مقالات

السعادة بين الحقيقة والوهم

مصعب الأحمد

كاتب وباحث وشاعر سوري
عرض مقالات الكاتب

يرى الإنسان غيره فيزدري ما عنده ، ويظن أن ذاك الغير قد أحاط بالسعادة من جهاتها كلها، فهو بها كقارب في بحر أين التفت تحيطه ذراته.

 وهذا كفيل إن كان أن يجعل بينه وبينها الحدود والسدود ، ليفسد عظيم حاضرها لذة قابلها  ..

آفة الأزواج التوهم ..

بل هو آفة كل شيء ..

يرسم أحدهم الحياة في ذهنه على مثال ما تأنس به نفسه ، وتستعذبه روحه ، فيجهد ما استطاع ليرقى بها سلم المثاليات ، ومنازل الكمالات ، مبعدًا عنها كل ما يفسد رونقها ، ويتلف صورتها ..

ثم ينتقل إلى الواقع، فيرى أن الخيال مهما بالغ في تصوره لم يكن ليحظى بواقع مشوب كذاك ، وعلى قدر مثالية الخيال تكون صدمة الواقع ، فيصاب بصدمة تنسيه ما توهم ، ولا يفتأ يحاول أن يرقى بنفسه إلى تلك المثالية التي لا تكون إلا في أوهامه وأحلام، أو في أوهام القصاص وأحلامهم .. فيكون كالمنبت لا ظهرًا أبقى، ولا أرضًا قطع ..

وتلك هي الآفة الأولى ..

يقولون له غدًا : إذا تخرجت فلسوف تستريح ، وتنال حظك من السعادة ، ثم يقولون، بل إذا توظفت ، ثم إذا ترقيت بالوظيفة ،ثم إذا حصّلت المال، ثم إذا تزوجت، ثم إذا تزوجت بثانية ، ثم بثالثة  ،ثم إذا أنجبت ، ثم إذا زوجت أبناءك ، ثم إذا … إلى آخر تلك المتعاطفات، و التوقعات.  

وهو في كل ذلك ينتظر السعادة المطلقة، فلا يجدها ، تذهب كرباتها لذة روائعها ..

فهو كمن ينتظر ما لا يعرف ، وطالب مالم يدرك ..

وتلك الآفة الثانية ..

يجلس الإنسان فيظن أنه أشقى الناس ، وأنه لم يصب بمصابه أحد ، وأن الشقاء لم يعرف أحدًا كما عرفه هو ، وأن كل من حوله أسعد منه، أو جلهم ، يرى البحر أزرق هادئًا في نهار صاف ، يبرق بريق الذهب المصقول تحت أشعة نافذة ، يراه من الخارج، وهو لا يعلم ما في باطنه من القتل، والدماء ، والظلم والاستئثار  ، وما يكتنفه من الخوف والفزع ..

وما ذاك إلا؛ ليعمل فكره فيرجعَ بالأسباب على مسببها، ويعود بالسخط على مدبّرها ، وهذا هو مكمن الشقاء إن أبصر لا سواه .. عندها يسخط، وينسى نعم الباري التي تكتنف حياته، فينعكس السخط على نفسه.

النظر إلى السعادة ككل لا يتجزأ سوء فهم للحياة ، وتحميل الأمور ما ينكره الواقع، والمآل ، وهو بذلك يعتبر أن وجودها، وجوده، وعدمَها عدمُه ، وتلك هي الآفة الثالثة ..

يرى السجين سعادته بالخروج إلى الفسحة لتلقي أشعة الشمس ، ويراها الصياد في التقاط سمكة كبيرة ، والمحب في الحصول على من يحب ،  والمقامر ببياض زهره ، و المتكبر بخضوع الناس، وذلهم له ، والمريض بشفائه ، والأعزب بالزواج، والمتزوج بالتعدد ، والمعدد بالخلاص ، والمسافر باللقاء  ، والطالب بالنجاح، والتاجر بالبيع ، والمجرم بالنجاة ، والسارق بالظفر …

كل تمثل له السعادة معنى فأيها ذاك ؟

السعادة حمالة أوجه يجمعها ” درك ما لم يكن ليفوتك ، وفوت ما لم يكن ليدركك “

وهي سعادة ناقصة!

لأن ما ذكرناه سعادة ذاتية، لازمة ،تحققها رغبة، أو رهبة ، وهي مراحل زمنية ليست زمنًا مستقلًا ، أعظم منها أثرًا وأبلغ معنى تلك السعادة المتعدية التي يفعلها الإنسان، فيحقق بها مجمل سعادات لا حصر لها ، تلك لذة لا يعرفها أرباب السلطان، والمال، والجاه، والدعة ..

لا سعادة في الدنيا كمن يهب السعادة ، فيصبح ناشرًا لها ، مانحًا إياها  ..

لك أن تتفكر في ذلك، و تستشعر؛ لتشعر بها ، وعندها لن تجد سعادة كسعادتك بها، فترى كل نعمة لم تنلها كأنها نعمة نالتك ..

عندما ترى أبناءك يتقلبون في طمأنينة، وهدوء وراحة ورفاهة ..

عندما ترى أثر إحسانك ،ونتاج عملك، وقد أثمر طفلًا شب بين أبويه ، وكبر تحت عينيهما ، وطالبًا تخرج، وحصل على ما يحلم، ولم يكن ليكون له ذلك لولا معروفك ، ومعوزًا اكتفى ، ومريضًا شفي ، وسجينًا خرج ، وغائبًا رجع ، وجاهلًا تعلم ، وبسمة لطفل كان يرتجف من البرد ،فصار يرتجف من السعادة ..

هي الدنيا كذلك خلق الله فيها السعادة، والشقاء، فعلى قدر فهمك لها تتنعم بالسعادة، وتصبر على الشقاء، وعلى قدر جهلك لها يكون ما تجده من سوء الحال، وفقد السرور وذهاب اللذة ..أيها الأزواج قد تتعكر الحياة، وتتنغص الأيام  ، وتتفرق الحاجات ، وتختلفان اختلاف الليل والنهار ، لكن أعظم سعادة لكم هي أن تضحوا بسعادتكم لسعادة أبنائكم، وهناءتكم لهناءتهم ، لأنكم إن لم تفعلوا ذلك كنتم كمن يطلب سرابًا من سراب ، فلا أنتم بلغتم غايتكم منها، ولا بلغ أبناؤكم غايتهم بكم ، فكنتم كالمستجير من الرمضاء بالنار .. 

اختلفوا كما تشاؤون وليكن لكل منكم عالمه إن تعذر الجمع، ولم يمكن التقارب ، لكن لا تضحوا أبدًا بسعادة أبنائكم من أجل سعادتكم ..

لا تسرفوا في الأوهام، وتبالغوا بالأحلام ، ولا تتوقعوا أنكم في مدينة فاضلة، ولا أن ما عليه غيركم خير مما أنتم عليه ، فقد يدرك أجهل، وأفقر، وأقل الناس منها مالا يدركه أعلم، وأغنى وأعظمهم ..

السعادة هي:

فهم الدنيا ، وسبب وجوده فيها ،وغاية تحصيله منها ، وما ستؤول إليها شؤونه بعدها ..

ظن قوم أن السعادة بالمنصب فبلغوه، ولم يبلغوها !

ظن بعضهم أنه المال، فحازوه، ولم يحوزوها !

ظن غيرهم أنه بالعلم، فحصلوه ولم يحصلوها !

ظن آخرون أنه بالحب، فنالوه، ولم ينالوها !

فأين هي إذا ؟

إن كنت تبحث عنها على أنها مُطْلقة لا تتقيد، وكل لا يتجزأ فلن تجدها .. وما هي إلا محطات تتوالى ، ونفحات تهب كل حين ، لا تقاس بالساعات، فلحظاتها سنوات، وأيامها أعمار ،  يملؤها علم ، ويكسوها فهم ، ويجملها رضا ، ويكملها بذل ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى