مقالات

الدين الإبراهيمي الجديد (3)

د. عطية عدلان

مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول
عرض مقالات الكاتب

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

جاءت رحلة الإسراء والمعراج خاتمة لمرحلة من مراحل الصراع، ومفتتحة لمرحلة جديدة جِدَّةٍ كاملة، كان القرآن قد فرغ تماما من المعركة مع الوثنية، وتم له تقويض النظرية الوثنية من جذورها، وخرت ديانة “عمرو بن لحي الخزاعيّ” بضربات القرآن خاوية على عروشها، ولم يتبق منها سوى أنقاضاً فارغة من محتواها المعنويّ، متمثلة في شخوص حجرية صماء منصوبة حول الكعبة، لم يكن بقاؤها إلا ريثما يعود رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطعنها يوم الفتح مردداً: (جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا).

   وفرغ القرآن لمرحلة جديدة من الصراع العقدي، مرحلة المواجهة مع أهل الكتاب بشقيهم: المغضوب عليهم والضالين، أولئك الذين بدلوا نعمة الله كفرا، وحرفوا كلمات الله بلا حياء ولا خجل، وزورا منهج الله بلا خوف ولا وجل، أولئك الذين سيصمدون للصراع – رغم تهافت نظريتهم – إلى زمان تقرع فيه الساعة هذه الدنيا بأشراطها الكبرى، فلم يكن كثيرا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحدث الله تجديداً لطاقته وتزويداً لهمته؛ بهذه الرحلة الخارقة التي أراه فيها من الآيات ما لم يره أحد من خلق الله.

   ولم تكن رحلة الإسراء والمعراج تهيئة لرسول الله وحسب، وإنّما كانت كذلك تهيئة للأوضاع والأجواء أيضاً؛ بما يتناسب مع افتتاح المرحلة الجديدة في الصراع الذي سيبقى ما بقي على وجه البسيطة أمّتان، فكان الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بمثابة بسط اليمين على ميراث إبراهيم عليه السلام وذريته من الفرعين: فرع إسحاق وفرع إسماعيل، وكانت صلاته بالأنبياء إماما في هذه البقعة المباركة بمثابة التصديق على الملكية والتوثيق لحالة انتقال التركة.

   وبدأ القرآن الكريم يوجه ضرباته القوية لبني إسرائيل في البقرة والأعراف وغيرهما، وللنصارى في آل عمران والمائدة وغيرهما، فكشف ما وقع في هاتين الديانتين – المنسوختين أصلا بالإسلام – من تحريف وتزييف، وتحويل وتبديل، وعَرَّى رجال الدين من الأحبار والرهبان الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، وشروا ما استحفظهم الله عليه بثمن بخس من لعاعة هذه الحياة الفانية الزائلة، وفي السياق قرر القرآن جملة من الأحكام الفاصلة الْمُحْكَمة، واستكملها بعد ذلك في التوبة وغيرها بأحكام غاية في الإبرام والإحكام؛ وقد اشتهرت هذه الأحكام واستقرت حتى صارت من المعلوم من الدين بالضرورة.

   فأهل الكتاب ليسوا من المسلمين ولا ينتسبون لأمة الإسلام بسبب ولو كان هذا السبب هو اتحادهم مع المسلمين في النسب، فالانتساب لإبراهيم إنّما يكون باتباع ملّته الحنيفية السمحة: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 68)، بل هم من جملة الكافرين الذين توعدهم الله بالعذاب والنكال إن لم يدخلوا في هذا الدين، وأمر بجهادهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون أو يدخلوا في الإسلام، ونهى عن مولاتهم واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، والآيات في المائدة والتوبة وغيرهما أكثر وأوفر من أن يتسع لها مقال كهذا.

   ولا ريب أنّ الدعوة إلى الدين الإبراهيمي بدعوى أنّه الدين المشترك دعوى باطلة بل هي من أبطل الباطل؛ لكونها مصادمة بصورة مباشرة لهذه المحكمات التي تقررت واستقرت بآيات واضحات لا التباس فيها ولا إبهام ي معانيها، ولم أجد فيما ساقه العلماء في هذا الصدد أجمل وأشمل من جواب شيخ الإسلام ابن تيمية على سؤال ورد إليه عن شبهة يثيرها البعض حول مباينة أهل الكتاب للمسلمين في الدين، فيقول رحمه الله: “فإنّه كما عُلم علما ضروريا متواترا أنه دعا المشركين إلى الإيمان؛ فقد عُلم بمثل ذلك أنه دعا أهل الكتاب إلى الإيمان به، وأنّه جاهد أهل الكتاب كما جاهد المشركين؛ فجاهد بني قينقاع وبني النضير وقريظة وأهل خيبر، وهؤلاء كلهم يهود، وسبى ذريتهم ونساءهم وغنم أموالهم، وأنه غزا النصارى عام تبوك بنفسه وبسراياه … وأنه ضرب الجزية على نصارى نجران، وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده: جاهدوا أهل الكتاب وقاتلوا من قاتلهم وضربوا الجزية على من أعطاها منهم عن يد وهم صاغرون.

   وهذا القرآن الذي يعرف كل أحد أنه الكتاب الذي جاء به: مملوءٌ بدعوة أهل الكتاب إلى اتباعه … قال تعالى: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم} … وفي القرآن من قوله: (يا أهل الكتاب) (يا بني إسرائيل) ما لا يحصى إلا بكلفة، وقال تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين} … ومثل هذا في القرآن كثير جدا، وقد قال تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض} وقال تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس}، واستفاض عنه صلى الله عليه وسلم: {فضلت على الأنبياء بخمس} ذكر فيها: {كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة} بل تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه بعث إلى الجن والإنس.

   فإذا علم بالاضطرار بالنقل المتواتر – الذي تواتر كما تواتر ظهور دعوته – أنه دعا أهل الكتاب إلى الإيمان به، وأنه حكم بكفر من لم يؤمن به منهم، وأنه أمر بقتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وأنه قاتلهم بنفسه وسراياه، وأنه ضرب الجزية عليهم وقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وغنم أموالهم، فحاصر بني قينقاع ثم أجلاهم إلى أذرعات، وحاصر بني النضير ثم أجلاهم إلى خيبر؛ وفي ذلك أنزل الله سورة الحشر، ثم حاصر بني قريظة لما نقضوا العهد وقتل رجالهم وسبى حريمهم وأخذ أموالهم وقد ذكره الله تعالى في سورة الأحزاب؛ وقاتل أهل خيبر حتى فتحها وقتل من قتل من رجالهم وسبى من سبى من حريمهم وقسم أرضهم بين المؤمنين وقد ذكرها الله تعالى في سورة الفتح؛ وضرب الجزية على النصارى وفيهم أنزل الله سورة آل عمران؛ وغزا النصارى عام تبوك وفيها أنزل الله سورة براءة، وفي عامة السور المدنية؛ مثل البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وغير ذلك من السور المدنية من دعوة أهل الكتاب وخطابهم ما لا تتسع هذه الفتوى لعشره، ثم خلفاؤه بعده أبو بكر وعمر ومن معهما من المهاجرين والأنصار الذي يعلم أنهم كانوا أتبع الناس له وأطوعهم لأمره وأحفظهم لعهده؛ وقد غزوا الروم كما غزوا فارس وقاتلوا أهل الكتاب كما قاتلوا المجوس فقاتلوا من قاتلهم وضربوا الجزية على من أداها منهم عن يد وهم صاغرون، ومن الأحاديث الصحيحة عنه قوله صلى الله عليه وسلم {والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي: إلا دخل النار}؛ قال سعيد بن جبير: تصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} ومعنى الحديث متواتر عنه معلوم بالاضطرار.

   فإذا كان الأمر كذلك: لزم بأنه رسول الله إلى كل الطوائف؛ فإنه يقرر بأنه رسول الله إلى أهل الكتاب وغيرهم؛ فإن رسول الله لا يكذب ولا يقاتل الناس على طاعته بغير أمر الله ولا يستحل دماءهم وأموالهم وديارهم بغير إذن الله، … فإذا علم أنه نبي كيف ما كان: لزم أن يكون ما أخبر به عن الله حقا وإذا كان رسول الله وجبت طاعته في كل ما يأمر به كما قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} وإذا أخبر أنه رسول الله إلى أهل الكتاب وأنه تجب عليهم طاعته: كان ذلك حقا؛ … فهذه الطريقة الواضحة البينة القاطعة: يبين بها لكل مسلم ويهودي ونصراني أن دين المسلمين هو الحق دون اليهود والنصارى؛ فإنها مبنية على مقدمتين، إحداهما: أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته وهدى أمته أبين وأوضح تعلم بكل طريق تعلم بها نبوة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وزيادة؛ فلا يمكن القول بأنهما نبيين دونه لأجل ذلك؛ وإن شاء الرجل استدل على ذلك بنفس الدعوة وما جاء به وإن شاء بالكتاب الذي بعث به وإن شاء بما عليه أمته وإن شاء بما بعث به من المعجزات فكل طريق من هذه الطرق إذا تبين بها نبوة موسى وعيسى: كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بها أبين وأكمل.   

   والمقدمة الثانية: أنه أخبر أن رسالته عامة إلى أهل الأرض من المشركين وأهل الكتاب وأنه لم يكن مرسلا إلى بعض الناس دون بعض وهذا أمر معلوم بالضرورة والنقل المتواتر والدلائل القطعية، فأما اليهود والنصارى فأصل دينهم حق كما قال تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} لكن كل من الدينين مبدل منسوخ … وهذا من الحكمة في إبقاء أهل الكتاب بالجزية؛ إذ عندهم من الشواهد والدلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعندهم من الشواهد على ما أخبر به من الإيمان بالله واليوم الآخر: ما يبين أن محمدا صلى الله عليه وسلم جاء بالدين الذي بعثت به الرسل قبله وأخبر من توحيد الله وصفاته بمثل ما أخبرت به الأنبياء قبله. قال تعالى: {قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله} وقوله: {قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} وقال تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك} . والنبي صلى الله عليه وسلم لم يشك ولم يسأل؛ ولكن هذا حكم معلق بشرط والمعلق بالشرط يعدم عند عدمه وفي ذلك سعة لمن شك أو أراد أن يحتج أو يزداد يقينا”([1]).  

   فهذه الترهات الفارغة ليست من الحق في شيء؛ (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) (آل عمران: 19)، الإسلام وحسب “وَهُوَ اتِّبَاعُ الرُّسُلِ فِيمَا بَعَثَهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي كُلِّ حِينٍ حَتَّى خُتِمُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ … فَمَنْ لَقِيَ اللَّهَ بعد بعثة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِينٍ عَلَى غَيْرِ شَرِيعَتِهِ فَلَيْسَ بِمُتَقَبَّلٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آلِ عِمْرَانَ: 85]، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُخْبِرًا بِانْحِصَارِ الدِّينِ الْمُتَقَبَّلِ عِنْدَهُ فِي الْإِسْلَامِ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ”([2]). وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين أنّه لا طريق لأحد من أهل الكتاب إلى الجنة إلا من خلاله؛ فلا ريب أنّ الإبراهيمية المزعومة ليست طريقا إلى الجنة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ”([3]). والحمد لله أولا وآخرا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى