دين ودنيا

لا تدبُّرَ سديدَ للقرآن ولا تفسير من غيرِ علمٍ لُغوي وفقهٍ سُنني

أ.د. مسعود صحراوي

جامعة الأغواط- الجزائر
عرض مقالات الكاتب

يقول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم […واتَّقُوا اللهَ، ويُعَلّمُكُمُ اللهُ، واللهُ بكلِّ شيءٍ عليم] (البقرة، 280)

في الآية الكريمة جمعٌ بين العلم والتقوى في سياق واحد، ولكن من غير أن تربط بينهما ربطا سَبَبيا آليا مباشرا، على غير ما يفهمه بعضهم ممن عرفنا والتقينا من طلبة العلم، الذين يستدلون به على أن تحقق الإنسان بالتقوى وحدها (بمعنى الورع ومخافة الله) يفضي آليا وتلقائيا إلى “تحصيل العلم” دون أن يبذل جهدا آخر في تحصيله، ضمن شيوع نزعة تواكلية منافية لسنن الله الماضية في الأنفس والمجتمعات، وهذا فهم غير صحيح واستدلال غير مناسب، وبيان ذلك لغويا أن تركيب هذا الجزء من الآية الكريمة لا يساعد على هذا الفهم ولا يؤيده، وذلك لوجود “الواو” بين شطري النص، فهما جملتان منفصلتان متتابعتان لا جملة واحدة، بل ثلاث جمل كل جملة مستقلة على حِدَة، وكلها تعقيب على تشريع الدَّيْن…ولو كان المعنى المقصود هو ما فهموه (الربط السببي المباشر الآلي بين التقوى وتحصيل الإنسان للعلم) لكان تركيب الآية كالآتي: [واتقوا الله يُعلِّمْكم الله] (دون واو) في جملة واحدة لا جملتين، بما يفيد تعليق شيء بشيء آخر فيما يسمى في النحو العربي “جواب الطلب” الذي يقتضي جزم الفعل المضارع الواقع في جوابه الطلب (يعلّمْكم)… وهذا الأسلوب شبيه بأسلوب الشرط (أو هو شرطٌ معدّل)، والشرط قيدٌ على المعنى داخل التركيب كما هو معروف في علم العربية. والفعل المضارع هنا مرفوع وليس مجزوما، والجملة مستأنفة، وهذا معطى سياقي موضوعي لا يمكن تجاهله اتّباعا لأقوال غير مؤسسة، بل هذه قرينه قوية تنفي الارتباطَ المباشرَ المدَّعَى، العاري عن الأخذ بأسباب التحصيل العلمي.

ومن جعل هذه “الواو” للتعليل ذهب إلى أن حصول العلم علتُه التقوى، كأنه يريد: اتقوا الله كي يُعلمَكم الله…كأن الاتصاف بالتقوى هو سببُ إفاضة العلوم، وإذا كان كذلك فهو وعْدٌ بالإنعام كما قال القرطبي، وإلى مثل هذا القول ذهب القاضي البيضاوي وابن عاشور، والظاهر أنه هو رأي ابن تيمية، وهذا هو الصواب. ونُلحُّ هنا على أنّ المنطقَ القرآنيَّ واتجاهَهُ العامَّ منطقٌ سننيٌّ يأخذ بالأسباب، ويعملُ على وفق سنن الهداية، وسنن الأنفس والمجتمعات وسنن الآفاق، وسنن التغيير وسنن التسخير، كما عبّر الدكتور الطيب برغوث في بعض كتبه… وهو مناف للسلوك التواكلي والذهنيات الخرافية التي شاعت بين المسلمين منذ قرون خصوصا في “مجتمع ما بعد الموحدين” بتعبير مالك بن نبي رحمه الله.

والإنعام الموعود به هنا هو نعمةُ إنزال القرآن بما يتضمّنه من بيان النظام المعرفي الجديد (العقائد والعبادات والتشريعات والأخلاق، وشرح سنن الهداية وسنن الأنفس والآفاق وغيرها… المبثوثة في هذا الكتاب المجيد)، بما يفيد أنَّ على المؤمنين -خصوصا في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم- واجبَ التقوى والله سبحانه سيتولى الباقي… وهو إنزال العلم (الوحي القرآني) على نبيه عليه الصلاة والسلام ليعلمهم ما لم يكونوا يعلمون.

والعلمُ في هذا السياق ونظرائه من آيات الكتاب العزيز يُراد به “الوحيُ القرآني” خصوصا و”وحيُ الله” الذي أنزله الله على أنبيائه عموما، وقد تكرر وُرودُه في القرآن الكريم في سياقات كثيرة؛ نَذكُرُ منها في هذه العُجالةِ قولَ الحقِّ تبارك وتعالى: [ويُعلّمُكم ما لم تَكونوا تَعْلَمون] (البقرة، 151) وقوله [وعلَّمَك ما لم تَكنْ تَعْلمُ وكان فضلُ اللهِ عليك عظيما] (النساء،113) وقوله في بني إسرائيل [فما اخْتَلَفوا إلا مِن بعْدِ ما جاءَهُم العلمُ بغيا بينهم] (الجاثية، 17) وقوله [وما أُوتِيتُم من العِلمِ إلا قليلا] (الإسراء، 85) وقوله [ولا تَعْجَلْ بالقرآنِ من قبْلِ أن يُقْضى إليك وَحْيُه وقل ربِّ زدني علما] (طه، 114) …الخ، فواضحٌ من هذه السياقات- وغيرُها كثير مبثوث في آي الكتاب المجيد- أن المرادَ بـ”العلم” في سورة الجاثية “التوراة”، وأما في الآيات الأخرى فهو “الوحي القرآني”.

والخلاصةُ أن معنى الآية متوافقٌ مع السننِ الكونيةِ العامةِ؛ وهو عدمُ حصولِ العلم-أيّ علم- دون الأخذ بالأسباب، أي دونَ بذلِ أي جُهدٍ وسَعْيٍ في التحصيل وسَهَرٍ ومكابدةِ الكتب ومجالسةِ العلماء والأساتذة والشيوخ والأخذِ عنهم وسؤالِهم ومدارستهم – إضافة إلى توفيق الله… فاكتسابُ العلمِ للآحاد من الناس جارٍ على السنة الكونية العامة في البشر، كما قيل “إنما العلمُ بالتعلم”… فليس هناك تلازمٌ سببي مباشرٌ بين التقوى وحصول العلم، وهذا المعنى يصدّقه تاريخ أمتنا وتاريخ البشرية، لكن من الضروري أن نُذَكّر هنا أنّ التحقق بـ”التقوى” يزيد العلمَ بركة ونفعا، والتقوى تتسبب في تيسير الأمور كلها وتُبارك في الأرزاق والأعمار والأعمال والجهود وغيرها.

ومما قد يُستنبط من هذه اللفتة القرآنية الكريمة-بمفهوم الموافقة وفي سياق الوعي السنني الذي يبثه فينا هذا الكتاب المجيد- أن صناعة التاريخ من منظور إسلامي قرآني قائمة على سنن وقوانين ولا تأتينا ثمارها دون بذل الجهد والأخذ بالأسباب؛ فكل بناء حضاري سلمي، وكل تغيير للواقع وكل فعل ثوري تحرري لإزالة استعمار أو نظام ظالم أو طاغية مستبد، أو تغيير  اجتماعي… لا يتحقق بالكلام الفارغ والعواطف والأشواق والأماني وحدها… ولكن بالعمل الجماعي وبذل الجهد والمبادرة وتحويل المبادئ والأفكار إلى مبادرات ومشاريع نهضوية مفيدة وتحويل الحلم إلى واقع، وحبذا لو تكون أعمالا جماعية منظمة ومتكاملة كما قال المفكر مالك بن نبي “ميزانية التاريخ ليست رصيدًا منالكلام، بل كتلٌ من النشاط المادي، ومن الأفكار التي لها كثافة الواقع ووزنه”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى