مقالات

رَدْغَةَ الخَبالِ

محمد علي الباز

كاتب وباحث في العلوم السياسية
عرض مقالات الكاتب

أشرقت شمس هذا القرن الواحد والعشرين حارة ملتهبة ، فأشعلت نار الثورات فى البلاد العربية فيما يسمي بالربيع العربي ؛ فتنفست الشعوب العربية والإسلامية نسيم الحرية ، وهبت لاسترداد حرية مغصوبة  ورغبت فى حياة إنسانية مفقودة . فتقدمت الحركة الإسلامية من هذه الشعوب لحمل الأمانة وقيادة الأمة وإعادة المشروع الإسلامي صورة حية أمام الناس ، ولكن سرعان ما انقلبت الآفاق الرحبة والآمال الواسعة لهذه الحركات والشعوب غصة فى قلوبهم ونارا تصلى بها جباههم وأيامهم .

ولا يتسع المقام هنا رواية هذه الأحداث أو التعليق عليها .

  فبعدما أظلم الطريق فى وجه الربيع العربي ،وعم ظلامه بلدانًا أخرى كانت تنتظر شروق شمسه فى مُدنها وقُراها ، أظلم أيضا فى زاوية أخرى أكثر قتامه ووحشة وحِده  ، فى وجه المفكرين والمنظِرين لنهضة هذه الأمة  وإعادة بنائها مرة أخرى ، سواء كانوا من الحركة الإسلامية أو من خارجها .

ومع الإخفاق فى مواجهه هذه الردة عن الربيع العربي مِن الحركة الإسلامية فى مصر واليمن وسوريا وغيرها وعجز مفكري هذه الحركات عن تفسير هذه الظواهر والأحداث والتعامل معها ؛ زامن هذا كله تغيرات كبيرة وحادة فى هذا العالم سياسيه واقتصاديه واجتماعيه مما لابد من تأثيره سلبا أو إيجابا على حاضر امتنا العربية والإسلامية فهوَت الأمة كُلها فى هُوة يَذهل عنها عقل كل لبيب(1) ووقعت فى رَدْغَةَ الخَبالِ بعد تيه طويل وحَيرة ممزِقة . هذا التيه الطويل لم يسلم منه احد ، فها نحن فى هذا التيه ثالث ثلاثة لا رابع لنا ،إما عازفون منتظرون ،وإما مُغيبون ، وإما باحثون عن الحق والطريق والمستقيم فى هذه الظلمات .

أما العازف؛ فقد اسلم أمره وسار فى ركاب القوم إن بقى فيه شيء من خير، فهو يقيمُه بقلبه تارك كل هذا الخلط واللُجاجة فى انتظار صوت العقل والحكمة ينادى إلى الطريق المستقيم على منهج واضح قويم .

أما المغيبون ؛وهم اخطر هذه الفئات الممخرقون فى سمادير الجهل والوهم والغفلة ،لا يقدرون هذه الأحداث والتطورات حق قدرها وخطورتها , لا حاجه لهم فى العلم والبحث والدراسة فهذا قدر الله ليس معه إلا الصبر والثبات قد أتلفت عزائمهم الأماني والأحلام وأذهلت الصدمة عقولهم وأفئدتهم فتوقفت عن العمل إلا من المسكنة والنحيب ، فهم فى ثُبات عميق ينتظرون الفرج والنصر دون عمل أو تعب . واخطر ما يفعله هؤلاء دعوتهم الناس إلى تجرع هذه المادة الخبيثة ليهووا بعدها فى غياهب الأوهام والركود والاستسلام ظنا منهم أنهم على منهج صحيح قويم .

أما أمل هذه الأمة وعزُها القادم وشروقها المنتَظر، فهم هؤلاء الباحثون عن النور فى هذه الظلمات وعن الهداية وسط هذه الحيرة والتيه ، هدانا الله وإياكم إلى الرشد والحق والنور المبين . إن طريق الهداية إلى الرشد وأول خطوة فى طريق الإصلاح تبدأ فى تشخيص عللنا وفهمها وإدراك أبعادها ومُسبباتها ،فإذا وقفنا عند حدود هذه الأمراض وقفةً جادة أعملنا فيها منهجنا للإصلاح على فهم دقيق وقلب سليم وذوق حاد متفرد .

إن عِلّاتنا هى هى كانت ولازالت وباقية معنا فهي منا ونحن منها ، تخبو فينا نار الإيمان فتَضرَم بنا نار الفتن والعصبية والفردية اللعينة،  وتستعر فينا نار الإيمان وتعلو فلا تجد أمراضنا شيئًا يقيمها فتخبوا نارها وتنطفئ .

ومن عِلّاتنا الأصيلة الفردية اللعينة التي كتب عنها الأستاذ احمد حسن الزيات

 ( إن الفردية تعلو فتكون الاستبداد وتسفل فتكون الأنانية ، وان الجمعية ترتفع فتكون الإنسانية وتنخفض فتكون العصبية ، وان بين الإنسانية والعصبية شعبا يعز وأمة ترقى وذكرا يبقى وأثرًا يخلد ، ولكن بين الاستبداد والأنانية تحكم الهوى وشقاء العيش وذل الأبد ) (2)

وعنها قال أبو العلاء المعري

وكيف يُؤمل الإنسان رشدا   وما ينفكُ متبعًا هواه

  يظنُ بنفسهِ شرفاً وقدرا   كأنَ الله لم يخلق سواه

 ومنها التبعية العمياء ظاهرة وباطنه، والتقليد الأحمق ولا أبينَ هنا مما خطه الأستاذ محمود شاكر

 ( وكل حضارة نامية تريد أن تفرض وجودها وتبلغ تمام تكوينها إذا لم تستقل بتذوق حساس حاد نافذ تختص به وتنفرد , لم يكن لإرادتها  فى فرض وجودها معنى يعقل ، بل تكاد هذه الإرادة أن تكون ضربا من التوهم والأحلام لا خير فيه ، فحُسن التذوق يعنى سلامه القلب والعقل من الآفات ، فهو لُب الحضارة وقوامها لأنه أيضا قوام الإنسان العاقل المدرك الذي تقوم به الحضارة ) (3)

( إن لكل أمة تطلب مجدها وحريتها وسيادتها أسلوب متبعا وسبيلا مقررة لاعوَج فيها ولا أمت فلنطلب لأنفسنا أسلوباً وسبيلاً ولننشأ بيوتنا ومدارسنا واجتماعنا نشأة أُخرى غير هذه التي نحن عليها من التقليد المريض الذي ذهب بشبابنا واستهلك مادة الحياة فينا ) (4)

  ومنها الحمية الجاهلية والتي زادها الاستخراب بعد الحرب الكونية العالمية وأضاف لها العصبية الجنسية والقومية الوطنية ، وهذا البلاء القديم الجديد نسجه علينا عدو حاذق نافذ البصر فى عيوبنا نسيجًا متقنا لا ندري كيف أو متى سنحُل عقده ،لقد جمعوا له أصواف القبائل و أوبار البلدان فى خِفيه طويلة  ثم نسجوها على حدود ، عقدوا عليها عقود اللون والجنس والقبيلة فأشعلوا نار الطورانية و الامازيغية والفارسية والفرعونية وغيرها.

 وهنا يصفها لوثروب ستودارد فى حاضر العالم الإسلامي  

(هنا ينتهي وصفنا للعصبيات الجنسية فى العالم الإسلامي، ولعمر الحق ليس من الغرابة فى شيء أن ترى الشرق وقد ارتوت نفوس شعوبه وأممه بضروب من المطامح القومية والآمال الاستقلالية ، التي هاجتها الحرب الكونية أعظم هياج فصيرتها نارا ذات لهب ، أن ينقلب بسبب خاتمة الحرب التي نزلت عليه ويلا عميماً وبلاء شاملا ، مرجلا شديد الغليان فوارًا ، وبركانا ثائرًا .) (5)

وينقل عن الكاتب الفرنسي سرفيه:

  ( إن العصبية الجنسية الإسلامية ليست هياجًا موضعيا فى قطر معدوما فى الأخر ، أو اضطرابًا موضعيا غير منظم ، بل هى تيار جارف بعيد الأفق ن وطوفان طام العالم الإسلامي طرا من آسية والهند وافريقية ،  فالعصبية الجنسية إنما هى شكل حديث للإسلام له منعة فى ذاته لا يقوى على زعزعتها الاصطدام بالحضارة الغربية .) (6)

إن هذه العلل والأمراض وغيرها لها مادة فى نفوسنا جميعا ، ومادة أخرى تشعلها ، ومادة ثالثة تطفئها . فإذا جهلنا أصل المرض فينا واصله فى نفوسنا ، فقد جهلنا أصلنا وطبيعة نفوسنا ، وإذا لم نفطن إلى ما يشعلها أوشكت الفتن أن تغشانا كقطع الليل المظلم ، وإذا لم نعلم منهاجنا وشرعتنا فى رد الشبهات وإخماد الفتن و مُداوة الأمراض القديمة والحديثة والمستحدثة ، فيعلم الله إلى أي  حال سنمضى .

 والعمل اليوم فى فهم هذه المواد وتفنيد هذه الأمراض ومعالجتها على منهاج وشرعة خالصة لنا ، هو مفازة عظيمة ومهلكة قلما ينجو منها سالك ، إننا اليوم نقف فى زاوية حادة من تاريخ امتنا إن لم نقم فيها بالحق , ونعمل بالجد والعلم ، ونتحصن بالإيمان ، ونحارب الأهواء وحظوظ النفوس ؛ فنسال الله ألّا يطيل بقاءنا فى رَدْغَةَ الخَبالِ .

الهوامش

  • هذا عجز بيت لزهير بن أبى سلمى والبيت كاملا

                          ثلاث يعزُ الصبر عند حلولها     ويذهلُ عنها عقل كل لبيب

  • كتاب المقتبس من وحى الرسالة  ص 81
  • كتاب أباطيل وأسمار
  • كتاب جمهرة المقالات ص 702-703 نسخة مكتبة الخانجى .
  • كتاب حاضر العالم الإسلامي ص 124 المجلد الرابع  طبعة دار الفكر .
  • كتاب حاضر العالم الإسلامي ص 123 المجلد الرابع  طبعة دار الفكر ، نقلا عن كتاب العصبية الجنسية الإسلامية لسرفيه  .  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى