مقالات

دور القوى الناعمة … في بناء مشروع المستقبل العربي .

د خضير المرشدي

سياسي وأكاديمي عراقي
عرض مقالات الكاتب

الدول مهما كان حجمها ، فإنها تمتلك قوى تقليدية عسكرية وأمنية واقتصادية تستخدمها في رسم أو فرض سياستها الخارجية وإقامة علاقاتها مع الدول الاخرى، وهذه تعدّ من أهم الأسس التي بنيت عليها العلاقات الدولية لقرون عديدة ، لكن في العصر الحديث بدأت الدول تفتش عن وسائل حديثة وفعالة ، وتبحث عن مصادر جديدة للقوة لاستخدامها في بناء وتعزيز علاقاتها الدولية وفي رسم سياستها الخارجية دون الاعتماد على القوى التقليدية التي تمتلكها التي تسمى بالقوى ( الصلبة ) أي القوى العسكرية والأمنية والاقتصادية إيماناً منها بإن حسم النزاعات بين الدول بالقوة الصلبة لوحدها بات أمراً مستحيلاً، وأثبتت الأحداث إن استخدام القوة الصلبة من قبل دولة ما ضد دولة اخرى لغرض السيطرة عليها وتطويعها واخضاعها وإقامة علاقات سليمة معها لا يمكن أن يتم بمفرده دون الاعتماد على وسائل أخرى سُميت بالقوى الناعمة من أجل كسب حلفاء واصدقاء ليس على المستوى الرسمي فحسب بل ومن فئات الشعب المختلفة أيضاً.

فإذا كانت الدول بحاجة الى استخدام مثل هذا النوع من القوى التي تسمى بالقوى الناعمة بدلاً من القوى الصلبة لإغراء أو إقناع أو جَذِبْ دولة ما واقامة علاقات مع حكومتها وشعبها ، وبناء سياسة متوازنة وناجحة معها ، وفي أحيان كثيرة تلجأ بعض الدول وخاصة الكبرى إلى استخدام القوى الصلبة ، مع وضع استراتيجية لتطبيق القوى الناعمة معها أو بموازاتها مستخدمة الاعلام كأحد أهم أنواع القوى الناعمة لترويج مشروعها ، وهذا ما يطلق عليه مفهوم (القوة الذكية ) أي استخدام القوة التقليدية لتحقيق هدف ما، يصاحبها استخدام حزمة من القوى الناعمة عندما تقتضي الضرورة ذلك …

فإن الأحزاب والحركات والمنظمات وحتى الأفراد إضافة إلى ما يجب أن يوفروه من عناصر القوة المادية الصلبة لتحقيق أهدافهم الوطنية والقومية والانسانية، فهم – باعتقادي-  بحاجة ماسة إلى استخدام القوى الناعمة التي يمتلكون الكثير منها سواءً في المجالات الفكرية أو الثقافية أو الإعلامية أو الإيمانية أو الروحية أو الأخلاقية أو الاجتماعية أو السياحية أو التراثية البعد الحضاري أو الأدبية أو الفنية، أو القيم الاعتبارية والموروث التاريخي والنضالي والشعبي لها ، وفي العادات والتقاليد في الحياة العامة ، وحتى في مجال ممارسة البروتوكول ، وتشكيلة الأزياء ونوعية الأكلات التي تشتهر بها دولة دون أخرى ، وفي مجال استخدام المعلوماتية ووسائل التواصل والتقنيات الحديثة، أو في مجال الاتصال المباشر مع فئات معينة تحمل ذات الاهتمام في المجتمعات ، وعقد ملتقيات ومؤتمرات وندوات وتنظيم حلقات نقاش مشتركة معها ، وإقامة المهرجانات الثقافية والرياضية أو النشاطات المتعلقة بالمرأة والشباب ، أو في مجال نشر الديمقراطية وحقوق الانسان والحريات العامة والتنمية البشرية والتربية والتعليم والصحة والخدمات الاجتماعية والبيئة وغيرها، لتوظيفها جميعاً وتحشيدها من أجل الترويج لمشروع معيّن أو رؤية بعينها لحزب او منظمة او مؤسسة أو دولة أمام الشعب في تلك الدولة أو الشعوب الاخرى ، وبالعمل المشترك مع قواها الفكرية والثقافية الرسمية والشعبية المؤثرة بما يعزز موقع المنظمة صاحبة المشروع ويقوي علاقاتها الدولية في مواجهة التحديات والحملات المضادة ويعاونها في الدفاع عن مصالحها وتحقيق اهدافها رؤيتها.

لقد أصبحت القوى الناعمة اليوم نمطاً من أنماط الحياة الحديثة في التفاعل بين الدول والاحزاب والشعوب في الغرب وفي الشرق؛ وباتت وسيلة فعالة لكسب العقول وتطويع العواطف وتحييد سلوك الشعوب والأفراد وكسب ودٌها ومواقفها، ومما زاد من أهمية القوى الناعمة هو تنوع أنماطها وتعدد أشكالها وابتعادها عن النمط التقليدي المفرط للقوة الصلبة.

فكثيراً ما يتردد الآن مفهوم القوة الناعمة في العلاقات الدولية واكتسب هذا المفهوم انتشاراً كبيراً في البحوث العلمية والفكرية والثقافية، وفي ممارسة الدبلوماسية والخطاب السياسي العام .

وللتعرف على مفهوم القوى الناعمة ، وكيف نشأ هذا المفهوم ؟ وما هي آثاره على العلاقات بين الأمم والدول والشعوب والحركات والمنظمات والأفراد ، نود أن نستعرض الآتي :

إن مفهوم القوى الناعمة هو مفهوم حديث في السياسة الدولية ، وضعه المفكر الأمريكي ( جوزيف ناي ) الباحث في جامعة هارفارد ومساعد وزير الدفاع الأمريكي في عهد الرئيس بيل كلنتون، لوصف قدرة الدول على الإقناع والإغراء والجذب دون إكراه ودون استخدام القوة الصلبة المتمثّلة بالقوة العسكرية أو الأمنية أو الاقتصادية ، ولقد صاغ جوزيف ناي هذا المصطلح في كتابه الصادر عام 1990 بعنوان ( مقدرة القيادة ، الطبيعة المتغيرة للقوة الأميركية )، وقام بتطوير هذا المفهوم في كتابه الآخر الصادر عام 2004 بعنوان ( القوة الناعمة ووسائل النجاح في السياسة الدولية ) وهو المصطلح الذي يستخدم حالياً على نطاق واسع في الشؤون الدولية من قبل المحللين الاستراتيجيين والسياسيين وطبقة من المفكرين والمثقفين .

وحسب المؤلف فإنّ القوة الناعمة هي القدرة على جعل الناس أو الدول ترغب فيما أنت راغب فيه ، وألا يستخدموا الوسائل القسرية لجعلهم يتبعوك ، أي أن القوة الناعمة هي القدرة على الاعتماد على قوة الجذب والإقناع والتأثير والتواصل والتفاعل بدلا من إجبار الدول والشعوب والافراد بالقوة التقليدية العسكرية والاقتصادية على اتباع سياسات معينة رغم الحاجة اليها في حالة معينة ( للدفاع عن النفس أو لفرض السلام الوطني أو الاقليمي أو الدولي ) .

وبحسب المؤلف أيضاً فإنّ أهم وسيلة لتحقيق أهداف الطرف الأول عبر استخدام القوى الناعمة هي استيعاب أولويات الطرف الأخر ، ومعرفة ما يفضله ، بحيث تتماهى رغباته مع رغبات الطرف الأول ، ويتحقق ذلك بسبب ما يمثله من نجاح أو ما يمثله من صنع نموذج يحتذى به .

وإذا كانت مصادر القوة الصلبة هي القوة العسكرية والأمنية والاقتصادية فإن مصادر القوة الناعمة هي :

المصدر الأول : الفكر والثقافة والآداب والفنون والموروث الحضاري ، فكلما كان هذا العامل جاذباً للاهتمام سواء في مستواه الشعبي ، أو في ثقافته العليا كالأدب والفن  زاد تأثير القوة الناعمة .

المصدر الثاني : جاذبية المؤسسات والمنظمات والأفكار الناتجة عنها ، والنشاطات الدبلوماسية التي تقوم بها ، وشرعية ممارساتها التي تعزز القوى الناعمة.

صحيح أن مفهوم القوى الناعمة قد تبلور في بداية تسعينيات القرن الماضي ، لكن الدول قد استخدمته منذ عقود طويلة تحت مسميات وعناوين أخرى مثل ( التعاون المشترك والأحلاف والاتفاقيات الثنائية والمساعدات الدولية وغيرها ).

وكأمثلة عملية على اهتمام الدول بموضوع استخدام القوى الناعمة في مد الجسور فيما بينها ، فإن الصين لجأت الى زيادة قوتها الناعمة من خلال ابتكار مجالات لهذه القوة وإبرازها ، فرغم التقدم التكنولوجي الهائل للصين وثراء تراثها الثقافي والحضاري ، إلا أن قوتها الناعمة متأخرة دون الكثير من الدول الغربية ، ويقال إنها الآن تستثمر مليارات الدولارات لزيادة قوتها الناعمة بإنشاء معاهد ( للثقافة الكونفوشيوسيّة ) في مختلف دول العالم ، بحيث إنها تخطط لإنشاء 1000 مركز بحلول عام 2020، والتوسع في استقدام طلبة من مختلف دول العالم للدراسة . إلاّ إن سمعة الصين لازالت غير إيجابية في أوربا وأميركا رغم تقدمها الإيجابي في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وذلك بسبب الانطباع السائد عن الاستبداد وانعدام حرية الصحافة والرأي وحرية الوصول على المعلومات وشحة مراكز البحوث والدراسات الخاصة .

وفي أمريكا التي تعدّ مركز انطلاق فكرة القوة الناعمة فإن وزير الدفاع الأميركي الأسبق ( روبرت غيتس ) تحدث عن الحاجة لتعزيز القوة الناعمة الأمريكية عن طريق زيادة الإنفاق على الأدوات المدنية التي تعزز الأمن القومي الامريكي ، والاتصالات الاستراتيجية وتقديم المساعدة ، وإعادة الإعمار والتنمية في عدد من دول العالم ونشر النموذج والثقافة والعادات والقيم الامريكية ، رغم النزعة الأمريكية باستخدام القوة الصلبة العسكرية التي استخدمتها الإدارات الامريكية وآخرها العدوان العسكري على العراق واحتلاله والذي كان مؤشّراً رئيسياً في إسقاط إستراتيجية القوة الصلبة بسبب الخسائر العسكرية والسياسية والاقتصادية التي تكبدتها أمريكا جراء تلك الحرب العدوانية .

ووفقا لمسح معهد مونوكل للقوة الناعمة عام 2014 ، فإن الولايات المتحدة تبوأت المركز الأول في اعتماد إستراتيجية القوة الناعمة لتحسين صورتها أمام العالم ولإعادة مصداقيتها التي فقدتها أمام الشعوب بسبب عدوانيتها وتدخلاتها العسكرية خارج اطار القانون الدولي كما حصل في العراق وأفغانستان وغيرها من دول العالم .

تليها ألمانيا التي تعتبر دولة رائدة في مجال استخدام القوة الناعمة من خلال العلاقات والقيم الانسانية وشعار ( صنع في ألمانيا ) وكذلك تميّزها في مجال الرياضة والسياحة والموسيقى والرسم والابتكار ، ومن ثم تأتي بريطانيا واليابان ، والبريستيج الفرنسي والحياد السويسري ، وأستراليا والسويد والدنمارك وكندا .

إن مصدر قوة أمريكا الآن ليست القوات المسلحة والاقتصاد والسياسة والاعلام فقط، وإنما مجموعة من العناصر الداعمة لهذه القوى ، منها أن الولايات المتحدة تجتذب أكبر نسبة للمهاجرين ، والطلبة الدارسين الذين سيحملون عند عودتهم لبلدانهم الكثير من القيم والمبادئ الأمريكية ويمكن أن يكونوا سفراء للثقافة الامريكية ويحتلون في دولهم مراكز صنع القرار . كما تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى في الفوز بجوائز نوبل في الطب والفيزياء والكيمياء والاقتصاد ، وفي مبيعاتها من المؤلفات الموسيقية التي تشكل الضعف مقارنة مع اليابان التي تحتل المرتبة الثانية ، وتعتبر أمريكا أكبر مصدر للأفلام والبرامج التلفزيونية في العالم ، رغم أن بوليوود الهندية تنتج أفلاما أكثر منها في كل عام .

أمريكا عندما غزت العالم وفرضت مصالحها ونمط حياتها على كثير من الدول ، فإن ذلك لم يتم بالقوة العسكرية المباشرة فقط ، وإنما قبل هذا كان بالقوة الناعمة التي تمتلكها مثل السينما وافلام هوليوود ومنظومة إعلامها الرهيبة وقوة إقتصادها ومرونته العالية ، وتأثير مراكز دراساتها وأبحاثها وحتى تأثير مطاعم الوجبات السريعة وموسيقى الجاز وبلوز والروك أند رول والراب الامريكية ، وذلك يتم وفق خطط استراتيجية بعيدة ومدروسة .

وكلنا نذكر كيف أن أمريكا قبل غزو العراق وتمهيدا للغزو والاحتلال ، عندما اتهمت النظام الوطني بالإرهاب ، شنّتْ ما أسمته (حرب العقول والقلوب ) وهو الجيل العاشر من الحروب ، وكان المقصود منها استخدام القوى الناعمة في الاعلام والدبلوماسية والترغيب والترهيب ومنح المساعدات والتسهيلات لتطويع العرب والعالم وكسبهم لكي يتقبلوا مخططاتها العدوانية ، كما ونعرف إن مراكز الدراسات الأمريكية هي التي مهدت لتنفيذ هذا المخطط الذي أدى إلى إسقاط دولة العراق ونشر الصراعات في الأقطار العربية الاخرى.

وبناءً على ذلك : فإن الدول العربية دون استثناء وخاصة المحورية منها تملك رصيداً كبيراً من القوى الناعمة المهمة فيما لو تم استخدامها وفق خطط مدروسة واستراتيجيات بعيدة الامد في بناء علاقاتها وسياستها الداخلية والخارجية لكان وضع هذه الاقطار في حال أفضل على الساحة الدولية ولحَمتْ شعبها من حملات الاستهداف والعدوان ، ولما تعرضت لموجات التدمير والخراب .

إن هذا العامل يعتبر من أهم العوامل التي يجب أن تشجع الدول العربية والمنظمات غير الحكومية خاصة الفكرية والثقافية منها إلى ابتكار وتحشيد واستخدام قواها الناعمة في مواجهة حملات التضليل والتشويه ، وإلى تقديم صورة حقيقية أمام العالم عن أوضاعها وما تواجهه من ظلم وتحديات .

إضافة لامتلاك مجتمعات هذه الدول إمكانات مادية وبشرية مهمة فإنها تمتلك الكثير من (القوى الناعمة) الفكرية والثقافية والإعلامية ، ومن القيم الروحية والاخلاقية والعلمية ، ومن مستوى الثقافة العليا في مجال السياسة والأدب والفنون، والثقافة الشعبية وتقاليد العمل والعادات الاجتماعية ومن الرصيد والموروث التاريخي المميز ، والتجربة الواسعة في بناء ورسم مبادئ العلاقات والسياسة الدولية، وفي القابلية على التواصل والتفاعل فيما بين الشعب العربي ذاته ، وبينه وبين الشعوب الاخرى…

من هنا تأتي أهمية استثمار هذه القوى في إعادة بناء علاقات المجتمع العربي مع العالم بوسائل علمية حديثة ومبتكرة يمتزج فيها التخطيط الواعي مع التنفيذ والاصرار على النجاح ، وذلك بتنظيم الملتقيات وما تتضمنه من فعاليات فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وإعلامية وأدبية وفنية وسياحية وتراثية، وعقد الحلقات النقاشية مع قادة المجتمع المدني ومنظماته لمناقشة قضايا ومواضيع ذات اهتمام مشترك، وإقامة المؤتمرات والندوات التخصصية والمهرجانات العربية والدولية في مجال الديمقراطية وحقوق الانسان وقضايا الشباب والمرأة والتربية والتنمية البشرية والعلوم والبيئة والصحة والخدمات وغيرها . وأهمية دعم وتشجيع وتسهيل وإسناد هذه الفعاليات من قبل كافة القوى والشخصيات في الدول العربية وتبنيّها من قبل منظمات التفكير العربية ، وتوفير ما يمكن من وسائل الدعم والإنجاز ، والتي ستكون مفتاحاً لتحقيق علاقات ناجحة ومتوازنة وتروج لأفكار وثقافات يتم التخطيط لها بعناية واختيار الخطاب الاعلامي المؤثر الموصل للحقيقة ، بدقة متناهية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى