دين ودنيا

مع المصطفى صلى الله عليه وسلم في محبته – 15 من 27 – مطالعة سيرته وتعظيم سنته

د. أكرم كساب

كاتب ومفكر إسلامي
عرض مقالات الكاتب

12- مطالعة سيرته:

ومن مظاهر محبته صلى الله عليه وسلم: مطالعة سيرته، إن أمة الإسلام الآن غدا بينها وبين سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مفاوز مترامية الأطراف، وما نتج ذلك إلا من هجران سيرته عند الكثير من أبناء هذه الأمة.

ولا تعجب اليوم حين تسأل الكثير عن مجموع ما لديه من السيرة النبوية فلا ترى عنده إلا النادر من المعلومات، والمضحك من الإجابات.

فبعضهم لا يعرف من السيرة إلا أنه صلى الله عليه وسلم ولد في مكة ومات بالمدينة.

وآخرون يدركون أن له تسع من النسوة!

ومن تعمق أخبرك أن من غزواته بدر وأحد والخندق.

وإن زاد أحدهم أخبرك بالحديبية وفتح مكة وحنين.

وقد حدثني أحد الإخوة الذين يقومون بمهنة التدريس؛ أنه كان يدرس لأحد الطلاب في المرحلة الإعدادية مادة (العلوم الشرعية) وكلما شرح له حديثا أخبره باسم الراوي، وإسلامه، وعلى يد من أسلم… إلى غير ذلك من المعلومات البسيطة، ويبدو أن الطالب أراد إعمال عقله فقال للمدرس: وعلى يد من الصحابة أسلم الرسول يا أستاذ!!

وأخبرني أحد الإخوة الذين يقومون بعمل المسابقات في إحدى الإذاعات بأنه سأل أحد المتصلين سؤالا: أين قبر الرسول؟ فقال المتسابق: في مكة. فقال له: فأين الكعبة؟! فقال: في المدينة.

وذكرني هذا بإبداع محمد حوطر حين قال:

سلو الشباب شباب العصر كم حفظوا

من سورة العصر أو من سورة القلم

والراشدون نسوا أسمائهم وهمو

كالشمس في الغيم أو كالبدر في الظلــــم

لكنهم حفظوا الأفلام ماجنة

معنى ولحنا وتمثيلا بلا ســــأم

ويشترون بمال الله أشرطة

ويحفظون صنوف اللحن والنغم

وفي المقاهي جموع لا تصدقها

وفي المساجد لا تلقى سوى الهــــــــــــرم

وفي الملاهي ودور اللهو مفسدة

يسعون شوقا لها كالشوق للحــــــــــــرم

ولو دعوتهم للكعبة اعتذروا

ويقبلون على هوليوود في نهــــــــــم

لقد كان سلفنا الصالح على النقيض من ذلك تماما، وهذا إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدها علينا ويقول هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها[1].

وهذا علي بن الحسن يقول: كنا نُعلَّم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما نُعلَّم السورة من القرآن، وهذا الزهري يقول: في علم المغازي علم الآخرة والدنيا[2].

والحق أن دراسة السيرة النبوية لا يستغني عنها واحد من الناس مهما كان سنه أو نوعه أو ثقافته أو بيئته؛ فالداعية يجد له في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أساليب الدعوة، ومراحلها المتسلسلة، ويتعرف على الوسائل المناسبة لكل مرحلة من مراحلها، فيستفيد منها في اتصاله بالناس ودعوتهم للإسلام، ويستشعر الجهد العظيم الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل إعلاء كلمة الله، وكيفية التصرف أمام العوائق والعقبات، والصعوبات وما هو الموقف الصحيح أمام الشدائد والفتن؟

ويجد المربي في سيرته صلى الله عليه وسلم دروسًا نبوية في التربية والتأثير على الناس بشكل عام, وعلى أصحابه الذين رباهم على يده وكلأهم بعنايته، فأخرج منهم جيلاً قرآنيًا فريدًا، وكوَّن منهم أمة هي خير أمة أخرجت للناس, تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، وأقام بهم دولة نشرت العدل في مشارق الأرض ومغاربها.

ويجد القائد المحارب في سيرته صلى الله عليه وسلم نظامًا محكمًا، ومنهجًا دقيقًا في فنون قيادة الجيوش والقبائل والشعوب والأمة، فيجد نماذج في التخطيط واضحة، ودقة في التنفيذ بينة, وحرصًا على تجسيد مبادئ العدل وإقامة قواعد الشورى بين الجند والأمراء والراعي والرعية، ويتعلم منها السياسي كيف كان صلى الله عليه وسلم يتعامل مع أشد خصومه السياسيين المنحرفين، كرئيس المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول الذي أظهر الإسلام وأبطن الكفر والبغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكيف كان يحوك المؤامرات، وينشر الإشاعات التي تسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لإضعافه وتنفير الناس منه، وكيف عامله  صلى الله عليه وسلم ، وصبر عليه وعلى حقده, حتى ظهرت حقيقته للناس فنبذوه جميعًا حتى أقرب الناس له وكرهوه والتفوا حول قيادة النبي صلى الله عليه وسلم.

ويجد العلماء فيها ما يعينهم على فهم كتاب الله تعالى؛ لأنها هي المفسرة للقرآن الكريم في الجانب العملي، ففيها أسباب النزول، وتفسير لكثير من الآيات فتعينهم على فهمها, والاستنباط منها, ومعايشة أحداثها، فيستخرجون أحكامها الشرعية، وأصول السياسة الشرعية، ويحصلون منها على المعارف الصحيحة في علوم الإسلام المختلفة، وبها يدركون الناسخ والمنسوخ وغيرها من العلوم، وبذلك يتذوقون روح الإسلام ومقاصده السامية، ويجد فيها الزهاد معاني الزهد وحقيقته ومقصده، ويستقي منها التجار مقاصد التجارة وأنظمتها وطرقها، ويتعلم منها المبتلون أسمى درجات الصبر والثبات، فتقوى عزائمهم على السير في طريق دعوة الإسلام وتعظم ثقتهم بالله عز وجل، ويوقنوا أن العاقبة للمتقين[3].

إن كل مسلم مطالب بأن يملأ الشوق قلبه، ولا يمكن أن يعتد بهذا الشوق إلا إذا تحول إلى شوق مقلق، أو حب دافع، فيحيل حياة الإنسان إلى حياة نبوية صادقة، فيكون مصحفا متحركا، أو قرآنا يمشي على الأرض، يقول ابن القيم: فإذا صدق في ذلك -أي العبد في حبه وشوقه- رزق محبة الرسول، واستولت روحانيته على قلبه؛ فجعله إمامه ومعلمه، وأستاذه وشيخه وقدوته، كما جعله الله نبيه ورسوله، وهاديا إليه، فيطالع سيرته ومبادئ أمره، وكيفية نزول الوحي عليه، ويعرف صفاته وأخلاقه وآدابه في حركاته وسكونه، ويقظته ومنامه، وعبادته ومعاشرته لأهله وأصحابه، حتى يصير كأنه معه من بعض أصحابه[4].

13- تعظيم سنته:

ومن مظاهر محبته صلى الله عليه وسلم: تعظيم سنته، فلن يبلغ العبد عالي المنازل ورفيع الدرجات ما لم يكن معظما لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، حريصا على العمل بها، وقد جاء في وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنهم كانوا: إِذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقَ جُلَسَاؤُهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ، وَإِذَا سَكَتَ تَكَلَّمُوا وَلَا يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ مَنْ تَكَلَّمَ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى يَفْرُغَ حَدِيثُهُمْ عِنْدَهُ حَدِيثُ أَوَّلِيَّتُهُمْ… [5].

ولما جاءت امرأة (جدّة) إلى الصديق رضى الله عنه تسأل عن ميراثها، فقال لها: مَا أَعْلَمُ لَكِ فِي كِتَابِ اللهِ شَيْئًا، وَلَا أَعْلَمُ لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَيْءٍ، حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ، فَسَأَلَ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: ” سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لَهَا السُّدُسَ “، فَقَالَ: مَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ؟ أَوْ مَنْ يَعْلَمُ مَعَكَ؟ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَنْفَذَهُ لَهَا[6].

ولما أشكل الأمر على عمر رضي الله عنه في إسقاط المرأة جنينها ميتا بسبب التعدي عليها، نَشَدَ النَّاسَ: مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي السِّقْطِ؟ فَقَالَ المُغِيرَةُ: أَنَا سَمِعْتُهُ «قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ، عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ» قَالَ: ائْتِ مَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ عَلَى هَذَا. فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا [7].

وعثمان رضي الله عنه حين تردد في احتداد المرأة في بيتها بعد وفاة زوجها، أخبرته الفريعة بنت مالك رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بعد وفاة زوجها أن تمكث في بيته حتى يبلغ الكتاب أجله، روى أبو داود وغيره عن زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ عَجْرَةَ، أَنَّ الْفُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ، وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَخْبَرَتْهَا، أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِي بَنِي خُدْرَةَ، فَإِنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِطَرَفِ الْقَدُومِ لَحِقَهُمْ فَقَتَلُوهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي، فَإِنِّي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ، وَلَا نَفَقَةٍ؟ قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» ، قَالَتْ: فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ، دَعَانِي، أَوْ أَمَرَ بِي، فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَالَ: «كَيْفَ قُلْتِ؟» ، فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ مِنْ شَأْنِ زَوْجِي، قَالَتْ: فَقَالَ: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» ، قَالَتْ: فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرْتُهُ فَاتَّبَعَهُ، وَقَضَى بِهِ[8].

ولما أراد رسول الله إرسال معاذ بن جبل إلى اليمن قال:”كَيْفَ تَصْنَعُ إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟ ” قَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ. قَالَ: ” فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ؟ ” قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: ” فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ” قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، لَا آلُو. قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرِي، ثُمَّ قَالَ: ” الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ الله[9]“.

ومن تعظيم السنة تعلمها والسؤال عنها، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه ليتعلموا، فلما نوهوا عن السؤال كانوا يبحثون عن سائل فطن يتعلمون من سؤاله، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ، فَيَسْأَلَهُ، وَنَحْنُ نَسْمَعُ [10]


[1]  البداية والنهاية/ ابن كثير (2/242).

[2] البداية والنهاية/ ابن كثير (3/256، 257).

[3]  للمزيد راجع: مدخل لدراسة السيرة/  يحيى اليحيى/ ص14، والسيرة النبوية/ علي محمد الصلابي (1/6).

[4] مدارج السالكين/ ابن القيم (3/ 268).

[5]  رواه الطبراني في الكبير (22/ 158).

[6]  رواه أحمد في المسند (17980) عن محمد بن مسلمة، وقال محققو المسند: الحديث صحيح بشواهده، وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الشيخين غير عثمان بن إسحاق بن خرشة.

[7]  رواه البخاري في الديات (6907).

[8]  رواه أبو داود في الطلاق (2300) وصححه الألباني في صحيح أبي داوود (1992).

[9] رواه أحمد (22100) وقال مخرّجوه: إسناده ضعيف، ورواه أبو داود في الأقضية (3593) والترمذي في الأحكام (1327) وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود (770) وقال ابن كثير: وهذا الحديث في المساند والسنن بإسناد جيد كما هو مقرر في موضعه. (تفسير ابن كثير 1/ 9) ، وقال ابن القيم:  فهذا حديث وإن كان عن غير مُسَمَّيْنَ، فهم أصحاب معاذ، فلا يضره ذلك، لأنه يدل على شهرة الحديث وأن الذي حدث به الحارث بن عمرو، جماعة من أصحاب معاذ، لا واحد منهم، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم لو سمي، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى؟! ولا يُعرف في أصحابه متهم ولا كذاب ولا مجروح، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم، ولا يشك أهل النقل في ذلك. (إعلام الموقعين/ 1/202).

[10]  رواه مسلم في الإيمان (12).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى