سياسة

العنف السياسي يبرّر نفسه بنفسه

على الرغم من المحاولات المتكرّرة، طوال التاريخ البشري المكتوب، لفهم ظاهرة العنف، فإن “مشكلات العنف لا تزال شديدة الغموض”، كما قال الفرنسي جورج سوريل قبل حوالي قرن، وهو ما صادقت عليه حنة أرندت قبل أربعين عامًا، وهو الحال الذي ما زال قائمًا. والعنف السياسي واحد من أخطر تجليات العنف في المجتمعات البشرية، وهناك ضرورةٌ ملحّةٌ لإعادة التفكير فيه، والتي لا تنبع من درجته، بل من علاقته التي تزداد غموضًا مع السياسة، على حد تعبير الإيطالي جورجيو أغامبن. 

يحاول بول دوموشيل في كتابه “التضحية غير المجدية ـ بحث في العنف السياسي” الإجابة عن هذا السؤال، انطلاقًا من فرضية تقول إن المؤسسات السياسة الحديثة تنبثق عن تحول قواعد التضامن المتبادل التي تبني العلاقات بين الفاعلين، ما يعني أن التضامن لا يمكن فصله عن العداء. تاريخيًا، نجد أن قواعد التضامن المختلفة تتلاءم دائمًا مع أشكال العداء المختلفة. يشرح دوموشيل فرضيته بالقول إن العنف السياسي هو عنف يبرّر نفسه بنفسه، عنف يصبح شرعيًا لمجرد حدوثه. وإن عنفًا كهذا إنما هو يقسّم، لأنه يشير إلى “أعداء”، مقبول أن يكونوا ضحايا. لكنه عنفٌ يجمع أيضًا، إذ يجمع كل الذين يجدون أن ممارسة العنف ضد من يعتبرون “الأعداء” أمرًا شرعيًا، والذين هم متوافقون عليه. لذلك هناك وظيفة واضحة للعنف السياسي، فهي أسلوبٌ لتكوين الجماعات التي تقسم المجتمع إلى معسكرين، أولئك الذين هم “أصدقاء”، أي الشعب والمواطنين الصالحين، وأولئك الذين هم “أعداء”، أي الخونة أو الإرهابيين أو أفراد أقلية ما. ولكي ينجح العنف في إنجاز أهدافه، ويخلي مكانًا لمؤسسة مستقرّة في الدولة، ينبغي إبعاد “الأعداء” عن الجماعة، وطردهم إلى الخارج، حيث يبقون مهيئين بوصفهم “أعداء” أن يكونوا ضحايا من جديد. وينبغي لمناوءة “العدو” أن تولد تضامنًا، وتؤسّس علاقات تعاون ودعم بين “الأصدقاء”، لأن التضامن والعداء هما وجها الواقع نفسه، وكل منهما شرط للآخر. وضمن هذا الإطار النظري، يمكن قراءة الحالة السورية من العنف المنفلت للسلطة على مدار العقد المنصرم. 

يصبح “العنف السياسي” أقوى عندما تختلط النزاعات الشخصية مع الخصومة السياسية

للتخلّص من الأعداء، يجب معرفة هؤلاء الموجودين في المجتمع، وهم معادون له، وليسوا جزءًا منه. وحسب دوموشيل، مشكلة التعرف إلى أولئك الذين “يستبعدون أنفسهم بأنفسهم” قد وجدت حلها: إنهم الذين لا يشاركون في القيم ذاتها التي نتشارك فيها. وهذا ما تشهد عليه بعض العلامات الخارجية، والتي تم اختيارها تعسفًا، كدلالة على أمر المشاركة في القيمة المعنية أو عدم المشاركة فيها. تلك العلامات يمكن أن تكون، على سبيل المثال، الدين، أو اللغة، أو حتى طريقة اللباس. أفضل الأمثلة الحديثة على تلك الاتفاقات هي العلامات “السلبية”، مثل الحجاب الإسلامي أو البرقع. من المفترض أن تلك العلامات تشير إلى أن الأشخاص الذين يظهرونها ليسوا فقط لا يشاركون في القيم ذاتها التي نتشارك فيها، وإنما هم لا يستطيعون المشاركة فيها مستقبلًا. وهو إطارٌ نظريٌّ يمكن قراءة العنف ضد اللاجئين، أو الذين يأتون من أصول أجنبية في الدولة الأوروبية من خلاله.

يصبح “العنف السياسي” أقوى عندما تختلط النزاعات الشخصية مع الخصومة السياسية، حين يستغل الأفراد النزاعات السياسة من أجل مصالحهم الخاصة. إنهم يستخدمون محترفي العنف من أجل حل خلافاتهم الخاصة، فهم يشون بأعدائهم إلى العصابات المسلحة أو إلى العسكريين، ويتهمون منافسيهم بإخفاء السلاح أو بتقديم الطعام إلى المتمرّدين، وهذا ما جرى ويجري في كل حربٍ أهليةٍ أو صراع داخلي على السلطة. ويسعى هؤلاء إلى توسيع مغانمهم إلى أقصى حد، مستخدمين عنف الآخرين من أجل غاياتهم الخاصة، والذي يوجّهونه نحو أعدائهم. 

العنف السياسي يحشد ويجمع. ويؤسّس الجماعات. إنه يوحد ويقسم في آن

يشير دوموشيل إلى نتائج تحقيق كاليفاس عن الحروب الأهلية، والذي توصل إلى أن أكثر من نصف الوشايات شيطاني، وقسمًا كبيرًا من الوشايات السياسية المحضة، تحرّكها نزاعات بين الأشخاص، وليست أسبابًا أيديولوجية. وكما يحدث في الحروب الأهلية، فإن أفراد المجتمع في ألمانيا النازية استغلوا الخصومة السياسية من أجل منفعتهم الخاصة. وبعملهم هذا، زادوا من عنف تلك الخصومة. وتوضح وثائق الغستابو التي بقيت بعد الهزيمة أن اعتقال الغستابو كل الأشخاص لارتكابهم جرائم سياسية إنما حدث بسبب وشايات، وليس بسبب عمل تحرٍّ، أنجزه رجال الشرطة بأنفسهم.

وكما ذكر سابقًا، العنف السياسي يحشد ويجمع. ويؤسّس الجماعات. إنه يوحد ويقسم في آن. وهذا ما يؤسّس لعقلانية تعالج المشكلة، بحيث تقوم على وجود ضابط للعنف، ذلك الوجود الذي يعيد، المرّة بعد المرة، إبعاد الجماعات إلى خارج نطاق الدولة. هذا الاتجاه لا يكلل دائمًا بالنجاح الكامل، إذ تنزع الجماعات والنزاعات دائمًا إلى الظهور من جديد. 

ما زال الفكر السياسي في العالم يقوم على الثنائية الإلغائية، مستخدمًا العنف السياسي في استئصال الأعداء. وفي الحالة الاستبدادية، تكون الحالة الإلغائية باستخدام العنف العاري في إبادة “العدو”، وهذا لا يمكن أن يحصل من دون مشاركة جزء كبير من السكان في جرائم ضد الإنسانية. وهي الجرائم التي يستهدف فيها القتلة جماعات أخرى من البشر تشاركهم الوطن. بذلك، الجماعات المنظمة هي التي ترتكب الجرائم ضد الإنسانية بإبادة جماعات بشرية أخرى.

ما زال الفكر السياسي في العالم يقوم على الثنائية الإلغائية، مستخدماً العنف السياسي في استئصال الأعداء

يضيء سلافوي جيجيك في كتابه “العنف، تأملات في وجوهه الستة” جانبًا مهمًا للمسألة، معتبرًا أن المصدر العميق للبربرية هو الثقافة بالذات، هو تماهي المرء المباشر مع ثقافة خاصة تجعله متعصبًا لا يطيق الثقافات الأخرى. والتعارض الأساس هنا هو التعارض القائم بين الجماعة والفرد: الثقافة تحديدًا جماعية وخاصة وفئوية ضيقة وإقصائية، بالنسبة إلى الثقافات الأخرى، في حين أن الفرد هو الكوني الشامل، موقع الكونية الشاملة، بمقدار ما ينتشل نفسه ويرفعها ما فوق ثقافته الخاصة. تحاول الثقافة الخاصة اليائسة الدفاع عن هويتها، مضطرّة إلى لجم البعد الكوني الفاعل في سويداء قلبها، أي الهوّة المفتوحة ما بين ما هو خاص (هويتها) وما هو كوني عام يعمل على نسف استقرارها من الداخل. هذا هو السبب الكامن وراء إخفاق خطاب “اتركوا لنا ثقافتنا!” في كل ثقافة خاصة. الأفراد يعنون فعلًا .. فالكونية الفعلية ليست هي الشعور العميق لأن حضارات مختلفة تتقاسم، على الرغم من أوجه الاختلاف، القيم الأساسية ذاتها .. إلخ، الكونية الفعلية تبدو (تفعل نفسها) بوصفها ممارسة السلبية وممارسة عدم انسجامها مع ذاتها. واليوم أصبحت سياسة معاداة الهجرة تيارًا رئيسًا في كل الطيف السياسي الأوروبي. ثمّة روح جديدة للاعتزاز بالهوية الثقافية والتاريخية، حيت وجدت الأحزاب الرئيسية من المقبول التشديد على أن المهاجرين ضيوفٌ يتعين عليهم أن يتكيفوا هم أنفسهم مع القيم الثقافية التي يحدّدها المجتمع المُضيف: “إنها بلدنا، إما أن تحبه وإما ترحل عنه!”. أما التسامح الليبرالي مع الآخرين اليوم، واحترام الغيرية والانفتاح على الآخر، فيجري عرقلته بنوعٍ من الخوف الكابوسي من الإزعاجات والمضايقات المتكررة. باختصار، يبقى الآخر رائعًا فحسب، لكن شرط ألا يكون حضوره متطفلًا، وشرط ألا يكون الآخر آخر في الحقيقة. حسب تعبير جيجيك.

المصدر : العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى