تحقيقات

حكاية أمل : بشار عاد إلى الحياة ( بنصفِ جسده ) !

فيصل عكلة – رسالة بوست

في بلدة (حاس ) من ريف معرة النعمان الغربي و على كتف جبل الزواية الجنوبي ،وُلد بشار وعاش طفولته كباقي أطفال البلدة ، هو بكرُ والديه ،ويروون الدنيا في عينيه كما قالت لنا أم بشار، كبُر بشار و دخل الثانوية وأضحى شابًا يشارك أقرانه في البلدة في مظاهراتهم السلمية التي كانت تنطلق في تلك المناطق طلبا للحرية و الكرامة الانسانية ، حتى جاء ذلك اليوم المشؤوم الذي أودى برجليْ بشار ..

يقول بشار :

(من بعد عصر كل يوم و بعد أن نعود من المدرسة، و نتناول غداءنا نتجمع على بيدر الحارة بالقرب من الجامع ،و نلعب في (الطابة) أو (المحلجَة) أو (الكلال) ، و في ذاك المساء لم أشعر إلا بأصوات قوية لا أعرف مصدرها ،و لكن ما عرفته بعد أيام أنها أودت بحياة ابني عمي و سرقت منّي رجليّ الاثنتين و من فوق الركبة …

أسعفوني يومها إلى المشافي الميدانية قبل أن ينقلوني إلى تركيا ، حيث عالجوني حتى شفاء الجرح ،و الغريب أنني كنت أشعر بحكة شديدة بأصابع قدمي، و هي التي دفنت في سوريا و أنا بتركيا ،و أنادي على الدكتوروأشكو له حالتي و يُقدّر موضع قدمي المفترض على السرير و يحكُ المكان بأصابعه ،و أشعر عندها بالراحة )

وعندما سألنا بشار لما لا يستخدم الأطراف الصناعية أجاب :

(حاولتُ في البداية اقتناءَ تلك الأرجل ولكني لم أستطع التنقل بها و تركتُها لأن البتر كان من منتصف الفخذ و ذلك يحتاج إلى أطراف ذكية و هي غالية الثمن و لم أستطع تأمين ثمنها )…

و أكدّ بشار على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار من قبل المنظمات الانسانية و الجمعيات الخيرية الحاجات الضرورية للمصابين وذوي الاحتياجات الخاصة في المخيمات ، و تأمين المستلزمات الضروية لهم لتسهيل أمور تنقّلهم و ممارسة حياتهم في ظل غياب الطرق المعبدة و الخدمات الخاصة بهم …

و تابع بشار القول :

(في بداية الإصابة رغم أني راض بقضاء الله ،إلا أني عانيت من ضغط نفسي صعب ،و خاصة في بداية الإصابة ،صرت أحتاج إلى من يساعدني في تدبير أمور حياتي الخاصة التي كنت أقضيها بمفردي ،و تلك من أصعب اللحظات رغم أن أهلي لم يقصروا معي ،و لكن نظرة الأسى و الحزن التي كنت أراها في عيون الناس ،و عيون أصحابي عند زيارتهم لي كانت تصيبني في مقتل كما يقال ، و لكني مع الصبر و الإرادة و بتشيجيع من أهلي استرجعت أملي و عدت للمشاركة بالحياة و التنقل عبر عَربَة يدوية أتجول بها في الحارة .

النزوح كان قاسيًا معي ،و أنا الذي أحتاج إلى أمور خاصة تناسب حالتي ،وذلك لم يكن متوفرًا في هذا المخيم ، و لكن بتوفيق من الله نظّمت أموري و عدت الى ممارسة هوايتي في تربية الحمام .

“في صباح كل يوم أدخل إلى (قنّ) الحمام ، أتَفقد المريض و أضع الطعام و أراقب البيوض قبل أن أفتح لهم الباب ، و أجلس أراقب حركة طيرانه و الاستعراضات التي يقوم بها و أتابعه و هو يسرح بعيدا ، و النوع الذي أَقتنِيه يسمى (الزاجل) و يتميز بذكائه الحاد و يَعرف طريق العودة إلى صاحبه ، حيث عاد لي زوج حمام بعد أن بعته إلى شخص في جبل الزواية و عاد بعد أيام قليلة و قطع مسافة تزيد عن 100 km..”!

“عندما يجتمع الحمام على الطعام ترى حركات عجيبة و تصرفات من الذكر نحو الانثى تدلّ على الإيثار و المحبة حيث يقدم لها الحبّة الكبيرة و يضعها في فيها و تهز رأسها و كأنها تشكره على لطفه و يفرش هو جناحيه معتّدا بما فعل ، و ترى الأم و هي تجهز اللقمة و تقسمها لصغارهاو توزعها عليهم قبل أن تتناول حصتها ، قليل جدا حدوث أي اشكال بين الحمامو إن حصل يتدخل كبيرهم و ينهيه في لحظته ، ليت البشر يستفيدون من أخلاقيات الحمام “..!

و عندما سألته إن كان يحصل على فائدة مالية من تربيته للحمام أجاب :

“تربية الحمام هواية أكثر منها مصلحة ، شعوري بالسعادة و الراحة النفسية و أنا أنظر إلى رفّ الحمام يفوق المنفعة المالية و إن وجدت ، الحمام له أسعار متفاوتة و هناك أنواع يصل السعر فيها للزوج الواحد لمئات الدولارات و لكن وضع المخيمات كما ترى لا يسمح بتربية الأنواع الغالية ، الأنواع التي أُربيها تباع بحدود 100 إلى 200 ليرة تركية يُقتطع منها تكاليف العلف مثل الذرة الصفراء و الخبز اليابس الذي أقدمه للحمام ، أبيع بعض الفراخ و أشتري غذاء لهم و ( مستورة ) و الحمد لله” .

سألنا بشار عن كَسب الحمام و الذي يقول أن سرب الحمام الطائر إذا عادت معه حمامات غريبة تصبح من ملكية صاحبه ،تبسم بشار قبل أن يجيب :

“عندما (تَطبُّ) عندي حمامات غريبة أعرفها وأرسل لصاحبها كي يسترجعها ان كان بيني و بينه ( صلح) و قد يحضر يوميا بعض مربي الحمام من الجوار يسألون عن (ضائع ) و أتركهم يبحثون بين حماماتي ، أما طريقة (القص) و يمارسها بعض مربّي الحمام و تعني تملّك الحمامات التي تهبط مع سرب الحمام و هو عُرفٌ بين (الحممجية) و قلّ من يُطبّقهُ” ..

أم بشار كانت تراقب ابنها بأسى و هو يحدثنا و بجانبه العربة اليدوية التي يستخدمها في تنقلاته بين خيم الجيران و الأقرباء و هو يحاول تغطية ما تبقى من رجليه المبتورتين ، قالت :

“كلما نظرت إليه و هو يمشي على يديه أشعر بالحزن و يتقطّع قلبي و لكنها ارادة الله و ليس لنا إلا الرضى ، الحمد لله المرحلة الصعبة و العلاج مضت على خير و هاهو ابني بشار يتقبل وضعه و يعود إلى ممارسة حياته بعد تجربة النزوح المريرة ،و رغم حالته الصعبة زوَّجناه و ننتظر خلفتَه ، أنا أسعدُ عندما أرى البسمة و الرضى على وجه ابني وهذا ما أشاهده و هو يتنقل بين حماماته ، أملي أن يرزقه الله و  يستطيع تركيب أطرافا ذكية ليمشي عليها حاله حال الشباب .

ودعنا بشار و في عينيه بريق أمل و تفاؤل و اصرار على الحياة ،رغم الإصابة والتشرد و النزوح ..!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى