مقالات

جدليّة المدينة والريف في المجتمع السوري

محمد علي صابوني

كاتب وباحث سياسي.
عرض مقالات الكاتب

لا يمكن الحديث عن العلاقة بين الريف والمدينة في سورية بعيداً عن تتبع الأمر منذ بدايته ولو باستطراد قصير كي ندرك مراحل تطور تلك العلاقة وتحولاتها .
■ من هنا كانت البداية
من المعلوم لدى معظم من تابع و يتابع تاريخ المنطقة أنه بعد زوال الخلافة العثمانية، نشطت حركات الفلاحين في سورية ضد العائلات الإقطاعية، وأهمها آل العظم والبرازي والكيلاني والشرابي وغيرهم . ثم في آذار من عام 1951 عقد الحزب العربي الاشتراكي الذي أسسه الأرسوزي مؤتمره الأول، ووجد في الفلاحين جماهير جاهزة للاندفاع معه ضد الإقطاع، واندمج مع حركة البعث العربي كما نعلم في نهاية عام 1952، حيث كانت قد تأسست تلك الحركة عام 1947. ليكوّنا بعد الاندماج ما عرف فيما بعد بحزب البعث العربي الاشتراكي
وبعد أن تبلورت فكرة الوحدة بين سورية ومصر  اشترط جمال عبدالناصر  حل الأحزاب في سورية قبل إعلان الوحدة حيث عانت معظم الأحزاب وخاصة حزب البعث من التمزق والتشتت في تلك الفترة، وخسر عددا كبيرا من قياداته وأعضائه في المدن، وهو الذي كان يعاني أصلاً من ضعف في وجوده ضمن المدن الكبرى، وغلبة أبناء الريف الذين وجدوا فيه تعبيرا عن أوضاعهم وطموحاتهم.
■ مرحلة السيطرة البعثية
واجه نظام البعث، منذ سيطرته على السلطة عام 1963، معارضة قوية، إثر تجريد النخب الحاكمة من سلطتها السياسية وسلطتها الاقتصادية، وقد تمثل ذلك بإزالة النخبة الاقتصادية المالكة عبر إجراءات مصادرة ملكيات الأرض الكبيرة، وتوزيع جزء منها على الفلاحين، وتأميم الشركات الصناعية والتجارية، فوجد الحزب أن تأسيس قاعدة شعبية له في الأرياف السورية هو المتنفس له والضامن لاستمراريته وهو الذي كان يفتقد للشعبية وخاصة بُعيد الانفصال بين سوريا ومصر. ولأن النخب السياسية والاقتصادية المبعَدة عن السلطة كانوا جلهم من أبناء المدن الكبرى ، فقد تحولت المدينة إلى حاضنة لمعارضة النظام في الستينات وحتى بداية الثمانينات ومن هنا نما الشرخ وتفاقم بين المدينة والريف حيث وصل إلى مراحل متقدمة في عهد النظام الطائفي الأسدي ولا أقول العلوي .فالثاني ربما كان سيعتمد على السيئين من طيف واحد من أبناء البلد أما الأول الذي أعنيه فقد اعتمد على السيئين من كافة المذاهب والأطياف والطوائف .
■ إنعكاسات الشرخ على الثورة السورية
انعكست تلك الهوة بشكل او بآخر على مراحل الثورة السورية ، لكن .. وبغض النظر عن بعض الاصوات والاتهامات التي ظهرت هنا وهناك وخاصة تلك التي تبناها بعض المحسوبين على الثورة السورية زوراً و اختزلوا قضية تسليح الثورة السورية بمزاج أهل الأرياف متجاهلين الأسباب والدوافع الحقيقية وراء انتقال الثورة السورية من سلمية إلى مسلحة حيث ثبت أن نظام دمشق وحلفائه كانوا خلف فكرة تسليح الثوار وذلك لسهولة لصق تهمة “الإرهاب” بهم واستغلال الموقف الدولي المؤيد لفكرة “محاربة الإرهاب والتطرف” .. لكن كل ماسبق لا ينفي أن الثورة عملت على رأب الصدع الموجود بين المدينة والريف إلى حد بعيد وخاصة في بدايتها ووحدت السوريين بكافة أطيافهم حيث كان شعارهم الأول الذي صدحت حناجرهم به : ( الشعب السوري واحد) وهذا ما قضّ مضجع النظام فأعاد انتاج لعبته القديمة ولكن بشكل جديد ، حيث في غياب دولة المواطنة يمكن للجهة المتسلطة أن تلعب على أوتار قذرة كثيرة ومنها هذا الوتر فمنذ تسلّم النظام الأسدي للسلطة ، كرس البعثيون التفرقة والصراع بين الريف والمدينة، إذ كانوا يفضِّلون ابن الريف على ابن المدينة في الوظائف، والبعثات الدراسية العليا ،وخاصة في أرياف الساحل ، فضلاً عما كان يحدث في انتخابات حزب البعث، إذ كان أبناء الريف ينسِّبُون إلى الحزب أقرباءهم وأبناء عشائرهم -طبعاً بتوجيه غير مباشر من القيادة- إلى أن بدأت تتشكل حالة من الامتعاض لدى أهل المدن الكبرى وحين كانت تقوى تلك الصراعات وتشتد عندئذ يُستعان بالقيادة القُطرية التي تكون قد فرضت أعدادا للمرشحين  أكثر من المطلوب، لتعيّن منهم ما يوافق مزاجها المريض، وتستبعد من لا ترغب به حتى وإن نال أعلى الأصوات، وقد حصل هذا كثيرا وكان ينطبق على انتخابات ما يدعى بمجلس الشعب أيضاً .
والمفارقة أن حزب البعث رفع شعاراً خلبياً وسوّقه وهو “ردم الهوّة بين الريف” والمدينة، لكن الأيام أثبتت أنه فشل في ذلك فكان يردم الهوة من جانب واحد فقط حيث عمل على ترييف المدن بدل أن يمدّن الريف ، كما فشل في عموم الشعارات التي رفعها من وحدة .. وحرية .. واشتراكية .. ففرّق بدل أن يوحد ، وقمع بدل أن يحرّر . وسلب ونهب مقدّرات البلد بدل أن يطبّق “الملكية الجماعية”
■ المراحل الأساسية لنشوء الدولة الحديثة
إن من أهم وأخطر المراحل التي يمر بها بناء الدولة الحديثة هي مراحل التحول الأولى من النظم الشمولية القمعية إلى نظام حديث يتم فيه رسم وتمكين البنية الأساسية لهذه الدولة على اسس مختلفة
كما أن إعادة نشوء الدولة مجدداً بُعيد الثورة عادة ما يرفع من سقف طموحات كل فئة في نيل أكبر قدر ممكن من الحصص الثقافية والاجتماعية والسياسية، هذا إن لم يرتقِ حلمهم إلى السيطرة على مفاصل الدولة  فإن “التضحية الثورية” ستكون حاضرة بقوة للمطالبة بمكاسب سياسية واضحة.
وبطبيعة الحال تعد هذه المرحلة هي الحلقة الأضعف في سلسلة ومحطات بناء الدولة الحديثة مما يتطلب وضوحاً وجلاءً كبيرين لاستحقاقات هذه المرحلة بالذات وذلك بحتمية إنجاز مشروع لبناء الهوية الوطنية الواحدة والجامعة لكافة مكونات المجتمع كأساس وخطوة أولى في بناء الدولة الحديثة.
ويُقصد بالهوية الوطنية الواحدة الجامعة ذلك الوعاء الوطني الكبير الذي يستوعب كل طوائف ومكونات المجتمع ليخلق منه وبه كياناً كبيراً وقوياً يمثل الجميع ولا يقصي أو يلغي أحداً، بل يقوي هذا الكيان وينميه داخل الإطار الوطني العام
والحقيقة أن الهوية الوطنية الجامعة يجب أن تكون الدستور الضمني غير المكتوب وغير المعلن،  والمتجسد في نفوس أبناء الوطن الواحد ليعتنقوه ويطبقوه ويحافظوا عليه كجزء من تكوينهم الوجداني والذهني  قبل أن يكون مكوناً قانونياً مكتوباً يُرجع إليه، حيث تؤكد حقائق التاريخ الإنساني الحديث ضرورة البدء ببناء وتمكين الهوية الوطنية الواحدة الجامعة للمجتمع الواحد كبنية تأسيسه لباقي مراحل وعمليات إنشاء الدولة الحديثة، وذلك ما أكدته تجارب الولايات المتحدة الأميركية -بالرغم من موقفنا من سياساتها الخارجية- إلا أنها أنموذجا يمكن الاستئناس به في هذه الجزئية  حين بادرت  بصناعة الهوية الوطنية الأمريكية التي استوعبت أضخم تعدد وتنوع عرفته البشرية ومزجته في كيان واحد موحد ومنظم وموجه لتحقيق المصالح الأميركية العليا، كذلك الأمة اليابانية والبريطانية والفرنسية، والماليزية وأخيرا المثال الأقرب إلينا وهي تركيا حيث تتنوع القوميات والمذاهب والطوائف فيها باختلاف عرقي فضلا عن الديني واللغوي ومع ذلك تجد الهوية الوطنية هي الطاغية على كل تلك الاختلافات .
وجميع تلك الدول لم تصل الى ما وصلت اليه الا بتقديم الهوية الوطنية الواحدة على جميع الهويات الفرعية لمواطنيها حيث عملت على زرع ورعاية بذور الوطنية الواحدة في عقول أبنائها منذ طفولتهم لتنمو وتكبر معهم وبهم وتشكل في وجدانهم الطريق الوحيد للانعتاق من تبعات الأمراض المجتمعية الكثيرة ومنها الطائفية و المناطقية والعصبية المقيتة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى