تحقيقات

هل خسرت التنظيمات العسكرية نفسها في الغوطة الشرقية؟

أحمد عبد الحميد

معد تقارير

كاتب صحفي
عرض مقالات الكاتب

وجدت التنظيمات وعلى اختلاف أيديولوجياتها ومعتقداتها في أرض الغوطة بيئةً خصبةً؛ لنشر أفكارها، ومنهجيتها، وتثبيت وجودها بعد الالتفاف الشعبي حولها،وكان ذلك كرد فعلٍ طبيعيٍّ على استخدام النظام القمع المفرط بداية الاحتجاجات المطالبة بإصلاحاتٍ حكوميةٍ شاملةٍ، وبالرغم من نجاح التنظيمات خلال سنوات الحصار في تطوير القدرات العسكرية، والعمل على إضفاء صفةٍ قانونية، وشرعيةٍ، وسياسيةٍ تمثلها خارجيًا، وتحجز لها كرسيًّا دبلوماسيًّا فاعلًا إلا أنها فاجأت الجميع بمسارٍ مختلفٍ مغايرٍ عما بدأت به،
إذ بدأت باستهداف بعضها إعلاميًا ، ودينيًا، ثم ختمته عسكريًا بهدف الاحتكار السياسي، والتفرد بالقرار، والسيطرة على منابع الدعم، وفرض نفسها أكثر.

وأولى النقاط الدموية في سجلات تلك التنظيمات هو الاقتتال الداخلي، والصدام المسلح، والإفراط في استخدام القوة، والعنف تجاه معارضي الطرفين.
بدأت بالاستئصال ما نتج عنها من تبعاتٍ كارثيّةٍ إذ شكلت تلك المرحلة تحولاً جذريًا في سياسة الإدارة، والتعامل الكامل مع من يخالف، وإحداثَ شروخ في شرائح المجتمع المحاصَر، ولّدت آثاراً سلبيةً كامنةً في النسيج الاجتماعي ضمن البيت الواحد، كان الهدف كله الاستحواذ على مراكز، ومواقع استراتيجية بغرض التحكم بها، والانفراد بتصدير منهجيةٍ دينيةٍ تؤمن بها كل جماعة وتعتبرها أسس حكمها المستقبلي، تدعمها بذلك ماكيناتٌ إعلاميةٌ تؤجّج من جهة، وتكيل الاتهامات، وتشعل الخلافات من جهة أخرى.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ بل تجاوز إلى استهداف الحريات الشخصية، والتدخل في ثقافة الاختيار عبر إحداث بعض التنظيمات لمكاتب شرعية تتدخل في الحريات الفردية كان في مقدمتها اللباس؛ بل باتت تلك التنظيمات تدسّ أمنييها في مفاصل الهيئات المدنية، والفعاليات الشعبية، والمنظمات الفاعلة بهدف كتابة التقارير، ورفعها ومصادرة أي رأي، فإما الإذعان، أو الانخراط، أو الموالية، وإما الأسوأ، وهو، العنف، والسجن والتغييب.

مع تطور تلك السياسة كان حصادها الأول اقتتالاً فصائلياً بين فصيلين يحمل كل منهما منهجيةً دينيةً مختلفةً، ويتبعان لمحورين سياسيين دوليين كان هدفهما إقصائياً بحتاً، إضافة إلى الرغبة في السيطرة على مناطق استراتيجية تتحكم بصنع القرار، والتأثير وإحداث ضغط أكبر على نظام الأسد، وبالتالي الاتجاه نحو التمثيل الوحيد لتلك البقعة الاستراتيجية. كل ذلك تدعمه الماكينات الإعلامية، والدينية التي نشأت منذ البداية، حيث نشّطت مهامها خاصة في تلك المرحلة، إذ بدأت بإصدار فتاوى واضحة تبيح القتل، واستحلال الدم، وبالنظر إلى ذلك التجييش كانت الحصيلة عددًا كبيرًا من القتلى العسكريين، و المدنيين، والإصابات الخطيرة والجرحى، إضافةً لخسارة أراضٍ محررةٍ واسعةٍ استطاعت قوات الأسد استغلال فرصة الانشغال بالاقتتال، والتقدم بعمقٍ واسع لاقتطاع تلك الأراضي التي تعدّ سلةً غذائيةً ضخمة لمحاصري الغوطة؛ ما زاد الاحتقان الشعبي العارم تجاه أطراف الاقتتال.

_ آثارٌ سلبيةٌ خلّفتها سياسة التنظيمات:

من جانبٍ آخر وفي زاويةٍ مختلفةٍ لم تهدأ عمليات اغتنام منشآتٍ صناعية، ومعامل ضخمةٍ بحجة غياب أصحابها عنها، أو نتيجة مواقفهم السياسية، أو اختلاف دينهم، إضافة إلى عمليات التنقيب المركزة، والبحث عن الآثار من تجار الحروب بشكلٍ منفرد، أو من عناصر تابعةٍ للتنظيمات في عدة أماكن في الغوطة الشرقية، كمدينة “جوبر” بوابة العاصمة دمشق، إذ تشتهر ب”كنيس يهودي” يعتبر أحد أهم الأبنية الأثرية اليهودية في سوريا، ويحتوي الكثير من المقتنيات الهامة. إضافةً إلى منطقة “تل فرزات” التل الأثري بالقرب من بلدة حوش الصالحية البالغ مساحته 10 هكتارات قرب مدينة النشابية ب17 كم إلى الشرق من دمشق.
إذ ظهرت أثمان هذه الآثار المهربة عياناً بعد أن غذّاها الفساد المالي الكبير في الغوطة على شكل مشاريع ضخمةٍ للمتنفذين في تلك التنظيمات، وانطلقت الاستثمارات بملايين الدولارات خارج سوريا.

_ اختراق أمني وعبث في حاجات المدنيين:

لم ير مدنيو الغوطة الشرقية مستودعات التنظيم، وما تحويه بشكلٍ فعلي إلا عند التهجير إذ حاول المتحكمون في هذه المستودعات طوال سنوات الحصار عرقلة توزيع المساعدات الإغاثة، والغذائية إلى المدنيين، حيث ظهرت المستودعات مكدسةً بالمواد منتهية الصلاحية نتيجة طول تخزينها، وخاصةً حليب الأطفال، والأدوية التي شكلت علامةً فارقةً في حياة كثير من الأطفال، والمرضى.

_ آثار اجتماعية وانحلال عرى المجتمع الواحد:

كان للاقتتال الفصائلي دورٌ واسعٌ أيضاً في توظيف العنف المفرط والممنهج في كثيرٍ من الأحيان داخل النسيج الاجتماعي، إضافةً إلى العبث في نظام العادات، والتقاليد، وخاصة العشائرية، والتحكم في مراحل النشوء الأولى تعليمياً من خلال توجيه كل تنظيمٍ للفكر الذي يؤمن به من اعتقادات مختلفة، والتركيز على الدين أكثر من بقية العلوم، ناهيك عن التفرقة والقذف والتخوين ضد الآخر.

خاصةً إذا ما علمنا أن الأسرة الواحدة ربما تنقسم في ولائها لأكثر من تنظيم، فضلاً عن خللٍ واضحٍ في تدريس تلك الفصائل عناصرها ثقافة التعاطي مع الآخر، والاتجاه نحو أولويات المرحلة الراهنة في تسيير الأمور المدنية بشكلٍ فاعل أكثر كونها جزءٌ لا يتجزأ من مكونات الشعب المحاصَر.

_ من الآثار الإيجابية.. محاولات لتطوير الخبرات:

لا شك أن تجربة استلام زمام الأمور ساهمت وبشكلٍ لافتٍ عند التنظيمات كافة عدا “المتطرفة منها” في الاطلاع على العمل السياسي، ومحاولة مسايرة تطورات المرحلة ولو أن ذلك الاطلاع لم يتطور لمرحلة التمرس؛ بل بقي مجرد محاولات، واجتهاداتٍ أخطأت في كثير من الأحيان ربما لحساسية المرحلة، وطبيعة الحدث، أو نتيجة عدم التزام النظام بأي حوارٍ، أو اتفاقٍ بين الطرفين.
إضافةً إلى إحراز تقدمٍ واسعٍ في مجال التصنيع العسكري المحلي، وحفر أنفاقٍ ساهمت بشكل كبير في تخفيف معاناة المدنيين بشكل، أو بآخر خلال سنوات الحصار، والحصول على بعض المواد الأساسية طبيةً كانت أم إغاثية.

_ محاولات لملمة ما تبقى.. ونبذ الفصائلية:

رسم التهجير شكلاً جديداً في ملامح المشهد المدني إذ بدأت العديد من التكتلات المدنية بالعمل على التقارب بين وجهات النظر، ومساعدة المدنيين في مناطق التهجير على كل الأصعدة، وإعادة توجيه البوصلة إلى دور المدنيين في إدارة العمل الجماعي الشامل دون إقصاء أحدٍ لمجرد الانتماء أو الأيديولوجية، أو الرأي، إضافةً إلى التركيز على العدو الأول للشعب السوري وهو نظام الأسد ومن يدعمه، في محاولةٍ من هذه التكتلات لطي صفحةٍ أقل ماتوصف بأنها صفحةٌ سوداء في سجلات الثورة السورية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى