظام من جهة، ومن جهة ثانية (2) تحول دون ائتلاف العالم الإسلامي ثانية، أو تهديد « أمن» النظام و « استقراره». هذه القوى هي التي نسميها بـ « المرابط» أو « المعاقد» أو « الأوتاد». فما هي تاريخيتها؟ وما هي آليات اشتغالها؟

مرابط النظام الدولي

أولا: المربط الثقافي والدولة القومية

   تعتبر بريطانيا، بنظر المؤرخين السياسيين أقدم دولة ظهرت بالمحتوى السياسي المؤسسي الراهن، وقد تشكلت في أعقاب الثورة الإنجليزية (1660 – 1640) في صيغة اتحاد سياسي من إنجلترا وويلز واسكتلندا في 1/5/1707. ولأنها بروتستانتية فلم تتأثر أوروبا التي تدين غالبيتها بالمذهب الكاثوليكي كثيرا، إلا في أعقاب الثورة الفرنسية سنة 1789.

   فقبل ولادة«الدولة القومية» كانت أوروبا أشهر ميدان في الصراع بين الفرق الدينية المسيحية التي لعنت

 بعضها، وكفرت بعضها بعضا، وخاضت حروبا طاحنة فيما بينها لقرون طويلة ومظلمة ودموية. ولا عجب أن تتميز أوروبا بكونها ساحة للصراعات الفكرية الناجمة عن هيمنة الكنيسة، باعتبارها المسؤولة الوحيدة عن نمط الحياة واحتكار التشريع فيما يجوز ولا يجوز. وعلى وقع المعاناة والثمن الباهظ الذي دفعه العلماء من أرواحهم وأجسادهم شق « العقل الوضعي» طريقه إلى الحياة الأوروبية، واستطاع أن يتجاوز المرحلتين «الميتافيزيقية» و «المثالية».

    وفي السياق كانت أوروبا أول ميدان في الصراع على « فكرة القومية» التي بدأت كـ « نزعة» تغزوها منذ أواخر القرن18، إلى أن تبلورت واستقرت كمفهوم، على وقع الحروب الدموية والحراك السياسي واللغوي والإرادة العامة في العيش المشترك والاقتصاد وحتى الثقافة والقيم والأيديولوجيا، وصولا إلى البايولوجيا التي طبعتها بالطابع التنافسي والعنصري الاستعلائي على سائر البشر. وفي النهاية أسفرت عن تفكك الصيغة الإمبراطورية في الاجتماع الإنساني الأوروبي إلى صيغة قومية على شاكلة الإنجليز، الفرانسيس، السلاف، الألمان، والبلغار، الهنغاريين، النمساويين، الطليان …. وما إلى ذلك، مع العلم أنه لا تكاد دولة أوروبية حتى اليوم تخلو من التعددية القومية، وسط تهديدات بالانفصال في هذه الدولة أو تلك.

   في المحصلة؛ فإذا كانت النشأة التاريخية لـ « الفكر القومي» الأوروبي ليست إلا نتاج أصيل لكل هذه الصراعات والأفكار؛ بما فيها «عصر الأنوار» الذي عج بالفلسفات الوضعية، كاللبرالية ومنتجاتها من العلمانية والعنصرية، والمذاهب المادية كالاشتراكية والرأسمالية والماركسية، فإن « الدولة القومية»، لا يمكن أن تكون إلا الوريثة الشرعية لهذا «الفكر»، بقطع النظر عن مدى تماسك الفكر القومي من ضعفه. ولأنها قامت على أنقاض الكنيسة، « = الدولة الدينية»، فهي بالضرورة والنشأة معادية للدين بصرف النظر إنْ كان وضعيا أو سماويا، صحيحا أو محرفا أو وثنيا. ومع نمو النزعة القومية لم يعد الناس يتعارفون فيما بينهم على خلفية الانتماء الديني، كأن يقال: هذا مسلم وذاك مسيحي أو يهودي أو مجوسي أو بوذي أو هندوسي … . وتبعا لذلك لا تقيم« الدولة القومية» أي وزن للدين في الحياة العامة، ولا تستعمله إلا كمعطى وظيفي في الحشد الاجتماعي لتحقيق أغراض سياسية أو اجتماعية. بل أننا لن نجد على وجه الأرض دولة واحدة تحكم بموجب الدين. ويشمل ذلك « الدولة اليهودية» في فلسطين، التي أسسها العلمانيون والملاحدة اليهود، بنسبة تزيد عن 80%. بل أن « اليهودية» بحد ذاتها لم تكن هدفا بقدر ما كانت، ولمّا تزل، مشروعا سياسيا لمنظومة استعمارية صرفة، جرى تبريرها بلباس توراتي مزعوم.

   لكن أطرف ما في«الدولة القومية» أنها شابهت الكنيسة في استلهامها لإرث الحضارتين اليونانية والرومانية

 وحتى النصرانية، ولم تتخل أبدا عن ثنائية « الأسياد» و «العبيد»!!!! فالنظام الفيودالي الذي ساد أوروبا تحت حكم الكنيسة لم يكن إلا استيحاء، وإلى حد كبير، من الفلسفة الإغريقية ذاتها في تجلياتها«الإفلاطونية» للمجتمع والدولة والفرد من جهة،وللعلاقة بين«الأسياد» و«العبيد» من جهة ثانية، حيث لم يكن ثمة «مجتمع» ولا «مواطن» ولا حتى « إنسان» بقدر ما كان هناك «أسياد» و«عبيد». لذا ليس غريبا أن يقوم النظام الدولي الراهن على ذات الثنائية فيما يسمى زورا بالعصر الديمقراطي والحريات وحقوق الإنسان. ومن يطالع كتاب أفلاطون المسمى « الجمهورية =The city »، فضلا عن النظريات العنصرية والوحشية في« مبدأ السكان» و« أصول الاقتصاد السياسي» لروبرت مالتوس (14 /2/1766- 23 /12/1834)، « الأمير» لميكيافيلي (3/5/1469 – 21/6/1527)، سيعلم جيدا حقيقة« الدولة القومية» ومرجعياتها المتوحشة التي تتغنى بها أوروبا، وتشكل الوحدة السياسية المركزية للنظام الدولي القائم حاليا. ولا يغير من هذه الحقيقة التاريخية الوثيقة الشهيرة التي كتبها فلاسفة التنوير في أعقاب الثورة الفرنسية باسم: «حقوق الإنسان والمواطن»! حيث لم يكن ثمة إنسان ولا مواطن ولا مجتمع في أوروبا. وهي ذات الوثيقة التي أقرتها هيأة الأمم المتحدة في 10/1/1948 باسم «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»!!! في حين أن الحقيقة التاريخية الخالصة تؤكد أن الإعلان هو إعلانهم، والمشكلة هي مشكلتهم وليست مشكلة العالم الإسلامي والمسلمين. بل أن الكوارث لم تصل العالم الإسلامي إلا لما قامت «الدولة القومية»، وتم فرضها على العالم.

    لذا لم يكن غريبا، مع هكذا منتجات سياسية ومرجعيات، أن تكون« النازية» و«الفاشية» و«العنصرية» و« الفوضوية» و« الأممية» و« الصهيونية» و« الماسونية» هي منتجات أصيلة طبعت« الفكر القومي» الأوروبي أولا، و« الدولة القومية» ثانيا، وليست بدعا من القول. هذه الحمولة أثبتت مخرجاتها، بالوقائع القاطعة، أنها أشد دموية حتى من« الدولة الدينية» في أوروبا. فـ«الدولة القومية» هي التي قادت حملات الاستكشاف الضخمة في العالم، وهي الوحدة المركزية لنظام « الهيمنة» الدولي، وهي التي انطلقت في حملات الاستعمار والاستعباد وقهر الشعوب، وهي التي نشطت في عمليات النهب المنظمة لثروات الأمم، وهي التي أفرزت قيمها حربين عالميتين، وقنابل ذرية ونووية اختُبِرت فاعليتها على البشر، وهي التي أودت بحياة عشرات الملايين من ضحايا الإبادة والحروب والتعذيب في قارتي آسيا وأفريقيا وقبلهما أوروبا، وهي التي زرعت أنظمة الاستبداد ورعتها، فضلا عن تفكيك العالم الإسلامي، وتحطيم نظامه السياسي. هذه هي الدولة التي تم تصديرها لنا بأوحش ما تحمله من تراث.

    أما في العالم الإسلامي فقد بدأت أولى بواكير التغريب تغرز أوتادها انطلاقا من الربع الأخير من القرن الثامن عشر. كانت أوروبا في تلك الفترة قد قطعت شوطا طويلا في الخروج من المرحلة المثالية وعبور المرحلة الوضعية التي دشنت قطيعة مع الكنيسة وثقافتها وهيمنتها في شتى نواحي الحياة الإنسانية. كما كانت أوروبا تخرج أيضا من المرحلة البايولوجية إلى المرحلة الميكانيكية، ومن مرحلة الإقطاع إلى مرحلة التحديث، ومن القرية إلى المدينة، ومن الفقر إلى الرأسمال، ومن العبودية إلى الحرية والحقوق وصولا إلى التحرر … إلخ

   في هذه الفترة كانت الإمبراطورية العثمانية تشهد حالة ترهل وفساد وحروب وتخلف وتراجع استدعى القيام بإصلاحات جذرية. فاتجهت الأنظار نحو أوروبا حيث التقدم في نظم الري والزراعة والهندسة والاقتصاد والإدارة ونظم القوانين والدساتير والسياسة. وقامت بإرسال أولى البعثات التي جرى التعويل عليها في نقل التجربة إلى سويسرا وفرنسا. لكن هؤلاء عادوا منبهرين بالأفكار اللبرالية والقومية. ومع ذلك فقد ظلت البعثات العثمانية إلى أوروبا تتوالى إلى أن صار للفلسفات الأوروبية صدىً يتردد في رحاب السلطنة وحواضرها، ومن ثم مستوطناتها التي أنتجت فيما بعد الأحزاب العلمانية التي كانت « الحركة الطورانية = التتريك» وحزب « تركيا الفتاة« وكمال أتاتورك وأمثالهم أولى بواكيرها وتجلياتها.

  وفي المشرق العربي وضعت الفلسفات الأوروبية أوزارها عبر حملة نابليون على مصر (1798 – 1801). ولشدة انبهاره بالحضارة الغربية ونقل نموذجها إلى مصر وسائر البلاد العربية اعتمد محمد علي باشا، أحد أقدم وأخطر رموز الفكر اللبرالي والتغريب والعداء السافر للدين، على البعثات العلمية المتخصصة والثقافية إلى أوروبا. وبدأت أولى البعثات الطلابية إلى إيطاليا سنة 1813 ثم إلى فرنسا بدءً من سنة 1826، وخلال الفترة ما بين 1813- 1847، تم إرسال 339 مبعوثاً إلى أوروبا، دون أن تتوقف سياسة الابتعاث طوال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين[5].

   هذه البعثات أنتجت في مصر وبلاد الشام خاصة، الشام وبيروت، ما يعرف برموز التغريب، ممن أسسوا لـ « قواعد اللبرالية» و « الهيمنة» تاريخيا، أمثال محمد علي باشا وجمال الدين الأفغاني، وتلامذته مثل الشيخ محمد عبده، ورفاعة الطهطاوي وقاسم أمين ولطفي السيد ومحمد حسين هيكل وإسماعيل مظهر وعباس محمود العقاد، وطه حسين وسلامة موسى وغيرهم. أما في المغرب العربي فقد برز اسم الطاهر الحداد (1899 – 1935)، وخير الدين التونسي، وفي الشام برز الثلاثي الشهير شبلي شميل وشارل العيساوي وفرح أنطون، من نخب الثقافة النصرانية، بالإضافة إلى نيقولا حداد وبطرس البستاني، وجورج زيدان، وأديب إسحاق، وسليم نقاش وميشيل عفلق وقسطنطين زريق، وكذلك ناصيف اليازجي وابنه إبراهيم. وانتظم الكثير من هؤلاء في أحزاب سياسية أو تيارات فكرية أو نوادي أدبية أو جمعيات مدنية أو دور نشر وترجمة ووسائل إعلام متنوعة.

    لذا، ولكي نفهم الأحداث الجارية في دول الثورات، ونتوقف عن « العجلة» أو الركون إلى «العقل السلبي» في الفهم والتفسير، علينا أن نلاحظ أن أميز ما في «الثورة المضادة» التي رُدَّت، محليا، إلى قواعد ورموز ما أُسمي بـ « الدولة العميقة*» في مصر ثم تونس وحتى اليمن وليبيا، أنها بدأت بنيوية حتى في خضم وقائع الثورات، دون أن تفلت منها دولة واحدة[6]. وهو أمر طبيعي للغاية. إذ أن القواعد التاريخية لـ «الثورة المضادة» عميقة الجذور وليست طارئة، بالمقارنة مع دول ونظم سياسية حديثة النشأة وغير آمنة. وإذا تتبعنا السياسات والمواقف الدولية والإقليمية من الثورات سنجد أن دفاعات « الثورة المضادة» صارت تتلقى دعما صريحا من المرجعيات السياسية الدولية[7]، ناهيك عن المرجعيات التاريخية التي أوجدتها، وأوجدت الدولة ذاتها من قبل. بمعنى أن الانتكاسات والتساؤلات « المحبطة» يجب أن تُطرَح في سياق التاريخية التي ظهرت فيها الدولة « الوطنية» أو « القومية» الراهنة، وليس في إطار الحدث اليومي، أو في سياقات محلية فقط من نوع «الدولة العميقة»، التي لا يمثل رموزها إلا صدىً لمرجعيات فلسفية وبنيوية، هي المسؤولة تاريخيا عن إنتاج «الدولة القومية» ذاتها، وما تحتويه من بذور العداء المستحكم لكل ثقافة محلية أو عقيدة أو شريعة ربانية.

     وبالتالي سيبدو «الخروج» على هذه المرجعيات بمثابة المس المباشر في صلب مشروعية الدولة وهويتها التاريخية وقيمها التي لا تعترف بتجزأة « الديمقراطية» كـ «موضوع = قيمة» من جهة و «أداة» من جهة أخرى، بحيث  تبدو الحرية المنشودة مجرد رقم تفرزه صناديق الاقتراع[8]. وهذا مؤشر على أن إسقاط النظم وتصفية « الدولة العميقة» وقواعدها ورموزها سيؤدي إلى الصدام الحتمي، ليس مع « ولي الأمر» كما يزعم البعض، بل مع « المركز» نفسهومع أدواته وقواعده وقيمه. وتبعا لذلك لم يكن غريبا أن « تعجز» الثورات التي مرت في المرحلة الأولى «ارحل» عن تجاوز المرحلة الثانية باتجاه العمل على « إسقاط قواعد النظام»، ناهيك عن مجرد التفكير في خوض المرحلة الثالثة التي تتطلب إسقاط « قواعد الهيمنة» ومستوطناتها التاريخية. لكن من العجيب حقا أن يتعجل البعض النتائج، ظناً منه أن صناديق الاقتراع يمكن أن تَجُبَّ ما قبلها، وتصادر جهود «المركز»، في التحكم والسيطرة، بورقة خرقاء، تذهب بـ « الدولة القومية» ومزارع النظام الدولي أدراج الرياح. 

    إذن «الدولة القومية» لم تستوطن في بلادنا إلا بعد (1) مطاحن دموية في أوروبا، و (2) حروب عالمية وحشية، و (3) تفكيك للعالم الإسلامي، و (4) فرض لنظام « الهيمنة»، و (5) زرع لـ « إسرائيل»، و (6) تخريب للثقافة، و (7) إقصاء بالغ العنف للدين من حياتنا الاجتماعية في كافة مستوياتها و …إلخ فما الذي قدمه العالم العربي من تضحيات لنيل حريته، وقد أغمد سيوفه منذ زمن بعيد، واكتفى بالمنافسة على إنجاز أكبر قرص« فلافل» أو طبق « كَبْسة»!!؟ أليس من المثير حقا أن نجد القسم الأعظم من الأمة وأغلب علمائها ومفكريها يتحدثون عن « الدولة القومية» كما لو أنها، بلغة فرانسيس فوكوياما قبل ربع قرن، «الإنسان الأخير ونهاية التاريخ»!!!!؟

ثانيا: المربط النصيري

   لا ريب أن القرن التاسع عشر كان قرن الفتن بامتياز. ولا ريب أيضا أن الأقليات والطوائف لعبت دورا بارزا في تفكيك العالم الإسلامي، وفي القلب منه العالم العربي، إلى جانب رموز وقواعد « المربط الثقافي». ولم يكن ما يجري من فتن إلا صدىً لسياسات الدولة العثمانية، وللثورة الفرنسية، والفكر القومي الأوروبي، وإجمالا للمنتجات الفكرية لعصر الأنوار، فضلا عن جهود المستشرقين الذين لم يُبقوا شبهة إلا وأحيوها أو اصطنعوها أو روجوا لها، أملا في إدخال العالم الإسلامي في أتوت فتن وصراعات بينية لا تتوقف، وتجهيل في التاريخ لا حدود له، وتنفير من الدين، حتى أن الغالبية الساحقة من عامة المسلمين، وحتى خاصتهم، وإلى وقت قريب جدا، ظنوا أن الشريعة هي قطع الأيادي ورجم النساء.

    بدأ الاختراق الأوروبي للدولة العثمانية في أواخر القرن17، عبر تفاهمات صيغت بين الجانبين، واستهدفت « حماية» النصارى. وبموجبهما تولت فرنسا والنمسا حماية ورعاية طائفة الكاثوليك، وتولى الروس الأرثوذكس، وتكفل البريطانيون بطوائف البروتستانت. وحصل هؤلاء على امتيازات. أما التفاهمات، بحد ذاتها، فقد أسست لما عرف لاحقا بعهد القناصل الأوروبيين، الذين سيتمتعون بامتيازات مماثلة لم تلبث أن تحولت إلى « حقوق أوروبية» في الدولة العثمانية.

  هذه الامتيازات؛ شملت تسهيلات في السفر، والتقاضي أمام محاكم خاصة، والتعليم، والإعفاء من الضرائب في قطاعات بعينها، وتعيين قناصل أو تراجم أو موظفين قنصليين في البلاد. وكان محمد علي باشا أول من نقلها من طور « الحقوق» إلى طور «المساواة التامة» بين المواطنين سنة 1831. ولم تلبث الدولة العثمانية بعد هزيمتها أن تبنتها عبر مرسوم « خطي شريف كلخانة» سنة 1839 ثم أكدت عليها في « خطي شريف همايون» سنة 1856.

   وقد يبدو طريفا أن تحرص الدول الأوروبية على ما باتت تعتبره حقوقا لرعايا طائفية في وقت تثور فيه على الكنيسة وتاريخها وسلطانها! والحقيقة التاريخية أن المسألة لم تكن لتخرج عن سياق تعميم القومية عبر الأقليات والطوائف وترقية حقوقها إلى مستوى القومية المنفصلة عن أي ارتباط ديني. فبعد 1860 غدت بلاد الشام موضع اهتمام سياسي حاسم لدى فرنسا. واجتهد المستشرقون في دراسة المجتمعات الإسلامية العربية، بحثا عن التباينات الثقافية والتاريخية، وترقيتها إلى متغيرات مستقلة، بحيث تغدو جغرافيا بلاد الشام وحدة جغرافية واحدة، فيما تبدو الديمغرافيا أمة مستقلة بذاتها، بعيدا عن كل التاريخ الإسلامي، وليس مجرد حقوق لأقليات أو طوائف. فباسم الأقليات وعبرها سيجري الاستحواذ على بلاد الشام برمتها، وهو ما لاقى هوىً لدى رموز « المربط الثقافي» الذين يؤمنون بأن العيش في ظل دولة قومية هو « الضمان الوحيد» لـ « مبدأ المساواة»، بخلاف الحال في الدولة الإسلامية التي تفرض قيودا على الأقليات الطائفية والدينية، في المناصب العليا والحساسة.  

  لم يكن يختلف أحد، من نخب التغريب، كثيرا على ثقافة التحرر، سواء بالتفاهم مع الدولة العثمانية أو مع الدول الأوروبية. فقد كان هناك فيض من وجهات النظر أكثر منها اختلافات. وفي المحصلة نادت جميعها بتقسيم بلاد الشام أو بقائها وحدة جغرافية واحدة باسم « الولايات السورية المتحدة»، ووضعها تحت الوصاية الفرنسية. بل أن مطالب الدروز والنصيريين بدول مستقلة في الشام شقت طريقها إلى الوجود في عهد الانتداب الفرنسي.

  فما أن تفجرت الحرب العالمية الأولى حتى حلت دول الانتداب في بلاد الشام، واجتهدت فرنسا في الإعداد لتسليم « النصيرية» البلاد مبكرا، فعملت على إنزال الطائفة المنبوذة اجتماعيا من الجبل إلى السهل، حيث المدينة والنفوذ والمال والسلطة، وأدخلتها في مؤسسات الحكومة السياسية والإدارية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والتجارية وفي قطاعات التعليم والصحة، حتى إذا ما شارفت على الرحيل عن سوريا يكون هؤلاء قد استوطنوا في المراكز الكبرى والحساسة في الدولة، بما يسمح لهم بتسلم السلطة مستقبلا دون عناء يذكر.

     في أعقاب العدوان الثلاثي، ( بريطانيا، فرنسا، « إسرائيل»)، على مصر سنة 1956 تراجعت فرنسا وبريطانيا عن قيادة النظام الدولي، لتتقدم الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. ولكون هذا الأخير هو المعني، أمنيا وسياسيا، بإدارة المناطق المتوترة في العالم، فقد كان من الطبيعي أن يتولى الشأن السوري، ويسلم السلطة لـ « النصيرية» بموجب ما عرف بـ « الحركة التصحيحية» التي قادها حافظ الأسد ابتداء من 16/10/1970. ومن هذا التاريخ بدأت الطائفة بالاستحواذ الفعلي على الدولة والمجتمع وحتى الفرد، ثم استحكمت مع انتصار ثورة الخميني في إيران سنة 1979 فيما اشتهر آنذاك بـ « الثورة الإسلامية في إيران».

   الحقيقة التاريخية والواقعية أن « النصيرية» اضطلعت بتعميم ثقافة « أرض الثوار» و « الأحرار» و « الصمود والتصدي» و« المقاومة والممانعة» وما إلى ذلك من الأيديولوجيات الراديكالية، إلا أن «النصيرية» لم تكن إلا الأداة الأمنية الأخطر في تاريخ الأمة. فلا المسلمين في سوريا أُفلتوا من طغيانها ووحشيتها، ولا الحركات الوطنية المحلية والعربية والفلسطينية، على وجه الخصوص، نجت من جرائمها وكوارثها في لبنان وغير لبنان. بل أن الطائفة، باعتبارها خيارا وامتيازا دوليا، لم يكن لتأهيلها وترقيتها إلى قمة السلطة من هدف إلا (1) احتواء كافة حركات التمرد والمقاومة التي كان من الطبيعي أن تنشأ ردا على التقسيم وتفكيك العالم الإسلامي، و (2) الحرص على كشف أستارها أمنيا، وهي التي ظنت لعقود طويلة أنها آمنة ومحمية الظهر!!! وعليه فليس غريبا أن تفشل القوى الحيوية في تحقيق أدنى إنجاز يذكر، بل وتنتهي إلى الدخول في مساومات مع النظام الدولي و « إسرائيل» على ما تفرضه هذه الأخيرة من شروط، أو ما تنتزعه من اعترافات ومكاسب. فالقوى الحيوية هذه كانت آنذاك تعيش حالة انكشاف أمني شامل، وأزيد من ذلك، أن ما كانت تعجز «إسرائيل» عن القيام به في مواجهة التمردات كان يتكفل به النظام النصيري في سوريا.

    وحتى هذه اللحظة ما من خيار أمام « النصيرية» إلا الاحتفاظ بذات الثقافة الراديكالية فاعلة وحيوية في الخطاب السياسي، رغم كل هذا القهر والتدمير والقتل. إذ ما من مبرر أيديولوجي آخر يسمح لها بالاستمرار. والأعجب من ذلك أن الكثير من القوى العلمانية من القوميين واليساريين، فضلا عن الأقليات، ما زالوا يرددون ذات الأطروحة التي ترى النظام النصيري « سيد المقاومة والممانعة» في حين لا يرون في ثورة السوريين على أعتى صنوف الظلم والقهر إلا مجرد « مؤامرة»! بلغت عند النظام حدود « الكونية»!!!!

   والحقيقة الثابتة أيضا أنه أيا كان محتوى الخطاب السياسي لـ « النصيرية»، وكذا المواقف الدوغمائية العمياء لبلهاء الأمة، يبقى الثابت الأكيد، واقعا وتاريخيا، أن « النصيرية» في الشام هي ذاتها « اليهودية» في بيت المقدس. فكما قهرت « اليهودية» الفلسطيني كذلك فعلت « النصيرية» بالسوريين. بل أن « المربط النصيري» في سوريا، كما نظيره « اليهودي» في بيت المقدس، عنى منذ اللحظة الأولى حرمان السوريين من أي شكل من أشكال الحرية إلا ما تعلق بالانحلال الأخلاقي ومحاربة الدين وهو ما يوافق العقيدة « النصيرية» ذاتها. بل أن النظام في سوريا يعلم تماما أن رفع شعار « ارحل» لا ينفع مع الحالة السورية. فهو حالة مماثلة طبق الأصل لحالة « المربط اليهودي» في فلسطين. إذ ليس من المتخيل أن يتوقع الفلسطينيون أن تؤدي احتجاجاتهم إلى تفكيك « المربط اليهودي»، أو أن يرفعوا شعار « ارحل» بوجه « إسرائيل». لذا فمن العبث الركون، بلا إمعان في النظر، إلى الاعتقاد بأن الرئيس السوري، بشار الأسد، أجبر الثورة السورية على حمل السلاح ليثبت للعالم أنه يواجه انفلاتا إرهابيا في البلاد! وكأنه لا يدرك مكانة سوريا في النظام الدولي، وهو الذي استبق الأحداث حين سئل عن الثورات العربية واحتمال تمددها إلى سوريا قائلا: « سوريا مختلفة». وهو في الحقيقة أراد القول بأنه والطائفة ليس لديهما خيار إلا بفرض العسكرة على الاحتجاجات الشعبية، ووصمها بالإرهاب، أملا في وأدها. فلا الرئيس ولا الطائفة ولا النظام الدولي معنيون بأية مرجعية أخلاقية من أية ردود فعل. فطوال حكم الطائفة « النصيرية» لسوريا لم يكن ثمة احتجاج دولي على سلسلة جرائم الإبادة التي ارتكبتها الطائفة والنظام في سبعينات وثمانينات القرن20 بحق المسلمين في سوريا. وطوال السنوات الخمس الأولى من عمر الثورة السورية لم يكن ثمة حديث غربي أو شرقي، في الشأن السوري، إلا عن حماية النظام الدولي من الانهيار، حتى لو استعمل النظام الأسلحة الكيميائية ضد السكان، عشرات المرات، ومارس جرائم إبادة بشهادة

 العالم أجمع[9]، ودمر البلاد على رأس من فيها.

    لكن الحقيقة الثابتة أيضا؛ أنه مع انطلاقة الثورة السورية في 18/3/2011، بدأ النظام الدولي يتعرض لأعنف هزة في تاريخه، باتت تهدد وجوده. فلأول مرة يتعرض أحد مرابط النظام الدولي للاقتلاع من الجذور، وهو ما يعني تفكك النظام الدولي أو انهياره بالكلية. بل على الأقل يعني أن الثورة السورية التي فضحت كل مخبوء في الأمة والعالم، أثبتت أن كل ما صيغ من معاهدات وقوانين ونظم ومرجعيات تحت مسمى « الشرعية الدولية» باتت عاجزة عن التعامل مع المستجدات. فلنتابع ما يقوله السناتور الأمريكي، ريتشارد بلاك، عن ولاية فرجينا على قناة « ­RT – 19/3/2015»[10] الروسية، حول أهمية « المربط النصيري» في المنطقة، وأثره على أوروبا، الأقرب له:

    « أولا؛ ثمة شيء واحد واضح هو: إذا سقطت دمشق راية الفزع السوداء والبيضاء للدولة الإسلامية سوف ترفرف فوق دمشق. وفي غضون أشهر بعد سقوط دمشق سوف تسقط مباشرة بعدها الأردن ولبنان، ومع توسع تلك المنطقة الأكثر تطرفا إسلاميا، أعتقد أنك سوف ترى تلقائيا بداية حملة وهجمة تاريخية للإسلام تجاه أوروبا، وأعتقد في نهاية المطاف أوروبا سوف تُحتَل. ولهذا السبب أنا أنظر إلى سوريا باعتبارها مركز الثقل، هذا ما كنا عادة نتحدث عنه في الكلية الحربية، عندما كنا ندرس الحرب والأهداف .. الأهداف .. هناك دائما مركز للثقل، الشيء الذي سيحدد نتيجة الحرب، فإن استطعت أن تهزم مركز الثقل فبالتالي تنتصر. لذلك ما أراه هو أن سوريا هي مركز الثقل بالنسبة للحضارة الغربية. إذا سقطت سوريا سوف نبدأ نرى تقدما سريعا خاطفا للإسلام على أوروبا، وأعتقد في نهاية المطاف احتمال سقوط أوروبا كلها .. سوف نستمر في الترقب».

     قد يكون الرئيس السوري متوافقا أو متأثرا بما قاله السيناتور الأمريكي، عشية الإعلان عن التدخل الروسي في سوريا في 15/9/2015، إلى الحد الذي دفعه ليعلق على التدخل بذات التصريحات، قائلا:«ما تقوم به روسيا يعد دفاعا عن أوروبا بشكل مباشر»[11]! أما الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وفي نفس التوقيت!، فقد كان أكثر تحديدا حين برر التدخل بالقول أن: «العملية العسكرية الروسية في سوريا جاءت لتجنيب بلاده أي تهديد »

 .. وأن « موسكو تسعى للقضاء على الإرهاب الدولي»[12].


[1] نص الحديث: ]حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ الْكَشِّيُّ، وَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا  مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ شَابُورَ، وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُعَلَّى، وَحَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، ثنا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ، حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ السَّلامِ، عَنْ ثَوْبَانَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r، قَالَ: « يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَتَدَاعَى عَلَيْكُمْ، كَمَا تَتَدَاعَى عَلَى الْقَصْعَةِ أَكَلَتُهَا »، قِيلَ: أَوَ مِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: « لا، بَلْ أَنْتُمْ أَكْثَرُ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ, وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ, وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ»، زَادَ مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ فِي حَدِيثِهِ ,  =

=   قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: « حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الآخِرَةِ»[. مسند الشاميين للطبراني، رقم الحديث589، وهو حديث مرفوع. وللحديث أوجه أخرى: ]عن ثوبان، رضي الله عنه، مولى رسول الله، r، قال: قال رسول الله، r: « يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كلّ أفق؛ كما تداعى الأكلة على قصعتها» (وفي رواية: قصعتهم)، ( وفي أخرى: على القصعة أكلتها)، قال: قلنا يا رسول الله أمن قلة بنا ( وفي رواية: نحن) يومئذ ؟ قال: « لا، ( وفي لفظ: بل) أنتم يومئذٍ كثير»، ( وفي رواية: أكثر« ولكن تكونون ( وفي رواية: ولكنكم) غثاء كغثاء السيل؛ ينتزع المهابة من قلوب عدوكم» ( وفي رواية: ولينتزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم« ويجعل ( وفي رواية: وليقذفن الله)، (وفي رواية أخرى: ولتعرفن) في قلوبكم الوهن». قالوا: وما الوهن؟ قال: « حب الدنيا، وكراهية الموت». ( وفي رواية: وكراهية الآخرة) [.

[2] من المفارقات أن الولايات المتحدة رفضت الانضمام لها رغم الجهود الحاسمة التي بذلها الرئيس الأمريكي، وودرو ويلسون في التخطيط لإنشائها، والترويج لها، على حد تكريمه بجائزة نوبل للسلام في أشهر أكتوبر سنة 1919. وبررت الولايات المتحدة موقفها بكون: « النظام التأسيسي للعصبة ليس إلا محاولة من الدول الأوروبية الاستعمارية الكبرى للاستئثار بغنائم الحرب العالمية الأولى. وفي المقابل وقعت 44 دولة على ميثاقها من بينها 31 دولة شاركت في الحرب العالمية الأولى». ولمزيد من الاطلاع على التفاصيل والوثائق يمكن مراجعة موقع « ويكيبيديا»: http://cutt.us/wbIu

[3] هذا ما صرح به فولفغانغ إيشنغر ،الدبلوماسي الألماني ومنظم مؤتمر ميونخ للأمن في 6/2/2015. على موقع الجزيرة نت:

http://cutt.us/W0rFn

[4] في الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى كتبJeffrey D. Sachs  مقالة بعنوان: « خراب الحرب – 21/7/2014»، يستذكر السياسات الفاشلة التي قامت الحرب على أساسها، ويرى« أن: الحرب العالمية الأولى كانت سبباً في إنهاء أربعة أنظمة إمبراطورية هي: الأسرة البروسية (آل هوهنتسولرن)، والأسرة الروسية (آل رومانوف)،  والأسرة التركية (العثمانية)، والأسرة النمساوية المجرية (هابسبورج) »، مشيرا إلى أن الحرب: « لم تسفر عن وفيات بالملايين فحسب؛ بل خلفت أيضاً إرثاً من الثورة، وإفلاس الدول، وتدابير الحماية، والانهيار المالي الذي مهد الساحة لصعود هتلر، والحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة». وأنه: « إلى يومنا هذا، لا نزال نعاني من آثار تلك الحرب». على موقع: http://cutt.us/rZPiR

[5] سليمان بن صالح الخراشي، « كيف تسللت الليبرالية إلى العالم الإسلامي؟»، بحث منقول بتصرف يسير من كتاب « الفكر الاجتماعي في مصر »، للدكتور بسام البطوش، نقلا عن: سامي سليمان السهمي، « التعليم والتغيير الاجتماعي في مصر في القرن التاسع عشر»، الهيئة المصرية العامة للكتاب (القاهرة)، 2000، ص 72- 75، ص 290- 296. موقع « صيد الفوائد»: http://cutt.us/jVRW

* كان رئيس الحكومة التركية، بولاند أجاويد، هو أول من تحدث سنة 1974 عن « الدولة العميقة». ولمزيد من التفاصيل عن المصطلح يمكن الاسترشاد بمقالة الدولة العميقة في موسوعة « ويكيبيديا» على الشبكة: http://cutt.us/5lK32

[6] أول رئيس حكومة في مصر كان أحمد شفيق الذي عينه الرئيس حسني مبارك قبيل الإطاحة به!! وأول وزير أول بتونس كان الباجي قائد السبسي. وكلاهما قاد الثورة المضادة منذ اللحظة الأولى.

[7]  لاحظ تصريحات الفرنسيين والبريطانيين والأمريكيين التي تطالب بدعم اللبراليين بدلا من الإسلاميين لأنهم لا يثقون بأن يتسلم الدولة غيرهم.    

[8] يعلم اللبراليون أنهم أقلية في المجتمع والدولة، لذا لا يعولون على صناديق الاقتراع لإزاحة بريق الإسلاميين من الشارع. وتبعا لذلك لا يعترفون بنتائج صناديق الاقتراع كما يطالب الإسلاميون، بل يعتبرون المجتمع جاهل لا يعرف مصالحه ولا مستقبله. أما لماذا يفعلون ذلك فلأنهم يحرصون على ضمان بقاء « الدولة القومية» علمانية بكل حمولتها التاريخية القادمة من عمق « الفكر القومي» الأوروبي و « عصر الأنوار» المعادي للدين أصلا. ولهذا يرون أن معركتهم الحقيقة تقع في مضمون الدستور وليس في صندوق الاقتراع. ولا ريب أنها رؤية صحيحة، طبقا للمرجعيات الفلسفية والسياسية والاجتماعية لـ « الدولة القومية». ومع أننا قد نجد من الإسلاميين من هو لبرالي أكثر من اللبراليين أنفسهم، إلا أن اللبراليين لا يثقون بهم. ويصرون على أن الإسلاميين يستعملون الديمقراطية كوسيلة، لمرة واحدة، يصلون بها إلى الحكم ثم ينقضون عليها. وبدورهم لا يريد الإسلاميون أن يقتنعوا بأن « الدولة القومية» ليست دولتهم بقدر ما هي دولة « المركز» ومرجعياته، وبالتالي لن يسمحوا لهم بتغيير هويتها وسماتها التاريخية والبنيوية. وهذا بالضبط هو جوهر الصراع مع الثورة المضادة في مصر وغير مصر.

[9] في سلسلة « الثورة السورية ومسارات التدويل» للباحث، ثمة عشرات التصريحات الموثقة في حلقات: « هوية الثورة وخياراتها(8) – 25/7/2012»، و « نحو الوصاية العسكرية!!! (9) – 25/8/2012»، و « الاختراق (11) – 18/11/2012»، و « البديل: إما إبل الثورة أو خنازير أوباما (12) – 23/11/2012»، و « الكمائن» و « الهررة» (13-1) – 18/3/2013»، و « حين تستأسد « الهررة»!!! (13-2) – 20/3/2013»، و « الصراع على النظام الدولي (14 / 2 – 2) -15/9/2013».                                                 

[10] « سيناتور أمريكي (مقابلة): إذا سقطت دمشق فنهاية أوروبا لن تكون بعيدة»، موقع قناة روسيا اليوم «­RT – 19/3/2015»، على الشبكة:  http://cutt.us/tDEXz، وعلى موقع « يوتيوب»:

[11] « الأسد: لا تفاوض مع الجماعات المسلحة، 11/12/2015، موقع« الجزيرة نت»، على الشبكة: http://cutt.us/c4MR4

[12] « بوتين يتحدث عن تنسيق مع الجيش الحر بسوريا»، 11/12/2015، موقع « الجزيرة نت»، على الشبكة: http://cutt.us/2BqWt

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى