بحوث ودراسات

قراءات في تاريخ سورية المعاصر – مشكلة الأقليات

معاذ السرّاج

باحث في تاريخ سورية المعاصر وشؤون الحركات الإسلامية
عرض مقالات الكاتب

مشكلة الأقليات، من المعضلات الكبرى التي واجهت سورية الحديثة في مختلف أدوارها، ومنها تفرعت المسألة الطائفية التي يعاني منها السوريون منذ عقود، ومع ذلك فقد ظلت بعيدة عن متناول أقلام الباحثين والناقدين.

عادة ما يُنظر إلى الأقليات، وهذا مصطلح وافد على ثقافة المنطقة وعليه الكثير من التحفظات، من منظور المواطنة والاستحقاقات الوطنية، وما تستتبعه من مناقشات تشريعية وقانونية، أو من منظور الصراعات الإثنية أو الطبقية، لكنها بصورة عامة تبتعد عن المقاربة الواقعية، وتُغفل جوانب مهمة تتعلق بمواقف الأقليات ودورها المباشر في أحداث تاريخ سورية المعاصر، إلى جانب أن تقويم أوضاع الأقليات ، كثيرًا ما ينطلق من تصورات مسبقة، ومقارنات غير مسلم بها.

ويجدر التمييز هنا بين الدراسات التي ترتبط وظيفتها بخدمة سياسات وأيديولوجيا معينة؛ وبين الدراسات المحايدة التي تستند إلى الوقائع وتتجرد من العواطف والمجاملات والمؤثرات الظرفية أيًا كانت. 

في سلسلة من المقالات حول مشكلة الأقليات ننطلق من التساؤل التالي:

هل كانت أوضاع الأقليات سيئة بالفعل في مشرقنا العربي؟

وفي محاولتنا للإجابة على هذا السؤال ،نقول: إن مجتمعات الشرق الأوسط وبلاد الشام, اتسمت عادة بأنها مجتمعات متعددة الأعراق والثقافات والمذاهب، وإن غلب عليها الانتساب إلى الإسلام والطابع العربي. وكان من نتائج الحصاد الإيجابي لسياسة التسامح التي سار عليها المسلمون، أنها رسّخت أكثر فأكثر “ميزة التنوع والتعدد، والتحول التدريجي إلى التجانس والتماثل, الذي تظهر معالمه في اللغة والثقافة والتقاليد والعادات والعلاقات الاجتماعية. وحسبنا أن نشير هنا وفي تاريخنا المعاصر, إلى المكانة المرموقة التي شغلتها شخصيات كثيرة من غير المسلمين، في مجالات السياسة والصحافة والفكر والأدب والشعر، لاسيما من المسيحيين أمثال سليمان البستاني وبطرس البستاني وناصيف اليازجي ومارون عبود وغيرهم، وأدباء المهجر أمثال جبران خليل جبران وإيليا أبي ماضي وخليل مطران وغيرهم.

وبمقدار ما اتسمت به الحضارة أو المدنية الإسلامية من التنوع والتعدد، فإنها في الوقت نفسه نتاج وميراث لكل الذين عاشوا تحت مظلتها وتفيؤوا ظلالها: مسلمين وغير مسلمين, عربا وغير عرب, من أهلها وسكانها الأصليين أو ممن وفدوا عليها من خارجها عبر الأزمنة والعصور؛ ومن هذا المنطلق فلا يصح أن يُقال إن الأقوام غير المسلمة لم يكن لها مكان أو دور في الدول الإسلامية التي عاشت في كنفها.

والذي عليه كبار المؤرخين، وتؤكده الدراسات الجادة أنه كلما كانت بلاد المسلمين قوية ومنيعة ومزدهرة، كانت الفئات غير المسلمة على أحسن حال من الازدهار والاستقرار. وإذا كان ثمة فترات ومراحل سيئة مرت بها هذه البلاد، فإن سوءها لا يقتصر على فئة دون فئة، كما أن تبعاتها والمسؤولية عنها لا ينبغي أن يتحملها أحد دون الآخرين مسلما كان أم غير مسلم.

على أنه ينبغي الإشارة هنا إلى أن النزعات الضيقة، والرغبات غير الواقعية التي أوجدتها وشجعتها التدخلات الخارجية هي التي أثارت الفتن والضغائن، وولّدت الفرقة والخلافات التي نتج عنها كثير من المشكلات التي تعاني منها المنطقة.

مراجع كثيرة وعدد من المؤرخين الأوربيين، تناولوا مكانة الأقليات ودورها في بلاد المسلمين. ففي كتاب “المجتمع الإسلامي والغرب” للمؤرخين “هاملتون جب” و”هارولد باون”، ذكر المؤلفان أن : “نسبة من التجارة المحلية في مصر وسورية وتركيا حتى نهاية القرن التاسع عشر كانت في أيدي المسيحيين السوريين واليونانيين واليهود والأرمن..”، وعزا “جب وباون” السبب في ذلك إلى أن ” هؤلاء يشبهون منافسيهم المسلمين في كونهم رعايا الإمبراطورية العثمانية”.

ومن المعلوم أنه في القرن التاسع عشر احتل كثير من الأرمن واليهود مناصب عليا في الدولة العثمانية: في مجلس الوزراء، وفي مجالات حيوية مثل الشؤون الخارجية والمالية، وكانوا نوابًا، وحكام أقاليم، وسفراء في عواصم حساسة مثل برلين وبروكسل ولندن وروما.. كما كانوا قناصل، وأساتذة جامعات، وإداريين محليين.

ويورد المؤرخ دونالد كواترت في كتابه “الدولة العثمانية”، شهادةً من “التقرير السنوي لأوضاع اليهود في تركيا” لعام 1893، الذي تنشره الجالية اليهودية في فرنسا ما نصه:

“تمتع اليهود في تركيا بقدر من المساواة قلّ نظيره حتى في أكثر البلاد حضارة ورقيًا. إن جلالة السلطان وحكومة الباب العالي ينتهجان سياسة بالغة التسامح تجاه اليهود”.

وذكر هؤلاء المؤرخون أن الخلافات العقائدية ظهرت تدريجيًا في الفترة التي نشطت خلالها الدول الأوربية تجاه المنطقة؛ وستزداد هذه الخلافات خطورة في غضون العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، عندما تتسع دائرة التدخلات الأجنبية في المنطقة، و”يتخذ الانخراط في التجارة الغربية حجما متزايدًا قالبًا التوازن الاجتماعي وموظفًا الامتيازات الأجنبية ونشاط القناصل والمرسلين والمدرسة الأجنبية في تكريس وتدعيم هذا التفوق وفي خرق مبدأ الرعوية العثمانية”، كما يقول د. وجيه الكوثراني

يؤكد عدد من المؤرخين أن الإصلاحات العثمانية التي بدأت في أربعينات القرن التاسع عشر, منحت الفئات غير المسلمة مزيدًا من الحقوق وفرصًا أكثر للمساواة مع المسلمين، ورأى فيليب خوري “أن التماهي مع المصالح التجارية والمالية الأوربية منح أعضاء البرجوازية المسيحية واليهودية حماية واسعة النطاق وأمنا اجتماعيًا سمحا لهم بتوسيع قواعدهم داخل طوائفهم، والحصول على تمثيل أكبر داخل الإدارات المحلية والمجالس البلدية ؛وفي غرفتي التجارة والصناعة وغيرها.

وفي هذا الإطار شرع كثير من التجار في إقامة علاقات وثيقة بالأوربيين، وتأسيس مصالح خاصة مكّنهم من بناء نفوذ اقتصادي واجتماعي قوي وبعيد المدى؛ ساعدهم في ذلك ما كانوا يحصلون عليها من السفراء الأجانب، من جوازات سفر وحماية تجارية بموجب نظام الامتيازات الأجنبية، الذي يخول السفراء في الآستانة أن يمنحوا براءات أو خطابات حماية يصدرها الباب العالي لعدد من الأشخاص يختارونهم لخدمتهم”.

ونتيجة ازدياد الأمن وحرية الحركة فقد تمكن زعماء هذه الأقليات من استخدام مواقعهم في الإدارة المحلية وروابطهم المالية والتجارية مع أوربا لإقامة قاعدة صلبة للثروة والنفوذ. وتعززت قوتهم الفعلية بعدما أصبحوا يشكلون الطبقة التجارية المتفوقة في دمشق. وبحكم موقعهم التجاري فقد قاموا باستيراد السلع الفخمة والمنتجات الأوربية ولعبوا دورًا حيويًا في الامتصاص التدريجي لاقتصاد الولاية وإلحاقه بذاك الأوربي، أعيان المدن – فيليب خوري

وبحكم عملهم كمقرضين للمال وكمصرفيين، كما يقول فيليب خوري: “فقد سيطر هؤلاء التجار على تدفق السيولة المالية في المدينة والريف ،وأنشأوا روابط اقتصادية متينة مع طبقة ملاك الأراضي المسلمين الغائبين عن أراضيهم بتوفير رأس المال اللازم لتمويل شرائهم للأراضي ومشاريع الإسكان الخاصة بهم”.

ويذكر فيليب خوري أن عائلتين مسيحيتين هما القدسي ودمشقية جمعتا بين المنصب الإداري ورأس المال التجاري في شراء عقارات واسعة، وكانت النتيجة أن انضمت هاتان العائلتان في نهاية القرن التاسع عشر إلى نادي كبار ملاك الأراضي بدمشق. وكان اثنان من أكبر مقرضي المال هما بشارة أصفر وعبده قدسي، ومسيحيون آخرون, قد بدأوا إدارة بنك ربوي في تلك الأيام لإقراض المال للفلاحين ثم وضع اليد على أراضيهم في النهاية. والكلام لايزال لفيليب خوري.

ومما يجدر ذكره أن فترة التحول من الحكم العثماني عشية الحرب الكبرى شهدت وجود ما لا يقل عن خمس عشرة عائلة من المسيحيين واليهود من بين خمسين من كبريات العوائل التي تمتلك النفوذ الاقتصادي والاجتماعي في دمشق. ولاشك أن هذه النسبة تعتبر ضئيلة إذا ما قورن بنظيرتها في بيروت وربما بنسبة أقل في القدس وحلب.

ولعل مما يستوجب توضيحًا أكثر لما آلت إليه التحولات الاجتماعية والاقتصادي في الفترة التي أعقبت انتصار الحلفاء في الحرب الأولى، أن نشير إلى أن تلك الأحداث أدّت إلى تآكل البرجوازية التجارية المسلمة، نتيجة تقطيع أوصال البلاد بحكم التجزئة الاستعمارية، والذي فقدت بسببه القدرة على توزيع بضائعها على الأقاليم المجاورة، لاسيما فلسطين والعراق وتركيا. ونتيجة لذلك فقد ازدادت معارضة التجار المسلمين للتشكيلات الجغرافية والسياسية الجديدة، مع اختفاء الأسواق والأنماط التجارية التقليدية ،وانهيار الصناعات المحلية, الأمر الذي أدّى إلى تدني مستوى معيشة الكثير من التجار والحرفيين، واهتزاز البنى الاجتماعية والاقتصادية السائدة آنذاك، بل إن المجتمع الإسلامي برمته تعرض للاضطراب نتيجة تهديد ركائزه الاقتصادية وقيمه الدينية والأخلاقية.

يرى د. وجيه الكوثراني : “الإسلام السني -إسلام المدن  التجارية والحرفية- كان يحاول عبر ممثليه الإصلاحيين الذين حملوا لواء “التجديد” ضمن العودة إلى “الأصول” أن يواجه بأشكال من المقاومة والتكيف نتائج التغلغل الأوربي حتى في مستوياته الاقتصادية والتقنية”.

وفي سياق عملية التكيف هذه اندرجت محاولة الشيخ محمد سعيد القاسمي وابنه جمال الدين في تأليف كتاب “قاموس الصناعات الشامية” في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، أحصى فيها الشيخان (437) حرفة تعمل في دمشق حينها.

ومن المؤكد أن هذا الجهد، وله نماذج كثيرة مماثلة، إنما كان في مجال الدفاع عن الصنائع المهددة وتطويرها “تقنيا”، وذلك على أساس الدعوة “التجديدية للإسلام ومبدأ منفعة الجماعة أو ما يُعرف بالاستصلاح, الذي هو شكل من أشكال الاجتهاد”

وقد وصف د. الكوثراني اهتمام الشيخ القاسمي بتسجيل مهن دمشق وأساليبها التقنية القديمة في ذلك الوقت، بأنه “كان يعكس هاجس مصلح ديني يحاول في الوقت نفسه أن يقاوم ويتكيف بمواجهة العالم الحديث”.

ونقل د. الكوثراني عن المؤرخ شوفالييه قوله – تعليقا على ظروف تأليف هذه المخطوطة – : “لماذا خرج الشيخ  سعيدالقاسمي من مسجد سنان باشا حيث كان يقوم بمهمة “الإمامة” ليجوب الأسواق بحثا عن المهن التي تزاول في مدينته؟ فيعدد المهن ذات التقنيات والأساليب العائدة إلى القرون الوسطى وذلك في اللحظة ذاتها التي كانت البواخر فيها وعلى بعد 100 كلم، تفرغ على أرصفة مرفأ بيروت البضائع المصنعة القادمة من أوربا” 166.

المراجع:

وجيه الكوثراني: بلاد الشام في مطلع القرن العشرين

وجيه الكوثراني: السلطة والمجتمع والعمل السياسي من تاريخ الولاية العثمانية                     

                       في بلاد الشام

عبد العزيز محمد عوض: الإدارة العثمانية في ولاية سورية (1840 – 1914)

فيليب خوري: سورية والانتداب الفرنسي

فيليب خوري: أعيان دمشق والقومية العربية

ندوة حوارية: المسيحيون العرب – 1981

دونالد كواترت: تاريخ الدولة العثمانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى