مقالات

المسألة الفلسطينية قبل التقسيم ومسؤولية النخب الوطنية

معاذ السرّاج

باحث في تاريخ سورية المعاصر وشؤون الحركات الإسلامية
عرض مقالات الكاتب

تُعدُّ المسألة الفلسطينية، أبرز النتائج التي أسفر عنها التناقض بين أيديولوجية القومية العربية التي سادت منذ أواخر القرن التاسع عشر،وبين المصالح الذاتية والنزعات المحلية التي قويت واستفحلت بعد مرحلة الانتدابات الاستعمارية. وقد ظل هذا التناقض سائدا حتى اليوم على الرغم من أن أكثر الزعامات والأنظمة التي تعاقبت على المنطقة منذ تلك الفترة، بما في ذلك القادة الفلسطينيون، حرصت جميعها على تبني فكرة الوحدة العربية، ورفع شعارات العروبة وفلسطين، لكنها فشلت فشلا ذريعا في الجمع بينها وبين اتفاقيات التطبيع وتبادل العلاقات مع دولة الكيان، رغم كل الذرائع والمسوغات التي تسوقها، كما يحدث اليوم.

بداية؛ ثمة تساؤلات ذات صلة, تثيرها المحاولات المتواصلة للدفع بالمسألة الفلسطينية، لتتحول من قضية قومية كبرى، إلى قضية محلية منفصلة ومعزولة. وبعبارة أخرى, ثمة تساؤلات حول العوامل والأسباب التي جعلت فكرة الدولة العربية الكبرى في بلاد الشام, أو حتى مشروع “المملكة السورية”، تتحول إلى مشاريع أو قضايا مجزأة, واحدة تخص السوريين، وأخرى تخص اللبنانيين, وثالثة تخص الفلسطينيين، وهكذا؟

من خلال هذه الورقة سنحاول تقصي هذه المواقف منذ بدايات القرن العشرين، ولاسيما في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، أي قبل التقسيم وحرب 1948..

  • بين الشريف حسين والزعماء الوطنيين:

من المعلوم أن الأمير فيصلا, ووالده الشريف حسين, قد تورط كلاهما في العلاقة مع الإنكليز والتنسيق معهم ضد الدولة العثمانية بإخلاص وعزم وتصميم، نتيجة الثقة المفرطة بالإنكليز، والاغترار بالوعود التي أغدقوها بإقامة دولة عربية كبرى وتنصيب الشريف ملكًا عليها، حتى إن الشريف كان مستعدًا للرضى بإعلان بلفور “كونه يقدم ملجأ في فلسطين لليهود الأوربيين المضطهدين”، ” ورحب باليهود في فلسطين كإخوة، والتعاون معهم من أجل الصالح العام”، “ودعا المسلمين لتذكر عادتهم في الضيافة “.. قبل أن تبين لاحقًا أن تلك الوعود كانت مجرد أوهام، كما أكد الجنرال كلايتون المفوض البريطاني في القاهرة, وأن: “بريطانيا بعيدة كل البعد عن فكرة إنشاء الدولة العربية الكبرى والتي دار حولها الحديث، وأن إنشاء مثل هذه الدولة في رأيه ليس فقط غير مرغوب فيه بل مستحيلاً..”, وأن: “إنشاء مثل هذه الدولة لا يمكن أن يكون في الوقت الحاضر إلا حلمًا”.

وكما قال الكولونيل لورانس، الذي لعب الدور الأكبر في إغراء الشريف حسين, وإقناعه بالمضي قدمًا، في كتابه “أعمدة الحكمة السبعة”: “لم أُبلّغ رسميًا ولا وديًا بتعهدات مكماهون واتفاقية سايكس – بيكو، وبما أنني لست أحمق مطلقًا، فقد كنت أرى – إذا كسبنا الحرب – أن الوعود المقطوعة للعرب، ستكون قصاصة ورق”.

وفي هذا السياق أضاف الدكتور توفيق برو بأن لورنس سخر مرة من الأمير عبد الله بن الحسين، قائلا: “وقد حاولت غير مرة أن أقول له إن هذا الشيخ الساذج لم يحصل منا على وعد صريح أو غير صريح من أي نوع، وأن سفينتهم قد تغرق بسبب سياسته الخرقاء. ولكني – لو فعلت – لكنت بذلك قد خنت رؤسائي الانكليز”، مضيفا بأن ذكاء الأمير عبد الله قد خدعه، وفاتَه بأن ” إخلاص ممثل دولة قد يكون أكبر حيلة تعمد عليها، إذا ما أردت جرّ المغانم جميعها”.

على أن مواقف الشريف حسين والأمير فيصل التي باتت معروفة ومتداولة، لم تعد هي المشكلة وحدها ،وما يثير التساؤل والدهشة، هو موقف الزعماء العرب الذين أيدوا تلك المواقف والسياسات، واستمروا فيما بعد على السير في نهج مماثل أو مواز. وحتى أولئك الذين اعترضوا على سياسة الشريف وابنه ،فإن اعتراضهم لم يكن على المبدأ، وإنما لاستئثارهما بالمحادثات السرية مع الإنكليز دون إطلاع الزعماء العرب على فحواها، وبحسب رأيهم فإن تلك المحادثات ستلزم الجميع، وتعتبر نتائجها مصيرية بالنسبة للعرب في بلاد الشام والعراق والجزيرة العربية برمتها.

وهكذا فإن مسألة الاتصال بالبريطانيين والصهاينة، وهي إحدى القضايا المثيرة للجدل، أحدثت شرخا مبكرًا في المواقف والآراء. وكان الساسة الوطنيون يرون أن الشريف حسين ببساطته وطبيعته البدوية غير مؤهل للعلاقة مع الإنكليز الموصوفين بالدهاء والمخادعة. وفي النهاية فإن الجميع، وقعوا في هذا المطب.

تؤكد العديد من الدراسات أن الاتصال بالبريطانيين من جهة وبالزعماء اليهود، من جهة أخرى، ظل قائمًا على قدم وساق، ويُرجع بعض الباحثين تلك الاتصالات إلى المؤتمر السوري الأول عام 1913 وما قبله، والذي حصلت على هامشه لقاءات بين زعماء عرب ويهود، أبدى خلالها بعض قادة الرأي العرب والفلسطينيين عدم معارضتهم لهجرة يهودية محدودة إلى فلسطين.

وعلى الرغم من أن أكثر الفلسطينيين لم يقبلوا بالأمير فيصل ممثلا شرعيًا لهم، لأنهم رأوا أن اتصاله بالزعيم الصهيوني حاييم وايزمن عشية انتهاء الحرب خيانة لقضيتهم، ومساومة على فلسطين مقابل مملكة عربية آمنة ومعترف بها دوليا في سورية. إلا أن ثمة من يرى أن الزعماء الفلسطينيين والسوريين شاركوا في تلك الاتصالات أو كانوا على اطلاع عليها.

يقول جيرمي سولت في كتابه “تفتيت الشرق الأوسط”: “لقد فاوض فيصل بن الشريف حسين، وايزمن ،وقادة الرأي الفلسطيني فقالوا أيضًا إنهم مستعدون للقبول بالمهاجرين اليهود طالما هناك تفهم: أنه لن يكون هناك مسألة خسارة فلسطين لهويتها العربية”. ويضيف سولت: “لكن هذا الفهم لم تعترف به الدبلوماسية البريطانية لاحقًا”.

  • العامل السياسي في التحولات القومية:

بعد تقسيم الدول الأوربية للمشرق العربي في أعقاب الحرب العالمية الأولى, وبعد أن فقدت المنطقة العربية وحدتها السياسية، ومشروعها القومي الكبير،  ووقعت تحت سيطرة القوى الانتدابية، باتت فكرة القومية، بحاجة إلى إعادة صياغة، وصار لزامًا على السياسيين والزعماء الوطنيين أن يطوروا أفكارًا جديدة للحفاظ على التطلعات العروبية والوحدوية بما يناسب الظروف المستجدة.

غير أن الأحداث المتعاقبة أظهرت أن ثمة نهجًا أو أسلوبًا ما، باتت تتسم به مواقف أولئك الساسة والزعماء, ويتمثل بمظهرين اثنين هما: الواقعية السياسية والتغيير المتدرج, برزا بوضوح من خلال العلاقة مع سلطات الانتداب، تحت شعار “التعاون المشرف”، لكن المحاولات الحثيثة من أجل تحقيق حد أدنى من التوافق الوطني حول هذا النهج, لم تحظ بالنجاح، وبات على الحكومات الوطنية أن تُقرّ بالأمر الواقع في مسائل ذات أهمية كبرى، فقد تنازلت تدريجيا عن أربعة أقضية لصالح تكوين دولة لبنان, وتلكأت كثيرًا تجاه قضية لواء الإسكندرون حتى حُسمت لصالح تركيا، ولم تنجح بالقدر الكافي في التفاهم مع باريس حول معاهدة الاستقلال.

لكن سياستها تجاه المسألة الفلسطينية، كلفتها ثمنًا باهظًا، وخسارة كبرى مادية ومعنوية، ستظل آثارها ماثلة لسنوات بل لعقود تالية..

بعد فشل الثورة السورية الكبرى، كان على الزعماء الوطنيين على الوصول إلى تفاهمات مع الفرنسيين، وتحاشي ما يمكن أن يحول دون ذلك أو يعرقله، واستندت هذه البراغماتية، كما يقول فيليب خوري، إلى فكرة جرى تبنيها بالتدريج وهي أن على سورية أن تؤمن استقلالها أولاً، قبل أن تأمل بالاشتراك في أي مشروع وحدة عربية. ومن هنا فقد ولدت فكرة “التعاون المشرف” التي قامت عليها سياسة الكتلة الوطنية إقرارًا بالتفوق العسكري الفرنسي، وعقم محاولات الكفاح المسلح في المستقبل.

وبدا وكأن زعماء الحركة الوطنية وبعد أن فشلوا في طرد الفرنسيين، أعادوا تنظيم أنفسهم على المطلب الأقل جذرية والمتمثل في المطالبة بمنحهم ما يكفي من الاهتمام. وعلى هذا الأساس فقد تبلورت مطالب الكتلة الوطنية التي قادت النضال السياسي بعد ثلاثينات القرن الماضي، “على نحو متوازن وبراغماتي ينطوي على تنازلات محددة الأبرز بينها دستور ليبرالي وحكومة تمثيلية ومعاهدة تطبع العلاقات بين سوريا وفرنسا ومناصب في الإدارة العامة والقضاء وتدابير اقتصادية معينة”.

هذه المطالب “المحلية”، هي التي سترسم من الآن فصاعدًا حدود الولاءات للأمة العربية التي كرر جميع زعماء الكتلة إعلانها على الملأ، كما فعل أسلافهم من قبل، وبناء عليها ستتحدد المواقف من القضايا العربية المثارة آنذاك وفي مقدمتها المسألة الفلسطينية. وهذا يعني على نحو محدد “تحاشي أية نشاطات مؤيدة لفلسطينيين يمكن أن تؤدي إلى حرمان الكتلة الوطنية من الدعم الدبلوماسي البريطاني”، “أو أن تخرج تلك النشاطات، عن حدود السيطرة فتتحول إلى ظواهر معادية للفرنسيين ينجم عنها انهيار عسكري وعزل الكتلة الوطنية عن قمة السياسة في سورية”. فيليب خوري.  

وعلى سبيل المثال؛ ففي عام 1931 تحاشت الكتلة الوطنية الظهور على الأضواء في عدد من المهرجانات الشعبية الفخمة التي أقيمت للتضامن مع ضروب من القضايا العربية والإسلامية، بما فيها قضيتا فلسطين وليبيا. وفي العام نفسه تخلفت الكتلة عن إرسال وفد رسمي إلى مؤتمر القدس الذي نظمه المفتي الحاج أمين الحسيني لاستقطاب دعم إسلامي عالمي للقضية الفلسطينية.

وفي سياق مماثل، لم يتردد بعض القادة الوطنيين في تبني المسألة الفلسطينية ثم التخلي عنها لصالح سياساتهم ومواقفهم, وعلى سبيل المثال, فإن زعماء الكتلة وبعد فشلهم في التوصل إلى اتفاقية مع الفرنسيين عام 1933 ، تخلو على نحو مؤقت، عن استراتيجية “التعاون المشرف” مع سلطة الانتداب, وعادوا إلى الانخراط أكثر فأكثر في القضايا العربية، كوسيلة أيديولوجية وفرت فرصة  لهم “لتبييض الصفحة”, ورأوا أن الاهتمام بالمسألة الفلسطينية وتعزيز العلاقات بالعراق والسعودية سيجعلهم في موضع أفضل أمام منافسيهم, شكري القوتلي والجناح الراديكالي في الكتلة الوطنية، وأمام عصبة العمل القومي الحديثة العهد بالإنشاء. ومن هنا انطلقت فكرة أكبر هيئة دعائية أسموها “المكتب العربي القومي للدعاية والنشر” الذي أسسه فخري البارودي عام 1934, وكرسه لنشر المعلومات التي تتعلق بالقضايا الحساسة في تلك الفترة، وعلى الأخص مسألة فلسطين. إلا أنه ومع تراجع زخم الثورة الفلسطينية والهجوم البريطاني المضاد الواسع النطاق على الثوار في نهاية عام 1938، تضاءلت الأنشطة المؤيدة لفلسطين في سورية، وفي نهاية العام كانت مجموعات التضامن ولا سيما لجنة الدفاع عن فلسطين منشغلة بالسياسة المحلية السورية. ولم يمض وقت قصير حتى خفف المكتب العربي القومي للدعاية حملته الصحافية, وتفككت بنية التنظيمات المؤيدة للفلسطينيين, التي أدت دورا حاسما في إطالة أمد الثورة, وعادت القيادات لسياساتها المتذبذبة بين سلطات الانتداب من جهة, والبريطانيين من جهة ثانية, وبين والسياسات المحلية والعربية من جهة ثالثة.

على أنه وقبل الاسترسال في الموضوع، ولفهم الجو العام في تلك الفترة، لابد أن نذكر أنه وعلى الرغم من تأثير المصالح السياسية والاقتصادية لبعض النخب السياسية والتجارية ولا سيما تلك المقيمة بدمشق, فإن الاتجاه العام لدى السوريين وخاصة على المستوى الشعبي كان دائمًا إلى جانب المسألة الفلسطينية، وكثيرًا ما أظهرت الأحداث التناقض الواضح في المواقف بين الاندفاع الطبيعي للشعب السوري نحو مؤازرة الفلسطينيين والنضال إلى جانبهم، وبين مصالح النخب المتنفذة. وكان على تلك النخب أن تدرك حجم الارتباط بين الجماهير السورية وقضية فلسطين, وأن تأخذه بعين الاعتبار في كل محاولاتها السياسية. ولذلك فإن الدعم الشعبي السوري لفلسطين ظل قويًا ومستمرًا حتى في أوساط النخب الوطنية إلى خريف 1938، على الرغم من محاولات عرقلته. وكانت الأموال تتدفق إلى لجان الدفاع عن فلسطين, من سورية وبلاد عربية أخرى ومن باقي العالم الإسلامي ومن الأمريكيتين, وكانت سورية هي المعبر الطبيعي لتهريب كل وسائل الدعم من المال والسلاح والمقاتلين إلى فلسطين, وارتفعت وتيرة الدعاية المناهضة للبريطانيين والصهيونيين، ونظمت الجمعيات الخيرية الإسلامية بنجاح لم يتحقق من قبل، مقاطعة السلع اليهودية والبريطانية في المدن.

وكان زعماء وطنيون كُثُر أمثال شكري القوتلي وشبكته، والاستقلاليين العروبيين المنفيين إلى فلسطين، يعملون بنشاط من أجل فلسطين، وكانت تبرعات السوريين وإمدادات السلاح، تصل على سبيل المثال، إلى نبيه العظمة المنفي في القدس, عن طريق أخيه الأكبر المنفي إلى عمان، ليسلمها إلى القيادة الفلسطينية. وبعيد وصول القاوقجي تمكن 650 مجاهدا من دخول فلسطين معظمهم من الأحياء الشعبية كحي الميدان والأكراد وغيرها في دمشق. فيليب خوري – سورية والانتداب.

  • من الاتصالات إلى المفاوضات:

في دراسة له على موقع معهد العالم منشورة في 11 حزيران/يونيو 2017، حول الكتابات التي تتعلق بالعلاقات العربية – الصهيونية المبكرة التي سبقت 1948، يشير د. محمد الأرناؤوط عن الباحث الفلسطيني د. الياس شوفاني (1933-2013), إلى “المحاولات الصهيونية المبكرة للوصول إلى “تفهم عربي” ثم إلى “اتفاق عربي – صهيوني” وصولاً إلى “المؤتمر العربي الأول” في باريس 1913، الذي حضره المبعوث الصهيوني سامي هوخبرغ كمراقب وعاد منه مرتاحًا، بتصريح من رئيس المؤتمر الشيخ عبد الحميد الزهراوي يؤيد فيه الهجرة اليهودية إلى فلسطين باعتبار أن “اليهود في كل العالم ليسوا سوى مهاجرين مثلهم مثل المهاجرين السوريين المسيحيين في أمريكا”. ويقول د. الأرناؤوط “ومن الطبيعي أن هذه المعلومة وغيرها لا ترد في الكتب التي تستعرض أو تمجد “مؤتمر باريس” 1913.

ونقل د. محمد الأرناؤوط عن دراسة للـ د. محمود محارب نشرت في العدد الخامس من مجلة “أسطور” (عام 2017) أنها كشفت عن مدى الاختراق الصهيوني للنخبة السياسية في سورية سواء للكتلة الوطنية الحاكمة أو للمعارضة التي كان يقودها عبد الرحمن الشهبندر (1879-1940).

وفي دراسته تلك، يذكر د. محمود محارب أن الوكالة اليهودية عقدت اجتماعين رسميين بالكتلة الوطنية في آب/ أغسطس وأيلول/ سبتمبر 1936. وفي أعقاب هذين الاجتماعين الرسميين أجرت الوكالة اليهودية  سلسلة اتصالات واسعة وغير رسمية ببعض قادة الكتلة الوطنية وقادة المعارضة “الشهبندرية” – والتعبير لل د. محارب- وقيادات ونخب سورية أخرى، من خلال القسم العربي (جهاز المخابرات) التابع للدائرة السياسية للوكالة اليهودية.

“ففي بداية كانون الثاني 1937, وصل مندوبا الدائرة السياسية للوكالة اليهودية إلياهو ساسون وإلياهو إبشتاين إلى دمشق لتسليم محضري الاجتماعين السابقين لرئاسة الكتلة الوطنية, ولتهنئة قادة الكتلة بتشكيل الحكومة السورية الجديدة بموجب الاتفاقية السورية – الفرنسية, وإجراء اتصالات بقادة الكتلة ونخب سورية أخرى”.

وفي هذه الزيارة اجتمع المندوبان برئيس الحكومة جميل مردم بك (1893 – 1960)، ووزير الدفاع والمالية شكري القوتلي (1983– 1967)، وفخري البارودي وفائز الخوري ونصوح بابيل ووديع تلحوق وفريد زين الدين, وهم من شخصيات الكتلة الوطنية والمعارضة الشهبندرية للكتلة الوطنية. وقاما بزيارة القوتلي في بيته بدمشق.

وذكر د. محارب أن جميل مردم بك قال في هذه المناسبة إنه “مادام هناك رجل سياسي مثل وايزمان ورجل محنك مثل موشيه شرتوك.. فإنه متفاءل بأن قضية العلاقات بين العرب واليهود ستجد لها الحل المرغوب فيه”.

وفي 26 شباط 1937، وصل إلى دمشق إلياهو إبشتاين ودوف هوز قادمين من مطار اللد، للاجتماع بجميل مردم بك رئيس الحكومة السورية بهدف تعزيز علاقة الوكالة اليهودية بالحكومة السورية ،وبلورة موقف مشترك من مقترحات لجنة بيل (نسبة إلى اللورد بيل – رئيس اللجنة الملكية التي شكلتها بريطانيا لتقصي الأوضاع في فلسطين) وكانت اللجنة قد أوصت بتقسيم فلسطين إلى ثلاثة أجزاء أحدها للفلسطينيين, والثاني لليهود على أن يُطرد منه 300 ألف فلسطيني من سكانه الأصليين, والثالث يظل تحت الانتداب البريطاني ويشمل القدس وبيت لحم والناصرة وأجزاء أخرى, إلا أن الوكالة اليهودية رفضت الاقتراح وتسعى لإقامة دولة يهودية على كامل تراب فلسطين.

ويذكر د. محمود محارب أنه وبحسب الوثائق اليهودية, فإن موقف جميل مردم بيك وزملاءه في الكتلة الوطنية كان يتلخص بأنهم يقبلون بفرضية وجود ثلاثة أطراف في القضية الفلسطينية وهم اليهود والعرب والبريطانيون, وأن التوصل إلى سلام حقيقي يتم فقط إذا أُخذ في الحسبان مصالح جميع هذه الأطراف. وقال جميل مردم بيك: “إن الكتلة الوطنية حاولت في اتصالاتها مع الوكالة اليهودية فهم مطالبها فهما جذريًا وشاملاً، وسعت لإدراك جوانب القضية الفلسطينية من خلال تفهم “الرؤية القومية للوكالة اليهودية، وإدراك المنفعة التي قد تأتي من المشروع الصهيوني في فلسطين للشعب العربي كله ولعرب فلسطين أنفسهم”. ووعد جميل مردم بك بأنه سيتصل بالحاج أمين الحسيني رئيس اللجنة العربية العليا بغرض التأثير فيه وفي سائر القادة الفلسطينيين..

وكعربون وفاء لحكومة مردم بك فإن الوكالة اليهودية أرسلت مساعدة مالية بقيمة ألفي ليرة سورية لإسعاف المنكوبين في موجة أمطار وفيضانات غزيرة تعرضت لها دمشق وعدد من المدن السورية، فقبلها جميل مردم بك وأرسل رسالة شكر إلى موشيه شرتوك رئيس الوكالة.

وفي هذا السياق يُذكر أن عبد الرحمن الشهبندر التقى هو الآخر مع قادة الحركة الصهيونية وكوادرها بين عامي 1936 و1939، وقد تم ترتيب أحد هذه الاجتماعات مع حاييم وايزمان في القاهرة في شباط/فبراير 1938.

وكان جزء من هذه الاتصالات يتمحور حول كيفية إيقاف ما سُمي بالعنف الدائر في فلسطين (والمقصود هنا الثورة الفلسطينية).. وفي هذا السياق جاءت زيارة وفد من الوكالة اليهودية إلى دمشق في 30 كانون ثاني 1938 للاجتماع بعدد من الزعماء السوريين من بينهم لطفي الحفار. وبحسب الوثائق الصهيونية فإن الحفار شدد على أن السوريين لا يشاركون في الثورة الفلسطينية، باستثناء بعض الأفراد، وذلك نتيجة للجهد الذي بذلته الكتلة الوطنية. وقال “عندما يلجأ القادة الفلسطينيون إلى دمشق فإن واجبنا القومي يحتم علينا استضافتهم لأننا عرب قوميون ولكننا حذرناهم بوضوح من القيام بأي نشاط يدعم الثورة في فلسطين، وشددنا مراقبتهم وأعتقد أنهم لا يقومون بأي نشاط”.

يذكر فيليب خوري في كتابه سورية والانتداب أن جميل مردم بك، الذي أكد للعقيد غيلبرت ماكيريث القنصل البريطاني بدمشق, الذي كانت تربطه به علاقات جيدة، أن: “البريطانيين يستطيعون الاعتماد على تعاون الحكومة –السورية- تعاونا فعالا في أن تخمد، ضمن حدود الجمهورية السورية، أي نشاط أو تخطيط معاد للإرادة البريطانية في فلسطين”. “.. و”أن حكومته لن تتهرب من مسؤولياتها الدولية. وإنه لأمر مؤكد أنه وزملاءه قلقون على إخوانهم العرب في جنوب الحدود –في فلسطين- لكن عليهم التفكير في سورية أولا، وأنه من جهته تواق أشد التوق إلى إقامة أفضل العلاقات مع بريطانيا العظمى”. 612خوري

وكان ماكيريث قد قال مذكرًا رؤساءه في لندن: “إنه لواقع لافت أن السلطات البريطانية في فلسطين, وبصورة أخص في شرق الأردن، أظهرت تجاه قطاع طرق وثوار سوريين ترحيبًا، علينا الآن أن نأسف له بصورة محزنة. والشوكة الحادة في خاصرتنا اليوم هي محمد الأشمر، رئيس عصابة.. ومسؤول مباشر عن موت ضابطين وثلاثة ضباط صف فرنسيين عام 1925. وذو سجل إجرامي حكمت عليه محكمة فرنسية بالإعدام، وقد فر إلى فلسطين حيث أصررنا على معاملته لاجئًا سياسيًا. وقضيته كقضية فوزي القاوقجي, كانت واحدة من قضايا كثيرة. ومعظم أولئك الذين استفادوا يومها من اللجوء السياسي البريطاني يخطط اليوم للذهاب إلى فلسطين. أو أنه ذهب إليها فعلا, لمتابعة أعماله الإرهابية، وهذه المرة ضد الإدارة البريطانية مباشرة”. 616 خوري

وبعد استئناف الثورة في فلسطين أعلن جميل مردم وبدفع من ماكيريث في تشرين أول وفي تصريح علني مفاجئ, أنه يستنكر “الإرهاب” الجاري في فلسطين, مضياف أن الحكومة السورية وبالتشاور مع السلطات البريطانية والفرنسية، “كانت تتخذ جميع الخطوات لمنع تهريب الأسلحة والثوار إلى فلسطين”.615

فيليب خوري ينقل عن أحد المؤرخين البريطانيين وصفه للعقيد غيلبرت ماكيريث أنه “كان واحدًا من أمكر الموظفين البريطانيين في الشرق الأوسط وأوسعهم اطلاعًا خلال هذه الفترة تحديدا (1936-1939), ولم تكن رسائله من  دمشق تنم فقط عن تبصر وبراعة فائقة, بما يعكس السياسة القومية, وفوق ذلك, العادات الاجتماعية والسياسية للطبقة العليا في سورية..”

  • خاتمة:

ذهبت دراسة أعدها د. محمود محارب نقلاً عن الوثائق الإسرائيلية، إلى أن الوكالة اليهودية تمكنت بفضل اتصالاتها مع الشخصيات السورية من تحقيق اختراقات أمنية مهمة، تمثلت بتجنيد نسيب البكري، المناضل والبرلماني الدمشقي وأحد مؤسسي الكتلة الوطنية، والذي شغل مناصب عدة في حكوماتها، وتمكن بفضل الدعم المادي من الوكالة اليهودية من تجنيد العشرات، والحصول على معلومات مهمة ودقيقة عن الثوار الفلسطينيين وأنصارهم السوريين، وعن طرق دخولهم إلى فلسطين وتوقيته, وعن مصادر السلاح وطرق تهريبه إلى فلسطين, وكذلك على معلومات مهمة ودقيقة عن قرارات الكتلة الوطنية والحكومة السورية وسياستهما في شأن القضية الفلسطينية والثورة في فلسطين وقضايا مهمة أخرى. وقد ساهمت هذه الاختراقات بالإضافة إلى شبكة المعلومات التي أقامتها الوكالة اليهودية بمختلف النخب المشار إليها في الدراسة إلى جانب العلاقات الحميمة التي أقامتها مع قادة مهمين في جبل العرب بسورية ، في إطلاع الوكالة اليهودية بدقة على ما يجري في سورية. وفي التأثير في توجهات بعض هذه النخب من الثورة في فلسطين ومواقفها، وفي عرقلة الدعم الذي كان يقدمه الشعب السوري وقواه الوطنية للثورة الفلسطينية.

يرى فيليب خوري أن الاعتقاد السائد لدى فئات من السياسيين والزعماء الوطنيين بأن النفوذ الذي يتمتع به الزعماء اليهود لدى الساسة الأوربيين، كان أحد أهم الدوافع التي شجعتهم على تلك الاتصالات، وأن القناعة بأن رئيس الوزراء الفرنسي ليون بلوم (وهو يهودي اشتراكيا أيضا) يمكن أن يساعد في تقدم قضية استقلال سوريا، ظلت تدفع ببعض القادة الوطنيين لمتابعة الاتصال والاهتمام بالعلاقة مع اليهود، مع أن هذه الفرضية دحرت بالتجربة العملية مرارًا وتكرارًا، بحيث لا توجد أي مؤشرات تدل على أنها حققت أي نتائج إيجابية تذكر، سواء لقضية استقلال السوريين، أو في مسألة فلسطين على حد سواء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى