مقالات

قيم الجمهورية الفرنسية العوراء

د. أحمد بن عثمان التويجري

رئيس منظمة العدالة الدولية ورئيس منتدى السلام العالمي ، وعضو مجلس الشورى السعودي سابقاً
عرض مقالات الكاتب

قامت في فرنسا خلال اليومين الماضيين قيامة الإعلام وكثير من السياسيين الفرنسيين ولم تقعد بسبب تعرض الوصيفة في مسابقة جمال فرنسا لعام ٢٠٢١م الآنسة أبريل بنعيوم (وهي فرنسية يهودية من أصول إيطالية) لحملة كراهية في تويتر وعلى مواقع التواصل الاجتماعي الفرنسية. وقد تسابق عدد كبير من السياسيين والإعلاميين المشاهير وكبريات وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب في فرنسا في شجب وإدانة ما تعرضت له الوصيفة من سباب وبذاءات، وطالبوا بملاحقة من تعرضوا لها ونالوا منها وإيقاع العقوبات عليهم.

في تعليق له على ما حدث قال وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان : “لقد صدمت بشدة من تساقط الشتائم المعادية للسامية ضد الآنسة بروفانس. يجب ألا ندع أي شيء يذهب. عار على مؤلفيها. لقد حشدنا قوات الشرطة والدرك(لتتبع المسيئين)”. وفي تصريح له شجب رئيس الوزراء السابق مانويل فالس “معاداة السامية التي لا تطاق” ودعا إلى “عدم ترك أي شيء يذهب” (أي وجوب ملاحقة المسيئين). أما نائبة عمدة باريس أودري بولفار فقالت: “معاداة السامية ليست رأيًا ، إنها جريمة”. وفي تعليق مشابه قالت كارول ديلجا ، رئيسة الاشتراكية لمنطقة أوكسيتاني: “يجب استخدام المزيد من الوسائل لمكافحة الكراهية على الإنترنت وبدء الإجراءات الضرورية لاجتثاثها”.

في ظل ردات الفعل هذه ومثيلاتها التي تتابعت في فرنسا من كل حدب وصوب، أجد من المناسب التذكير بما قاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكارون عندما احتج المسلمون على الرسوم الكاريكاتورية التي نشرتها صحيفة شارلي أبدو الفرنسية، تلك الرسوم المنكرة التي أساءت لنبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وربطته بالإرهاب وجملة من الشناعات المقيتة، حينما قال: “إن فرنسا لن تتخلى عن الرسوم الكاريكاتورية”، وقال في نعيه للمدرس الفرنسي الذي اغتيل بسبب عرضه الرسوم المنكرة على طلابه في إحدى مدارس باريس: “إنه كان يجسّد القيم العلمانية والديمقراطية في الجمهورية الفرنسية”، بل وعندما قال في مؤتمر صحفي جمعه مع الرئيس عبدالفتاح السيسي قبل أيام في باريس: “في فرنسا هناك حرية الصحافة ، أي أن الصحفي والرسام في فرنسا يرسم ويكتب ما يريد، ولا يملك الرئيس ولا أي هيئة أن تقول له ما يجب أن يرسم أو يكتب وهذا هو الحال منذ الثورة الفرنسية ومنذ الجمهورية الفرنسية وهذا جزء من حقوق الإنسان… الكاريكاتور تعبير عن شخص وهذا هو القانون في فرنسا وهذا هو القانون الذي اختاره الشعب الفرنسي لنفسه”.

من الواضح أن القيم العلمانية والديموقراطية في الجمهورية الفرنسية كما يفهمها الرئيس إيمانويل ماكارون ومن هم على شاكلته من السياسيين والإعلاميين الفرنسيين قيمٌ عوراءٌ شدية العور، فهي قيمٌ ترى أن التهجم على فتاة مشارِكة في مسابقة جمالٍ أمراً صادماً لا يطاق وجريمةً كبرى يجب أن تحشد لها قوات الشرطة والدرك لتلاحق من أطلقوا التهجم دون تردد أو هوادة، ولكنها في الوقت نفسه ترى أن الإساءة إلى أعظم أنبياء الله وأكرمهم منزلة في قلوب ملياري مسلم ومهاجمته والافتراء عليه زوراً وبهتاناً وتشويه صورته حقاً مشروعاً يحميه القانون الفرنسي وتظله قيم الجمهورية والديموقراطية الفرنسية !!!. إنه ازدواج المعايير في أبشع صوره ، وإنها الانتقائية التي تلامس حدود التمييز والعنصرية في أقبح مظاهرهما وللأسف الشديد.

إن من العزاء أن في فرنسا عدداً كبيراً من الشرفاء من السياسيين والمفكرين والكتاب الذين لا يقبلون هذه الازدواجية ولا يقرّون الإساءة إلى الرموز الدينية لأي ملة تحت أي ذريعة ، ومن هؤلاء رئيس حزب “فرنسا المتمرّدة” عضو البرلمان الفرنسي السيد جان لوك ميلينشون الذي قال في كلمة له في البرلمان: “ثمّة كراهية للمسلمين متنكرةً بزيٍّ علماني” داعياً إلى احترام المسلمين، والتوقف عن التشكيك فيهم، ومضيفاً أن: “أسلوب مكافحة الإرهاب يجب أن يتغيّر”.

إن السيد ميلينشون ونظراءه من الشرفاء الفرنسيين هم العزاء في هذه الأوضاع الشديدة القتامة، وهم الذين يمثلون قيم الثورة والقيم العلمانية والديموقراطية الحقيقية في الجمهورية الفرنسية وليس الرئيس ماكارون ومن هم على شاكلته من مزدوجي المعايير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى