منوعات

هموم تغرد خارج السرب

مصعب الأحمد

كاتب وباحث وشاعر سوري
عرض مقالات الكاتب

الأمم مذ كانت تهتم بالأصول ، وعندما تنشغل هي أو يشغلها أعداءها بالفروع عن الأصول  ، عندها فقط تتحول من أمة الى غثاء ، عندما يضطرب في عقلها مفهوم المقاصد ، وتختل موازين المصالح ، عندها فقط ترى -ويالهول ما ترى – دماء تسفك وعلماء يجلسون في الزوايا يتخلفون فيما لو مسخ الله اباهم حجرا هل يورث ؟
ترى أعراضًا تنتهك وأموالًا تسرق ،وسياسيون جالسون في الفنادق يختلفون في تقسيم الكعكة التي لن يذوقوا منها الا مرارة الخذلان ..
ترى أطفالاً تضيع وأجيالاً تفسد، والذين وكِل بهم شأن الإصلاح منشغلون بحكم جواز الاحتفال بالمولد النبوي ..
ترى نساءً تفسق وشبابًا يلحدون – الدعاة الى الله-  يختلفون منذ عشر سنوات في حكم جواز الخروج على الحاكم ،وهل الشيعي الذي يقتلني الآن مسلم أم كافر ؟ وهل كل الشيعة طائفة واحدة أم طوائف ؟
ترى أرامل تموت جوعًا ، وأيتامًا يأنون فقرًا ، والمنظمات الإغاثية تشتغل بتزفيت ورصف الطرق ، وتحسين المنظر الجمالي للمخيمات ، وإقامة حفلات لإدخال السرور والدعم النفسي على الأيتام الذين إن أكلوا اليوم لن يجدوا الطعام غدًا !
نعم قد تختلف هموم الناس وتحملاتها ، منهم من كانت الوظيفة غاية قصده ، ومنهم من لا يعتبر همًا يعنيه كما تعنيه الشهادة ، ومنهم من يرى المال أولاً ، أو الجاه أولاً ، أو التجارة، أو الزواج  ، أو العائلة ..
يتباينون بذلك تباين الليل والنهار ، كل يصرف همته في جانب من جوانب الحياة .
وحتى في المنظمة الواحدة والجماعة الواحدة نرى ذاك التنوع العجيب! في المنظمات الإغاثية من يرون أن لا حاجة للناس إلى شيء كحاجتهم إلى الخروج من خيمة قماش الى جدران الاسمنت ، وبعضهم يراها في الماء أولا، وآخرون يرون أن الطعام أوجب ، ومن يقدر أن يعيش بلا طعام ولا ماء ؟
وأن حفظ النفس مقدم على أي شيء ..
كل هذا مفهوم ويمكن ان نعتبره مما أوجب الله تعالى فيه الاختلاف لمراعاة مصالح الناس ..
فلا يعقل ان يشتغل الجميع بحفر الآبار وهناك نفوس تزهق ، ولا بالطعام وهناك بلاد تنهب ..
لا ضير أن تختلف المقاصد فيما ” لابد منه” بموازنة عقلانية تضع الأمور بنصابها ..
جدار قائم وفيه ثغرات ، لا ضير أن يسد كل ثغرته على قدر جهده واستطاعته ، بيد أنه في حالة تهديد السقوط لا مكان لكل تلك العبثيات ..
ما لا يمكننا فهمه هو تلك العبثيات في سلم الأولويات التي أحكم السيطرة عليها بعض الجهلة وتملكها ضعاف النفوس وصبيان الاعمال الانسانية وحازها أرباب اللسان والسياسة، أو المال والجاه .
مالا يفهمه هؤلاء أن :
“دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة “
قاعدة أصولية
غابت عن كثيرين وتجاهلها عامة القوم ..
لا يعقل وأنت ترمى بالرصاص من جهة وبالتفاح من أخرى أن تدير ظهرك للرصاص وتستعد لالتقاط التفاح ..
هذا حقًا ما يفعله العبثيون ويدافعون عنه …
دوأن أن يفقهوا تسلسل المصالح والمفاسد ..
حفظ الدين أولا ..
حفظ النفس ثانيًا ..
حفظ العقل ثالثًا ..
حفظ المال رابعًا ..
حفظ النسب خامًسا ..
مالم تتعارض فكلها جوانب تستوجب على الأمة رعايتها ، فان تعارضت قدمت وفق الترتيب المذكور ..
أي نفوس نسعى لحفظها ودين الناس وعقيدتهم في مهب الرياح ؟
أي مال وعمار نرجو حفظه وأرواح الناس تزهق ؟
أي مال نملكه لجاهل أو سفيه لا عقل له ؟ يذهب بحمقه المال والأعمال ..
هكذا رتبت الامور وهكذا ينبغي أن تراعى ..
كل جهد يبذل في مجال وهناك أهم منه عبث وحمق وخيانة للأمانة إن لم يمكن الجمع بينهما ..
ترك الجبهات دون راعي، والعدو دون مدافع، والأمة دون حامي عبث في فقه الأولويات ..
ترك الناس بلا فكر ودين ، والانشغال بالطعام والشراب والفروع فحسب عبث واضاعة لكل شيء  ..
لم يبن النبي صلى الله عليه وسلم القصور والمساجد والقلاع ، ولم يشتغل بتوزيع الطعام والمتاع ، ولم يفرغ وسعه في بناء المؤسسات والهياكل والمنظمات ولم يمنع منه  ..
بل أفرغ جهده في بناء عقيدة ودين الناس ثم بما يحفظ هذه العقيدة من جهاد وعمل  ..
تلكم الغاية التي لا ينبغي أن تحيد جماعة أو أمة عنها ..
بناء النفوس بالعلم والعقيدة والأخلاق أولا.وثانيا  ..
هذه النفوس هي وحدها القادرة على حمل الأمانة وحمل السيف وحمل الفقير ، وحمل العلم ..
هي وحدها القادرة على حفظ المؤسسات والجماعات والتنظيمات ..
هي دون سواها القادرة على بناء المجتمع الرشيد الذي يبني أمة الاسلام ويعيد لها مكانتها  ..
بناء المساجد والمصانع والهياكل والمؤسسات والوزارات والجامعات والمدارس وسيلة لغاية واحدة هي صنع الانسان  فالانشغال بها عن الانسان كالحج والناس قافلة ..
مالم تنشغل بالغاية وتحسن سبك الوسيلة فان الجيل الذي تراه سيهدم المسجد والمصنع والمؤسسة والجامعة والدولة فوق رؤوس أصحابها ..
لم تقم أمة بغير العلم فهو الغاية، وما في الكون وسيلة له ..
بالعلم نصنع الرجال ، ونبني المؤسسات ، وننشئ المساجد ، ونقيم صرح الدولة عاليا شامخا ..
فما الذي دها الناس ..؟
هل هذا وقت رصف الطرق بالاسفلت ؟
و بناء البيوت وتزيينها  ؟ وترف الطعام والشراب ؟
هل هذا وقت صناعة مؤتمرات حقوق الحيوان وتحسين الصورة أمام الغرب ؟ وزراعة الاشجار والسوس يأكله تترك بلا علاج ؟  ..
كل ذلك يمكن أن يكون والثغور في أمان ، والأمان في استقرار ، والدين في عافية،  والعرض في حرز مصون  ؟
الحرية أهم من الخبز ..
العدالة أهم من الماء ..
العلم أهم من العمل لأن العمل عن جهل يفسد ولا يصلح  ..
الجهاد أهم من السياسة ..
العيش أهم من رفاهياته  ..
مشاريع التنمية والحد من الفقر أولى من اغناء الفقير لبرهة من الزمن ليعود فقيرا وغيره أيضا ..
إن أي جماعة أو منظمة أو طائفة أو دولة أو أسرة تنشغل بالفروع وتترك الأصول فقد تودع منها ..
ولا تأس بعدها على القوم الفاسقين  ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى