حقوق وحريات

العدالة التصالحية والثورة السورية رؤية قانونية سياسية

الدكتور السيد مصطفى أبو الخير

خبير أكاديمي في القانون الدولي
عرض مقالات الكاتب

     منذ قيام الثورة السورية التى بدأت في منتصف شهر آذار (مارس) عام 2011 عند خروج مظاهرات في مدن سورية مطالبة باطلاق الحريات ،وإخراج المعتقلين ورفع حالة الطوارئ، ثم تطور الأمر إلى المطالبة بإسقاط النظام السورى بالكامل، بحلول شهر يوليو من عام 2011 تطوَّرت مظاهر الاحتجاجات إلى اعتصاماتٍ مفتوحة في الميادين الكبرى ببعض المدن، وقد تعرضت تلك المظاهرات السلمية والاعتصامات لكافة وسائل الفض غير السلمية باستخدام الأسلحة ضد المتظاهرين، وفى شهر آب أغسطس أعلن عن تأسيس الجيش السورى الحر ،وبدأت المواجهات العسكرية وبحلول نهاية عام 2011م وبداية عام 2012م بدأت الحرب بكل ما تحمل الكلمة من معنى بين النظام السورى والشعب السورى الذى خرج مطالبًا بإسقاط النظام ومحاكمته.

     منذ ذلك الحين وحتى تاريخه ،تعرضت الثورة السورية لسلسلة من المؤامرت العسكرية والسياسية عن طريق إدخال الشعب السورى فى دوامة المفاوضات التى لا طائل من ورائها ولا هدف لها سوى الالتفاف على الثورة وإطالة بقاء النظام السورى الذى فقد شرعيته بالثورة عليه، لكون هذا النظام جزءًا أصيلاً، ومكونًا أساسيًا من المؤامرة على الأمتين العربية والإسلامية، فقد حمى النظام الحدود السورية مع كيان الاحتلال الصهيونى، ومنع أى مقاومة تذكر لهذا الكيان الاحتلالى، بل أكثر من ذلك فقد تنازل وأسقط وباع الجولان بثمن بخس، هضبة الجولان التى يجب لكى يسيطر عليها الكيان الصهيونى لا بد أن يفقد أكثر من نصف جيشه إن نجح فى الإستيلاء عليها لذلك كان لا بد من المحافظة عليه ومكافأته على ذلك، بالاستمرار فى الحكم مهما كانت تكلفة ذلك من الشعب السورى.

     ترتيبًا على ذلك، سمح للنظام السورى غير الشرعى باستخدام كافة الوسائل وأخطر الأسلحة المحرمة دوليًا وإنسانيًا ضد الشعب السورى المبتلى به، فارتكب بحق الشعب السورى كافة الجرائم الدولية الأشد خطورة فى العالم الواردة فى النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية فى المواد من الخامسة إلى الثامنة، وهى جريمة الإبادة الجماعية (المادة السادسة من النظام) والجرائم ضد الإنسانية (المادة السابعة من النظام) وجرائم الحرب(المادة الثامنة من النظام) هذه الجرائم التى لا تسقط بالتقادم ، ولا يملك أحد التنازل عنها أو عليها لأنها تعتبر قاعدة آمرة ،وأحكامًا عامة فى القانون الدولى، ولا يعتد بأى تنازل عنها، فضلا عن كون حقوق الإنسان عامة السورى خاصة تعتبر من تلك القواعد الآمرة، وقد انتهك النظام غير الشرعى فى سوريا كافة الانتهاكات الجسيمة والبسيطة فى حق الشعب السورى المبتلى به.

     ومن المؤسف والمحزن ،أن كانت الأمم المتحدة من أهم وأخطر الآليات التى تم تنفيذ المؤامرة على الشعب السورى، عن طريق التخاذل فى إتخاذ إجراء حاسم لوقف المجازر البشعة والجرائم الأشد خطورة فى المجتمع الدولى التى ارتكبت فى حق الشعب السورى عقابًا لرفضه نظام فاسد قاتل متآمر على الشعب وعلى الأمتين العربية والإسلامية، ففى ميثاق الأمم المتحدة ما يردع عصابة الأسد، أين الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، أين مجلس الأمن الذى شارك بصمته فى كافة الجرائم التى وقعت فى حق الشعب السورى، لماذا لم يحل مجلس الأمن الأسد وعصابته إلى المحكمة الجنائية الدولية لارتكابه كافة الجرائم الدولية الواردة بالمادة الخامسة بنظام روما الأساسى، كما فعل فى ليبيا أو فى السودان، لماذا لم يتم تحويل عصابة الأسد للمحكمة الجنائية الدولية طبقا للمادة (13/ب) من نظام روما الأساسى، أنها المؤامرة والمكافأة لنظام حمى كيان الاحتلال فى فلسطين المحتلة وشارك فى رعايته وتقويته؟

     كل ما فعله مجلس الأمن هو تعيين ممثل خاص للأمم المتحدة لحل النزاع السورى، فى ذات الوقت جرد هذا المبعوث من أى آلية لحل النزاع، لذلك كان الفشل نصيب الجميع بداية من كوفى عنان ثم الأخضر الإبراهيمي وغيرهما حتى البيدرسون، ثم مؤتمرات جنيف 1 و 2 وغيرهما وهى فى حقيقتها مؤامرات ضد الشعب السورى، ومنح فرصة للنظام المجرم عساه يستطيع أن يخمد الثورة السورية التى باتت تقض مضاجع الطغاة خاصة فى عالمنا العربى، ولكن دون جدوى تذكر فلم يزل الشعب السورى فى أوج ثورته التى تآمر عليها الشرق والغرب القريب والبعيد، وأخر تلك المؤامرات ما صرح به بيدرسون من ضرورة تطبيق العدالة التصالحية بين الشعب السورى والنظام الفاقد للشرعية بالثورة عليه.

     العدالة التصالحية ؛ هى آلية تم استحداثها لتخفيف العبء عن المحاكم الوطنية التى تزدحم أدراجها بالكم الكثير والضخم من القضايا، وهى توازن بين مصالح الخصوم، ويجب أن يتنازل كل خصم عن شيء حتى تتم تلك المصالحة، وليس من العدالة التصالحية تنازل طرف عن حقه، فى مقابل عدم تنازل الخصم الآخر عن أى شيء، فالنظام فى سوريا غير الشرعى فى حالة تطبيق العدالة التصالحية عن أى شيء سوف يتنازل مقابل تنازل الشعب السورى عن حقه فى القصاص من المجرم الذى لم يتوان عن ارتكاب أى جريمة مقابل استمراره فى الحكم، لا شيء، لذلك لسنا هنا فى مقام الحديث عن عدالة تصالحية ولكن عن مهرب وملجأ للمجرم للإفلات من العقاب بل ومكافأته على جرائمه فى حق الشعب السورى المبتلى به.

     العدالة التصالحية التى يريد تطبيقها مبعوث الأمم المتحدة بيدرسون ،على النزاع السورى لا تنطبق بمفهومها القانونى على النزاع السورى بين النظام الفاقد للشرعية والشعب السورى الرافض لحكم عصابة الأسد على الشعب السورى والنعامة على أعداء الأمة، وذلك للأسباب التالية :

أولاً: العدالة التصالحية تكون بين خصمين يعترف كل منهما بالآخر، وهذا غير موجود فى الحالة السورية لأن الشعب السورى سحب اعترافه بالنظام – وهذا حقه القانونى –  بالتالى أصبح النظام غير شرعى، والمقصود من طرح مصطلح العدالة التصالحية هنا هو جرّ الشعب السورى للاعتراف بالنظام الذى ضحى من أجل إزاحته بكل نفيس وغال، لذلك نقول :إن الهدف من تلك العدالة التصالحية سياسى خبيث، يضيع على الشعب السورى كافة التضحيات الغالية والثمينة منذ بداية الثورة حتى الآن، وإضفاء شرعية على جثث الشعب السورى أطفالا وشبابًا وشيوخًا ونساء، رفضها الشعب السورى ولن يقبلها مهما كانت التضحيات.

ثانيًا: الجرائم التى ارتكبها النظام غير الشرعى فى سوريا لا تسقط بالتقادم، طبقا للمادة (29) من النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية التى نصت على (لا تسقط الجرائم التى تدخل فى اختصاص المحكمة بالتقادم أيا كانت أحكامه) لذلك فهى قائمة ويجب محاكمة مرتكبيها، ومضمون العدالة التصالحية التغاضى عن تلك الجرائم وفتح صفحة جديدة مع نظام غير شرعى.

ثالثًا: العدالة التصالحية مخالفة لمبدأ عدم إفلات مرتكبى الجرائم الدولية من العقاب، وهو المبدأ الذى أكد عليه نظام روما الأساسى، فقد نص عليه فى ديباجته فذكر (وقد عقدت العزم على وضع حد لإفلات مرتكبى هذه الجرائم من العقاب وعى الإسهام بالتالى فى منع هذه الجرائم) وبالتالى لا يجوز العدالة التصالحية هنا بين نظام غير شرعى وشعب مجنى عليه.

رابعًا: العدالة التصالحية فى الحالة السورية تخالف الثابت والمستقر فى القانون الدولى الإنسانى ،والقانون الدولى لحقوق الإنسان، حيث أنتهك النظام غير الشرعى أبسط وكافة حقوق الإنسان السورى، وحماية حقوق الإنسان أصبحت من المبادئ العامة والقواعد الآمرة فى القانون الدولى بكافة فروعه القانون الدولى الجنائى والقانون الدولى لحقوق الإنسان والقانون الدولى الإنسانى، وتلك القواعد الآمرة لا يجوز التنازل عنها أو التفاوض عليها من الخصوم، ويقع كل تنازل أو تفاوض عليها باطل بطلانا مطلقا أى منعدما، والإنعدام أعلى درجات البطلان، فلا يعد ذلك تصرفا قانونا، لكنه يعد فعلا ماديا يقف عند حده، ولا يرتب القانون الدولى أى آثار قانونية عليه، حتى لو تم برضاء الخصوم أى لا يصححه رضاء الخصوم.            

خامسًا: العدالة التصالحية مخالفة لشرع الله ،حيث يقول رسول الله صل الله عليه وسلم (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا) وهذه العدالة التصالحية محرمة إسلامية لأنها تحل ما حرّم الله.

 سادسًا: العدالة التصالحية التى يتحدث عنها المبعوث الأممى تخالف المبادئ الأساسية لاستخدام برامج العدالة التصالحية في المسائل الجنائية اعتمدت ونشرت على الملأ بموجق قرار المجلس الاقتصادي والاجتماعي رقم 2002/12، المؤرخ في 24 تموز/يوليه 2002م، ويخالف أيضا ما أنتهى لجنة منع الجريمة والعدالة الجنائية فى الدورة الحادية عشرة لعام 2002م بشأن مناقشة إصلاح نظام العدالة الجنائية وتحقيق الفاعلية والإصلاح وبيان معايير الأمم المتحدة وقواعدها فى مجال منع الجريمة والعدالة الجنائية وتقرير الأمين العام عن العدالة التصالحية. ويخالف أيضا التقرير الصادر عن الدورة السابعة والعشرون فى مايو 2018م بشأن العدالة التصالحية. ويخالف ما صدر عن مجلس حقوق الإنسان آلية الخبراء المعنية بحقوق الشعوب الأصيلة الدور السابعة تموز يولية 2014م. ويخالف أيضا ما صدر عن مؤتمر الأمم المتحدة الحادى عشر لمنع الجريمة والعدالة الجنائية المنقعد بانكوك أبريل 2005م.

     كافة الوثائق السابقة أكدت على أن العدالة التصالحية يجب ألا تضر بأحد طرفى النزاع أو تكون مهربا للجانى من عقابه وإفلاته من القصاص، والعدالة التصالحية التى يطرها هذا المبعوث هى ظلم بين للشعب السورى وحبل نجاة لنظام مجرم أرتكب أشد الجرائم خطورة فى المجتمع الدولى، بل لم يتوان عن إرتكاب أى جريمة سواء من نفسه أو من خلال مساعدة روسيا التى تعتبر فاعلا أصليا فى كافة الجرائم الدولية التى ارتكبها النظام السورى غير الشرعى، وكذلك الولايات المجرمة الأمريكية من وراء الكواليس أحيانا وصراحة فى كثير من الأحيان.

سابعًا: تمثل العدالة التصالحية المعروضة انتهاكا واضحا لمبدأ الإنسانية وهو من المبادئ العامة والقواعد الآمرة فى القانون الدولى الإنسانى، لأنه يحرم الإنسان السورى من حقه فى عقاب المجرم، لم يراع الإنسانيه مع الشعب السورى، وتفريط فى الدماء الذكية التى سالت.

     لذلك ؛ فإن العدالة التصالحية التى تريد الأمم المتحدة تطبيقها على الأزمة السورية تعد انتهاكًا واضحا وصريحا للقانون الدولى الجنائى، والقانون الدولى لحقوق الإنسان والقانون الدولى الإنسانى، وأيضا لميثاق الأمم المتحدة، لمخالفتها المبادئ العامة والقواعد الآمرة فى تلك الفروع من القانون الدولى السابق ذكرها، لذلك فهى منعدمة وولدت ميته، وهى بمثابة مكافأة لنظام مجرم غير شرعى فقد شرعيته من الشعب السورى الذى رفضه ولازال يرفضه، كما أن ذلك يمثل تضحية بلا مقابل لدماء شهداء الثورة السورية، بل خيانة لتلك الدماء الطاهرة.    

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى