مقالات

سورية .. نهاية العهد الوطني وفشل مشروع الدولة السورية الحديثة

معاذ السرّاج

باحث في تاريخ سورية المعاصر وشؤون الحركات الإسلامية
عرض مقالات الكاتب
  • مقدمة:

تمثل نهاية العهد الوطني، التي وضع خاتمتها انقلاب البعث عام 1963، فشل محاولة بناء الدولة السورية الحديثة بعد استقلالها عن الاستعمار الفرنسي عام 1945، التي تُعد المحاولة الثانية بعد مشروع “المملكة العربية السورية” التي أعلنتها الجمعية التأسيسية، في 8 آذار 1920، ونصبت فيصل بن الحسين ملكا عليها، بعد أن ظل أميرا طيلة الفترة التي أعقبت خروج العثمانيين من سوريا في تشرين الأول عام 1918.

لكن هذه المحاولة لم تكن الثانية وحسب، بل كانت الأخيرة كذلك. ذلك أن سوريا، ومنذ انقلاب البعث، وإعلان حالة الطوارئ، وتعطيل الدستور، وحل البرلمان، أخذت بالانحدار إلى مستوى منظمة سياسية بأجهزتها الإدارية والحزبية والسلطوية، وما لبثت أجزاء كبيرة من مؤسساتها الاجتماعية والسياسية، أن أصبحت خارج “الدولة – السلطة”. وبدل إعادة كيان الدولة، وترسيخ مؤسساتها، فقد نجح الحكام الجدد في تفكيك البلاد, مجتمعا ودولة, وإلى ذلك أشار الباحث البلجيكي دانيال لوجاك في كتابه “سورية في عهدة الجنرال الأسد” الذي صدر عام 1990، عندما قال: ” قبل عقود كانت الغالبية العظمى من السوريين واللبنانيين يطالبون بكل فخر بعروبتهم، اليوم كل واحد يتخندق وراء طائفته الأصلية، وليس هناك حديث إلا عن مسيحيين ودروز وشيعة وسنة وعلويين ويهود”, وقال عن حافظ أسد إنه “لم يكن مهتماً إطلاقاً بتأسيس نظام حكم، ومن هنا تأتي صعوبة اقتلاعه من قبل معارضيه”..

أما ميشيل سورا، الباحث الفرنسي، الذي شهد أحدث الثمانينات عن كثب، وراح ضحية غدر عصابا السلطة، فقد قال: “إن أصالة الممارسة السياسية في سورية تأتي من كونها ليست علامة على وجود دولة، بل هي في أغلب الأحيان نفي للدولة”. وأضاف في كتابه “سورية الدولة المتوحشة”, أن “كل ما فعله حافظ أسد منذ استلامه السلطة لا يعدو إقامة شبكة من المافيات العسكرية وشبه العسكرية، ونشر الخوف والرعب، تحت شعارات لا تلبث أن تتبدل وتتغير حالما يتبين زيفها وكذبها”.

والخلاصة أن مشروع الدولة السورية انتهى فعليا مع نهاية العهد الوطني، ولم يعد قائما. وفي هذه الورقة سنتناول جانباً من المشكلات التي عانت منها سورية بعد الاستقلال, وكانت سبباً في إفشال مشروع الدولة السورية الحديثة وبناء مؤسساتها.

  • أعياد الاستقلال والنذر الأولى:

على الرغم من الفترة الطيبة التي شهدتها سورية بعد الاستقلال، والتي توفرت على بيئة سياسية وثقافية واجتماعية مفعمة بالحيوية والنشاط والحماسة البالغة، ومنفتحة على آمال عريضة بالتنمية والتطور والازدهار، وفي ظل حكم برلماني دستوري، تقوده نخبة من الساسة والزعماء الوطنيين الذي عُرفوا بنضالهم وتضحياتهم واستقامتهم، منذ أيام الاحتلال الفرنسي، إلا أن بوادر مؤسفة, رافقت أعياد الجلاء، وأبت إلا أن تعكر صفوها، منذرة بمستقبل يحمل بين طياته الكثير من العقبات والمعوقات.

كان على القادة الوطنيين في تلك الفترة الحساسة و (الانتقالية) أن يتحلوا بقدر كبير من الجرأة والشجاعة، وأن يُظهروا أقصى ما يملكونه من حنكة وتجربة وممارسة، ليتمكنوا من الموازنة بين آمال وطموحات عريضة من جهة، وبين مواجهة ما سيعترض سبيلهم من مشكلات وتحديات تلوح بالأفق. خاصة وأن استقلال سورية جاء في ظروف سياسية معقدة، واكبت نهاية الحرب العالمية الثانية،وإعادة رسم خرائط النفوذ الاستعماري، وبدء تشكل دول وممالك جديدة، برعاية خارجية، وعيون مفتحة على المزيد من الهيمنة والنفوذ.

 معركة الاستقلال عام 1945, نشبت أساساً، بسبب محاولة فرنسا فرض تعديلات إضافية تضمن لها المزيد من المصالح الثقافية والاقتصادية، ولأجل المماطلة في تنفيذ معاهدة الاستقلال، فقد أصرت على الاحتفاظ بسيطرتها على القوات الخاصة السورية، ودفعت بعض الفرق العسكرية للتمرد، والقيام بأعمال التخريب والفوضى، وسرقة مخازن السلاح، والاعتداء على السكان. وفي نهاية المطاف؛ وبعد تسوية الأوضاع، غادر كثير من هؤلاء مع القوات المنسحبة، مؤثرين الاحتفاظ بجنسيتهم الفرنسية، ولم تكن تلك الحادثة سوى إنذار مبكر بالمخاطر القادمة.

من جهة ثانية، وعلى خلاف ما توقعه أقطاب الحكم الوطني، الذين بذلوا جهوداً كبيرة لتلافي النعرات التي خلفها الانتداب الفرنسي، فإن قوى انفصالية في أقاليم الجزيرة واللاذقية وجبل العرب، ما لبثت أن نشطت بقوة وعنف، بعد أشهر قليلة من احتفالات الجلاء، وأعلنت التمرد، مستغلة فترة الانتقال التي تمر بها الدولة.

بدأ ذلك في منطقة الساحل، في 9 كانون أول 1945, حين قام الآلاف بإثارة الفوضى، والسيطرة على بعض القرى وانتزاعها من مالكيها, بذريعة الاحتجاج على قرار السلطة المركزية في دمشق إلغاء الاستقلال المالي والإداري لمحافظة اللاذقية، والذي أبقت عليه فرنسا بعد إلغاء دولة العلويين.

وفي جبل العرب (جبل الدروز)، تثور فتنة بين عائلتي الأطرش وأبو عسلي، تحدث على إثرها اضطرابات واسعة، تدمر خلالها المباني والممتلكات العامة، و يهاجم موظفو الحكومة، ويُضطرون إلى الفرار وترك أعمالهم.

ويتكرر الأمر في الفترة نفسها في الجزيرة، شمال شرق سورية.

مظاهر أخرى تضاف إلى ما حدث، فالاقتصاد كان يمر بصعوبات كبيرة، ونتيجة سياسة التوهين التي اتبعها الفرنسيون، فإن الأوضاع المعيشية لم تكن في أحسن أحوالها، وبدت الحكومات المتعاقبة عاجزة عن مواجهة زيادة الأسعار، وانخفاض الدخل، وتغطية نفقات الدولة, ومعالجة عجز الميزانية. وزاد الطين بلة، تعثر المفاوضات مع شركات خطوط نقل النفط العراقي، بسبب التدخلات الأجنبية، مما حرم البلاد من موارد هي بأمس الحاجة إليها.

ترافق ذلك كله، مع صعوبات كبيرة واجهت بناء مؤسسة عسكرية وطنية، وتوفير احتياجاتها من مرافق وكليات عسكرية وتدريب وعتاد، وأسهم في ذلك إلى حد كبير، سوء السياسات كما ذكر خالد العظم، مما سيجعل من الجيش عاملاً أساسياً من عوامل الفوضى والاضطراب خلال السنوات التالية.

  • العامل الذاتي ومسؤولية النخب:

لا يُقصد بالمراجعات وفتح صفحات التاريخ، محاكمة الماضي وإلقاء التبعات على أولئك الذين قادوا البلاد في مرحلة من المراحل، وخاصة القريبة منها. ولعل الرمزية التي حظيت بها فترة العهد الوطني، والاحترام والتقدير الكبير الذي يُكنه السوريون لرموزها وزعمائها, حال بنسبة كبيرة, دون الحديث عن فشلها، والأسباب التي أدت إليه، مع أن هذا لا يقلل من شأنها، ولا ينتقص من مكانة شخصياتها. وقد رأينا خالد العظم ،وهو من أبرز قادة تلك الفترة، لا يغفل حين يذكر بعض الشخصيات التي زاملها وعمل إلى جانبها، أن يشير إلى سلبياتها وإيجابياتها، حسب رأيه، لكنه يحتفظ لها بالتقدير والاحترام، ويعطيها حقها بالوصف والتحليل.

في سياق حديثه عن مشكلات ما بعد الاستقلال، يشير العظم إلى ضعف الحس الوطني “الذي لم يبلغ حد النضج والشعور بالمسؤولية، والمطامع المالية وحب الإثراء، “الذي كان يملأ صدور أكثر التجار”، والمساومات للحصول على القطع النادر، ورخص الاستيراد، وتعهدات الدولة، والرشوة التي أصبحت وسيلة قضاء المنافع الخاصة، ومادة للاتهام “يتراشقها النواب والوزراء جزافاً، واللجان التي تحقق ثم تطوي تقاريرها.. و”النواب يهاجمون الوزارة تلو الوزارة، فتتبدل الأوجه، وقلما تتبدل الخطط والأعمال”… “حتى انحطت في نظر الناس مكانة الحكام”.. وهكذا.

يقول العظم: “لم يكد يجلو آخر جندي فرنسي عن سورية ، ولم تكد تنتهي أفراح الجلاء حتى التفت كبار ساسة الدولة السورية ورجالات الحكم إلى توزيع المناصب والمغانم وتقريب الأتباع والمحاسيب ، فصارت خيرات سورية نهباً بين جماعات المحتكرين والمنتهزين”.

وفي تلك الفترة؛ كانت الصحافة تنشط بقوة، وبين عامي 1946 و194، شنت حملة انتقادات شديدة على مؤسسات الدولة ومسؤوليها، ودعا عدد من الكتاب والمفكرين, من بينهم جلال السيد، إلى انقلاب جذري يجتث الفساد من جذوره.

وجاءت حرب فلسطين عام 1948، وفضائح الأسلحة الفاسدة، لتزيد من حدة الانتقادات التي وصلت إلى أعضاء البرلمان والحكومة، وتعدت إلى اتهامات بالخيانة والانحراف والتعامل مع القوى الخارجية، والانخراط في أجندات إقليمية ودولية. وقد ورد في بعض المذكرات، ومنها مذكرات السياسي العراقي طه الهاشمي، اتهامات طالت شخصيات عسكرية ومدنية، بالتعامل مع أجهزة المخابرات البريطانية والفرنسية، ووسطاء من العراق والأردن وتركية، ودول أخرى، مقابل أموال كبيرة قبضها أولئك المتعاونون. ولا عجب، من ثم، أن تصبح تهم التآمر والخيانة والعمالة جزءاً لا يتجزأ من قاموس المصطلحات السياسية السورية في تلك الفترة.

الدكتور أديب نصور (1922 – 2007)، الذي عاصر تلك المرحلة وكان أحد رجالاتها، أجمل الحديث بقوله: “الأمة بأجمعها مسؤولة، بجميع رجالها وأجيالها وفئاتها وأحزابها، لا يكاد يستثنى منهم أحد, وإن كانت المسؤولية الأولى تقع على عاتق النخب التي قادت الدولة والمجتمع، وبخاصة الزعماء الوطنيين والسياسيين وضباط الجيش، والكتاب والأدباء والصحافيين وأصحاب الأقلام التي روجت للأخطاء وللفساد والانحراف، وأولئك الذين أوغروا الصدور على رجال وطنهم، وعلى تاريخهم وتراثهم، وشوهوا الحياة السياسية وقيمها ومبادئها”.

  • جذور المشكلات:

لاشك أن فشل النموذج السياسي للدولة الناشئة، التي كان معقد أمل السوريين بعد الاستقلال، يرجع إلى عوامل مباشرة، وأخرى عميقة، أكثر تعقيداً وتشابكاً، وقوى اجتماعية نبعت من ظروف تلك الفترة وطبيعتها، تضافرت بمجموعها لتقود البلاد إلى قدرها التاريخي الذي سيحكمها عقودا طويلة.

ويُعد أديب نصّور، في كتابه “قبل فوات الأوان”، من أكثر الشخصيات التي تناولت هذا الموضوع، من أكثر من تناولوا هذا الموضوع بدقة وتفصيل، وأثنى عليه السياسيون والزعماء وفي مقدمتهم الرئيس شكري القوتلي. وله مقالات ومحاضرات حول هذه الفكرة، جُمعت في كتاب “وطنيون وأوطان”، وكلاهما صدر في تلك الفترة.

وفي سياق تحليله لتلك الفترة، يستعرض الدكتور أديب نصور مشكلات ما بعد الاستقلال، ويعود بها إلى البدايات والمثال السياسي والاجتماعي والثقافي، الذي ساد في بلاد الشام طيلة العهد العثماني وانتهى بسقوطه، وعجز حركة النهضة العربية, عن ملء الفراغ الحاصل, وسد النقص والحاجة, في ظل الظروف والتحولات التي طرأت بعد الحرب الأولى, وسارت بعكس ما كان يرجوه الإصلاحيون والزعماء الوطنيون.

فالدين، على سبيل المثال, فقد هيبته وسلطانه على القلوب والنفوس, حتى أصبح موضع استخفاف وازدراء لدى بعض شرائح المجتمع وفئاته. وزاد الطين بلة, مجيء الفرنسيين, الذين انتهجوا سياسة تحط من شأن الدين، وتفرض عليهم قوانينها في الأحوال الشخصية، والأوقاف والتعليم، وتتعمد نشر الفساد، وإذلال العلماء وتهميشهم.

والقومية مرت بدهاليز ومطبات، وفقدت الكثير من مضامينها ومقوماتها، بعد أن أُجهضت حركة النهضة العربية، وانتهى الأمل بقيام الدولة العربية الكبرى. ونتيجة سياسات التجزئة والتفكيك التي اتبعتها القوى المستعمرة، حلت القوميات الجزئية والدعوات المفرطة في المحلية، محل القومية الجامعة. وفشل القادة والزعماء في أن يجعلوا من الشعارات القومية والوطنية واقعا فعليا، وأن يصنعوا المواطن الذي يتعهدها, ويعمل لبلده وأمته, ويحترم قانونها وقيمها ومبادئها.

وفي تلك الفترة؛ تصاعدت النزعات الذاتية والدعوات المحلية المفرطة، التي بدأت مع ازدياد التدخلات الأجنبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأخذت طابعاً سياساً بعد الاحتلال الفرنسي، وتقسيم سورية إلى دول طائفية. الأمر الذي سيترك على المدى الطويل, آثاراً عميقة على البنى الثقافية والاجتماعية والثقافية في سورية، ويمهد لقيام الحكم الطائفي عام 1970.  

ومن ناحية أخرى، فإن الاحتكاك بالغرب والتعرف إليه، والذي بدأ مبكراً, كان في أضعف نقاطه وأوهن بيئاته، ولم يكن في نقاط قوته وتقدمه وتماسكه، كما أشار أكثر من واحد، من بينهم الدكتور أديب نصور الذي تلقى علومه في فرنسا. وقد أدى التأثر الشديد بالنظريات والفلسفات الأوربية، من يمين ويسار وإلحاد وفوضوية ووجودية، إلى زلزلة أركان المجتمع، وشوش أفكاره وقيمه، في فترة نشطت فيها العلمانية وتراجعت المثل والقيم المحلية بقوة، مما سيدخل المجتمع في صراع فكري وثقافي استمر طيلة العقود التالية، بحثاً عن هوية مفقودة، وفكرة جامعة، ومثال سياسي واجتماعي وثقافي مستقر، بعد أن فرغت ساحته منه لعقود خلت.

ولقد رأينا كيف أن الآراء والأفكار التي اقتبسها المنظرون وقادة الأحزاب، من التجارب الأوربية، مثل الانقلابية والعنف الثوري والشمولية وغيرها، فرضت على ثقافة المجتمع، ومناهج الدراسة، نمطاً جديداً مغايراً لطبيعته وأعرافه وأخلاقياته، ولم تكن الطريقة السليمة لفهم الفكر الغربي، وطبيعة الثورات، ووظيفتها في تغيير المجتمعات وتطويرها نحو الأحسن. ورأينا كيف أن الدعوات الحزبية والأفكار الثورية، حوّلت الحرية والديمقراطية الناشئة، التي ازدهرت بعد الاستقلال، إلى تمرد ونقمة وغضب، وأفقدت الجماهير حس المسؤولية والانضباط, وتقدير الصالح العام، في مرحلة أحوج ما تكون للهدوء والاستقرار.

ومن خلال هذا الاستعراض السريع، يظهر الترابط الشديد بين الظواهر التي أفرزتها مشكلات ما بعد الاستقلال، وبين التحولات مر بها المجتمع السوري أثناء الانتداب الفرنسي والعقود التي سبقته، ويتبين مدى الحاجة إلى دراسة هذه المشكلات ومعالجة جذورها الممتدة في أعماق المجتمع السوري وبناه الثقافية والاجتماعية والسياسية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى