منوعات

إمرأة من السماء

د. ممدوح المنير

كاتب وسياسي مصري.
عرض مقالات الكاتب

امراة عادية كانت تعيش يومًا ما بيننا ، ربما لا يلتفت إليها أحد، ولا يذكرها الناس كثيرًا أو قليلاً ، لكنها عند موتها حكت لنا قصتها البليغة دون أن تنطق بكلمة واحدة !

منذ صغرها “فايزة” و هذا هو اسمها ،تعلق قلبها بالسيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، وزيّنت حجرتها بكلمتها الشهيرة لابنها عبد الله بن الزبير لمّا تخاذل الناس عن نصرته ،فقالت له رضي الله عنها تقوي من عزيمته في حديث طويل كان آخره:

( كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن، والله لضربة بالسيف في عزٍّ، أحب ّإلي من ضربة بسوط في ذلٍّ، قال: إني أخاف إن قتلوني أن يمثلوا بي، قالت: يا بني إن الشاة لا يضرّها سلخها بعد ذبحها )

فشاهد هذه العبارة ابن عمها المهندس “صبحي ندا “و كان طالبًا في كلية الهندسة وقتها بمصر، وقد طلب منه عمه ان يذاكر لابنته فايزة الطالبة بالمرحلة الابتدائية بعض الدروس .

فسألها عن العبارة، وقائلها ،ولماذا تعلقها في غرفتها ؟ فأخبرته بتعلقها بالسيدة أسماء ،وحبها الشديد لها و أنها تريد أن تكون مثلها في الحقّ والدفاع عنه و التضحيه في سبيل الله حتى ولو بولدها!

حتى الآن تبدو القصة عادية امرأة صالحة تحب السيدة أسماء ،وأعجب بها ابن عمها وتزوجها و سافرت معه .

يحكي المهندس صبحي أن حبها للسيدة اسماء لم يكن عاديًا فقد تتبعت أثرها، ولم تترك كتابًا أو محاضرة عنها إلاّ و حفظتها ،بل بلغ بها التعلق أنه كان عائدًا من صلاة الفجر في السعودية ،فوجدها تغسل سيارته ! ، فسألها مندهشًا عمّا حملها على ذلك ، فقالت له إن أسماء كانت تغسل حصان زوجها سيدنا الزبير ، فأرادت الاقتداء بها ، فقال لها هذا اأام الصحابة الآن هذا فعل الرجال ،وسينكر عليها الجيران ، فقالت له ما فعلته أسماء سأفعله و أذن لها على الا تعيدها .

و وقت حرب العاشر من رمضان ،أو السادس من أكتوبر في مصر، وكانت صيحات الله أكبر تجلل من أصوات الجنود في المعركة ، فلما علمت بذلك كان الاختبار الأهم لأي مدّعي للحب ، التضحية .

فطلبت من زوجها أن يتبرع بكل ما جمعوه من مال للمجهود الحربي ،ولم تتركه حتى فعل ،ولم تكتف بذلك بل أقنعته ببيع أثاث المنزل كاملاً عدا المراتب التي ينامون عليها أولادها ،والتبرع بثمنه للحرب كذلك ، وقد كان !

و يستمر التعلق و يستمر الحب ، لقد اختارت فايزة هدفها الوحيد في حياتها هي دخول الجنة ،وسبيلها في ذلك الاقتداء بالسيدة أسماء، فركزت في هدفها فكانت الآخرة همّها و شغلها ،حتى مرضت مرض الموت و حجزت بالمستشفى.

و تحلّق حولها زوجها و ابناؤها ،وبينما هم كذلك ،جاءت لزيارتها امرأة عجوز عرفت بنفسها أنها والدة رئيس الجامعة التي يعمل فيها زوجها، فتركوها معها ،وانصرفوا احترامًا لها ،و لم يمض وقت طويل حتى فاضت روحها إلى بارئها .

ماتت المرأة الصالحة ،و بكى زوجها و ابناؤها ،ولما غسّلوها و كفّنوها و جهزوها للذهاب بها إلى المقابر ، جاء رئيس الجامعة و قال للمهندس صبحي دع لي قيادة السيارة فوضعك لا يسمح بقيادتها و خرجوا خارج المدينة التي يقطنون بها لدفنها والطريق طويل بالسيارات المشاركة في الجنازة .

حتى وجد رئيس الجامعة يسير بهم في طريق غير الطريق المعتاد للمقابر، فلما استفسر منه “صبحي” عن أي طريق يسلكون ؟ قاله له إن عائلته – رئيس الجامعة – قد قررت دفن زوجتك رحمها الله في مقابرها الخاصة ،فقال و له أين هي ؟ فقال له: أصبر ،وستعرف بعد قليل .

و بينما هم في الطريق تعطلت السيارة التي تحمل الجثمان أمام أحد المساجد ، فقال ” صبحي” لرئيس الجامعة سبحان الله هذا المسجد الذي كنّا نصلي و نرتاح فيه أثناء الطريق .

فطلب رئيس الجامعة من الموكب التوقف، و ترجّلوا جميعًا ،وصلوا في المسجد ركعتين إكرامًا لسنة هذه المرأة الصالحة، ثم قال رئيس الجامعة للمهندس صبحي ، زوجتك منذ قدمت إلى السعودية و هي تبحث و تتبع نسل السيدة أسماء رضي الله عنها، وعندما علمت أننا من نسلها تعرفت علينا و تزاورت مع نسائنا ،فلما مرضت مرضها الأخير ،وكنا قد علمنا مدى تعلقها بها ،وعدتها أمي أن تدفنها في مقابر العائلة بمكة و نحن الآن في الطريق إلى إليها.

فبكى المهندس صبحي فرحًا لزوجته وحسن خاتمتها ،وكبّر الجمع و لم يرجع أحد منهم رغم طول المسافة حتى وصلوا مقابر المهاجرين بالزاهر بمكة المكرمة؛ وتقدّم صاحبنا ،وفتح قبر السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها ،و نزل فيه، و قال للمهندس لم نفتح القبر لأحدٍ قبلها.

و ناوله الجثمان لتدفن في نفس قبر السيدة أسماء رضي الله عنها و لما انتهى كبّر وتهلل وجهه قائلاً :و الله إن رائحة المسك تفوح منها ،والنور يشع من جهتها ،ابشر يا مهندس صبحي زوجتك بإذن الله في رضوان الله ،وفي صحبة حبيبة قلبها السيدة أسماء رضي الله عنها.

و هكذا كما قال المصطفى صلى الله عليه و سلم ( يحشر المرء مع من أحب ) عاشت حياتها تحب السيدة أسماء ،وصدقت في حبها ،وكانت الآخرة هي شغلها الشاغل ،وكان رضى الله عنها هي بوصلة حياتها التي تتحرك وفقها ،فكانت نهايتها المشرقة باذن الله ،ولا نزكي على الله أحدًا و هو حسيبها .

هذه القصة الحقيقية رواها م صبحي رحمه الله في كتاب اسماه عاشقة ذات النطاقين يحكي فيه قصة زوجته فايزه و عاش رحمه الله بمدينة طنطا بدلتا مصر حتى توفّاه الله أواخر القرن الماضي .

هذه القصة تذكرة لنفسي أولاً و لمن يعيش في زمن اللهاث نعم اللهاث ، الجري حتى تنقطع الأنفاس وراء الدنيا و زينتها من أموال و أولاد و مساكن تروضها و تجارة نخشون كسادها .

و الله إن الحياة في سبيل الله قد تكون متعبة ولكنها هنيئة مربحة ، فإلى كل من تاهت بوصلته وانحرفت غايته وتوهم أن الدنيا هي الغاية ، الدنيا بما فيها سراب سرعان ما ينقشع ،والآخرة هي الحقيقة الوحيدة الباقية لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى