مقالات

المشروع السياسي وتحديات الممارسة

د. ياسر محجوب الحسين

صحفي ومحلل سياسي
عرض مقالات الكاتب

ويسألونك عن انفضاض الجماهير عن الأنظمة السياسية وفشل خطابها السياسي في خلق الحد الأدنى من الالتفاف الجماهيري حول برامجها السياسية. آخر النظم السياسية التي سقطت في المنطقة لم تنتبه الى الفجوة التي كانت بينها وبين الجمهور والتي ظلت تتسع يوما بعد يوم؛ فنظام الرئيس عمر البشير بدا في سنينه الأخيرة يتأبط خطابا سياسيا يجافي مرتكزاته الفكرية مما أدى في نهاية الأمر إلى سقوطه في ١١ ابريل 2019.
لعل الإشكالية الأساسية كانت تكمن في أنه كان منذ البداية خطابا نخبويا؛ سواءً ذلك من ناحية كثير من القادة الذين افتقدوا قيمة التواضع فلم تتحقق فيهم خصلة الموطئين أكنافا. أما الإشكالية الأخرى فتمثلت في المفردات المستخدمة الأمر الذي عزز الفجوة في مجتمع مازالت ترتفع فيه نسبة الأمية.
كان على نظام البشير الذي ظل يطرح برنامجا إسلاميا، أن يزاوج بين الخطاب الدعوي المحض وبين الخطاب السياسي المحض لكنه اختار الأخير مما خلق تناقضا بيّنا بين المشروع السياسي الإسلامي وبين أدوات تنفيذه وتنزيله على أرض الواقع. فالخطابُ السياسي وسيلةٌ لمواصلةِ السيطرةِ على السلطةِ وتملُّكِها في الصراعِ السياسي، فهو مرتبطٌ بالسلطةِ على الدوام، هدفه الأساسي الوصول إلى مراكز القرار بيد النظام اختار خطابا سياسيا موغلا في الميكافلية التي تتقاطع كثيرا مع القيم الاسلامية.
وقد فشل النظام في صوغ خطاب يستند على المشتركات التي بين الخطابين السياسي والدعوي والتي يمكن أن تجعل من إمكانية اندماجهما في خطاب واحد مبرأ من منزلقات الميكافلية إذ أن الخطاب الدعوي هو دعوة الناس إلى منافعهم معاشا ومعادا، المساير لمتغيرات العصر ومستجداته، المراعي لظروف المخاطبين وواقعهم.
ولِيُحقِق الخطاب المثالي المُدمج بشقيه الدعوي والسياسي، غايتَه يجب أن يكون إقناعيّا بامتياز، ليوصلَ المخاطَب إلى برِّ القبولِ والتسليمِ بالصدقية والإيمان بالشرعية، فتتعاون الوسائل اللغوية والمنطقية جنباً إلى جنبِ مكوناتٍ تعبيرية أخرى، ويسبقه كذلك إعداد قوي يواكب العصر والتقنيات الحديثة؛ ليؤدي وظيفته ورسالته السامية في الحض على العمل والإنتاج والإبداع في مجالات الحياة المختلفة؛ لأن العمل عنده بمثابة قيمةٍ عظمى؛ ليحقق بذلك مقصد العمارة والاستخلاف في الأرض الذي أوجده الله تعالى له.
ويجب كذلك أن ينشر الخطاب المثالي رُوح المحبة، والتواصل، والتقارب بين أفراد المجتمع، وينهي عن البغضاء والتحاسد والتدابر والتقاطع بين الناس أجمعين؛ ليحقق مقصد: (لتعارفوا). فضلا عن ضرورة أن يعمل هذا الخطاب على أن يجمع القلوب على حُب الأوطان، وغرس الانتماء في نفوس الأبناء، محفزًا الجميع على العطاء لرفعة شأن الوطن ورقيه ومجده وتقدمه.
لكن في زمان الفتن وغربة الدين بسبب طغيان الفساد بأنواعه، شهد خطاب النظام السوداني السابق غرق بعض منتسبيه ومواليه في بحر اختلاط المصالح بالمفاسد وانشغلوا عن الاستفادة من العلوم المعاصرة التي تخصصت في دراسة اتجاهات الجماهير، وفن مخاطبة الجماهير، والعوامل المؤثرة في تشكيل الرأي العام. وتبعا لذلك غابت روح المبادرة؛ بعد أن تمت برمجة الكوادر الوسيطة المتنفذة ليكونوا فقط أتباعًا، فانخفض سقف عطائهم لمشروعهم السياسي، تأسيسا على المصالح الذاتية وصراعات القيادات العليا.
ومع إهمال الاهتمام بالنشء والبراعم، بقيت الأجيال الشبابية تئن تحت وطأة جفاف روحي، وخواء فكري، وسطحية معرفية، وهشاشة في العقيدة والانتماء وغياب لمعاني القيم، والتي أضحى جلها عبارة عن شعارات لا غير، لا أثر عمليا لها في صناعة الحياة، وصياغة الأهداف، وتشكيل الرأي، وتحشيد الإرادة.
وأهمل النظام كذلك القضايا المعاصرة التي تشغل الرأي العام في خطابه اهمالا تاما مثل: الحريات، وحقوق الإنسان، والتنمية، والبعد الإنساني في التشريع الإسلامي، وحقوق الأقليات في الإسلام، وفي المقابل كان الاستغراق في الخطاب الوعظي والبياني، الذي يستعرض المقدرات اللغوية من الجناس والطباق والبديع.
وابتلي خطاب النظام على علاته السالف ذكرها بمصيبة كبيرة كانت بمثابة قوة طرد مركزية سالبة تمثلت في ممارسة يومية للغة استعداء الآخر لدى بعض القيادات من خلال غليظ القول وحدة الطباع مما أثر في الصورة الكلية للنظام ونفّر عنه عامة الناس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى