بحوث ودراسات

الحماية القانونية للأوقاف الإسلامية بالقدس في القانون الدولي – 1 من 5

الدكتور السيد مصطفى أبو الخير

خبير أكاديمي في القانون الدولي
عرض مقالات الكاتب

مقدمة

     تتعرض فلسطين التاريخية من النهر إلي البحر وخاصة القدس الشريف، لمؤامرة خبيثة دبرت بالتعاون بين بني صهيون وعبدة الصليب، أي بين يهود ونصاري بالتواطؤ مع بعض حكام الدول العربية في المنطقة، وهذه الحملة الشرسة التي تتعرض لها فلسطين حاليا تعتبر حلقة من حلقات الحروب الصليبية علي الإسلام والمسلمين، وخاصة في الوطن العربي، وتعمل قوات الاحتلال الصهيونية علي محو كافة الآثار التاريخية والدينية التي تتعلق بالمسلمين، منذ أن دخلوا فلسطين، وتتركز أعمال المحو علي القدس الشريف، ولقد جابت قوات الاحتلال القدس الشريف كلها فوق الأرض وتحتها ولم تعثر علي أي أثر يؤكد مزاعهم الباطلة بالحق التاريخي لفلسطين وخاصة القدس، ولو أنهم وجدوا ذلك لقام المجتمع الدولي وصورته كافة وسائل الإعلام في العالم، لكنهم بعد هذه السنيين الطوال والأعمال التي لم تقف عند حد لم يجدوا شيئا.

     وتزخر القدس الشريف بالعديد من الآثار الإسلامية وأهمها المسجد الأقصي، وفيها بعض الآثار التي تخص النصاري ومنها كنيسة القيامة، ولمكانة القدس الشريف في قلوب المسلمين تسابقوا عليها ووقفوا أموالهم السائلة والمتجمدة حبا فيها وخدمة للإسلام والمسلمين، لذلك فهي زاخرة بكافة أنواع الأوقاف المعروفة في الفقه الإسلامي، ولم يكن القانون الدولي بعيدا عن ذلك، فقد فرض حمايته القانونية الدولية علي هذه الأوقاوف التي تعد من وجهة نظره آثار تاريخية وأماكن مقدسة، وذلك في العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية وفي فرعيه القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وهذا ما نعالجه بالدراسة في هذا المبحث المتكون من:

المطلب الأول: الأوقاف الإسلامية بالقدس.

المطلب الثاني: الوضع القانوني لمدينة القدس في القانون الدولي.

المطلب الثالث: الحماية القانونية للأماكن المقدسة والأعيان الدينية في القانون الدولي.

المطلب الرابع: آليات القانون الدولي لحماية أوقاف القدس.

خاتمة.

المطلب الأول

الأوقاف الإسلامية بالقدس

     تحتل القدس أو بيت المقدس كما كانت تسمى في العصور الإسلامية المختلفة، مكانة مرموقة في قلوب المسلمين، فقد ثبتت مكانتها في القرآن والسنة، وهي مكانة مرموقة في عقيدة المسلمين ووجدانهم، فهي أرض مباركة وبها أولي القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وقد تعمقت تلك المكانة بالفتح الإسلامي لها، ووقوع عدة معارك فاصلة في التاريخ الإسلامي على أرضها، إضافة إلى سكن بعض الصحابة والتابعين والفاتحين لبيت المقدس، أمثال عبادة بن الصامت، وأبو الريحانة شمعون الأنصاري، وذو الأصابع التميمي اليمني، ويعلى بن شداد بن أوس. وزادها أهمية أنه سالت على أرضها دماء الشهداء والأبرار، وبرز فيها العلماء والأدباء، وعلى أرضها قامت المؤسسات العلمية والثقافية. وقد أطلق علي القدس عدة أسماء هي([1]):

 أورسالم: اسم أطلقه عليها العرب الكنعانيون وهم أقدم ساكنيها،”أور” معناها مدينة، وسالم بمعنى السلام، وأور كلمة سومرية .

– أوشامام: اسم وجد في نقش مصري قديم يعود إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد .

– يرو شالايم ( أورشاليم): الاسم العبري الذي أطلقه اليهود على القدس وهو اسم دنيوي، أُطلق من قبل أحد الملوك اليبوسيين، فأخذه اليهود وحشروه في توراتهم المحرّفة. واسم أورشليم العبري لم يطلق على القدس إلا ما بين زمن داوود أول ملوك بني إسرائيل عام 950 ق.م إلى عام 721 ق.م عندما هدمت الدولة العبرية على يد سرجون الثاني .

– هيروسوليما: الاسم اليوناني والروماني للمدينة.

 – مدينة يبوس: اسم أطلقه أحد قادة بني إسرائيل واسمه (يشوع)، وذلك أثناء الغارة على أرض كنعان من قبل هؤلاء في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ويبوس اسم لزعيم القبيلة العربية الكنعانية التي استقرت في فلسطين منذ فجر التاريخ، وقد حارب اليبوسيين العرب يوشع وقومه وصمدت يبوس دخلها اليهود بعد مائتي عام من الحصار سنة (997 ق.م).

– مدينة” داوود”: اسم أطلقه داوُد عليه السلام على المدينة عندما جعلها مقراً لحكمه.

– إيليا كابيتولينا: اسم أطلقه عليها هدريان 1935 عندما أخمد ثورة اليهود.

– أما الاسم الإسلامي بيت المقدس فيعني المكان المطهر من الذنوب وهو مشتق من القُدُس ( بضم القاف والدال) وهي الطهارة والبركة، وبيت المقدس المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب ويقال المنزَّه عن الشرك (المرتفع)، ويذكر مجير الدين المقدسي المتوفى عام (927هـ) في كتاب الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل أن بيت المقدس يطلق على الصخرة والمسجد الأقصى بخاصة، بينما يطلق اسم القدس على المدينة كلها بعامة، وقد ظل العرب يطلقون عليها اسم إيليا حتى بعد الفتح الإسلامي، وقد وردت إشارة في أواخر سفر الملوك الأول وأوائل سفر الملوك الثاني إلى اسم إيليا وهو اسم أحد الملوك العبريين كما زُعِم في توراتهم المحرّفة.

الموقع: تقع القدس على خط طول (35ْ) وثلاث عشرة دقيقة شرقي غرينتش، وخط عرض (31ْ) وسبع وأربعين دقيقة شمالاً، على تلال يتراوح ارتفاعها عن سطح البحر ما بين (720-830) م2 وتبعد عن شاطئ البحر المتوسط (52كم) وعن البحر الميت (22كم) وعن البحر الأحمر (250كم)، وتبعد عن عمان بالطرق المعبدة (88كم2) وتحيط بها أودية ثلاثة إذ يفصل وادي (قدرون) بينها وبين جبل الزيتون ويسمى “بوادي سلوان” “ووادي ستي مريم” ووادي النار وعرضه (192م) أما الوادي الثاني فهو وادي الربابة ثم الثالث وهو الوادي الغربي فهو وادي تريبيون، أو (وادي صانعي الجبن)، أما جهتاها الشمالية والشمالية الغربية فمكشوفة ومنها دخل الفاتحون نبو خذنصر والاسكندر وبومبي ، ومنها كان دخول الفتح الإسلامي على يد الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وتقوم القدس على أربعة تلال هي موريا (الصخرة) وهي أعلى هذه التلال، وتلة (بزيتا) بين باب العمود وباب الساهرة ثم جبل صهيون وتلة (أكرا).

     ولكن ما المقصود بالقدس الشريف ؟. هل هي البلدة القديمة بمساحتها البالغة أقل من كيلومتر مربع واحد داخل الأسوار ؟، أم هي المدينة ذات الكيان المنفصل كما هي محددة في توصية التقسيم الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (181) بتاريخ 29/11/1947) البالغ مساحتها 175 كلم2 ؟، أم هي الشطر الشرقي من القدس بما فيه البلدة القديمة، بمساحته البالغة 6,5 كلم2 قبل احتلال إسرائيل له في أعقاب الحرب العدوانية التي شنتها ضد الأردن ومصر وسوريا في 5 حزيران 1967م ؟، أم هي القدس الموحدة بمساحتها الحالية البالغة 125 كلم2 ؟ أم هي القدس الكبرى المخطط لها أن تصل مساحتها ما بين 400 و600 كلم2 ؟ القدس المقصودة هنا هي القدس بشطريها الغربي والشرقي قبل احتلال شطرها الغربي عام 1948 وشطرها الشرقي عام 1967م([2]).

     والقدس تقع في منتصف فلسطين، فالصحراء في جنوبها والغور في شرقها والسهول الساحلية في غربها، وأهميتها تعود من الناحية العسكرية لمناعتها بسبب وقوعها على تلال مرتفعة وإحاطتها بالأسوار العالية، وتقع على طريق التجارة التي تربط البحر بالصحراء
([3]) وتعود أهمية القدس الدينية في الإسلام إلى كثرة الأماكن المقدسة بها وبيت المقدس أرض المحشر والمنشر، ويقصد بأرض المحشر والمنشر أي أنه بعد أن يخرج الناس من قبورهم يوم القيامة يساقون إلى بيت المقدس، لينتظروا الحساب والقضاء بينهم. فقد روى الإمام أحمد بن حنبل بسنده عن ميمونة بنت سعد مولاة النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: (يا نبي الله افتنا في بيت المقدس فقال أرض المحشر والمنشر).

 وتعود قدسية القدس إلى وجود المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة ويقعان في قلب البلدة القديمة، وعلى مساحة مستطيلة الشكل تقريباً. تبلغ أطوالها: من الجهة الغربية 490متراً، ومن الجهة الشرقية 174متراً، ومن الجهة الشمالية 321متراً: ومن الجهة الجنوبية 280 متراً. ويحيط بهذه الساحة المباركة سور يتخلله أربعة عشر باباً، أربعة منها أغلقت في العهد الأيوبي، وعشرة مفتوحة حتى الآن هي، أبواب: المغاربة، والسلسلة، والمتوضأ، والقطانيين، والحديد، والناظر، والغوانمة، والعتم، وحطة، والأسباط ، وفي ساحة المسجد أربعة مآذن هي: مئذنة باب السلسلة، ومئذنة باب المغاربة، ومئذنة باب الأسباط، ومئذنة باب الغوانمة، ويقع المسجد الأقصى في الركن الجنوبي من الساحة، وفي وسطها يقع مسجد قبة الصخرة المشرفة، وفي جزء من الجهة الغربية “السور الغربي” يقع حائط البراق الذي ربط النبي صلى الله عليه وسلم فيه دابته (البراق) ليلة أسريّ به إلى المسجد الأقصى([4]).

     ويعتبر المسجد الأقصي أول وأهم وقف إسلامي في مدينة القدس وقد تقدست المدينة لوجود المسجد الأقصي فيها ووجود قبة الصخرة، فضلا عن العديد من الأوقاف الإسلامية والمدارس الإسلامية التي كانت موجودة عبر عصور الإسلام، كما يوجد بها العديد من المساجد الأثرية وقبور بعض الأنبياء والصالحين، تكاد البلدة القديمة في مدينة القدس وأكنافها المعروفة أنْ تكون كلّها وقفيات بمقدّساتها وبجميع مبانيها وعقاراتها، ومشكلة هذه الوقفيات أن الوثائق الدالة عليها مبعثرة بين إدارات المحفوظات وإدارات الوثائق في العديد من الأقطار العربية والإسلامية، وتمتدّ أوقاف القدس في دائرةٍ متداخلة في الأقطار المصرية والسورية والأردنية والتركية وغيرهم.

 – معني الوقف: والوقف الذي هو حبس العين على حكم ملك الله –تعالى- والتصدق بالمنفعة حالاً أو مالاً، لا يجوز التصرف به، بالبيع والرهن، بالهبة أو التوريث، الوقف، ضربٌ من ضروب البر والإحسان التي حثَّ عليها القرآن الكريم وعمد على فعلها الرسول عليه الصلاة والسلام، ويكون الوقف خيرياًّ، عند تخصيص ريعه على جهة من جهات البر كالوقف على المساجد أو المدارس أو المستشفيات أو تلاوة القرآن الكريم، أو يكون ذُرّياً، عند استحقاق الريع للواقف نفسه ثم لغيره من الأفراد الذين يُعيّنهم سواء كانوا من أقاربه أو غير ذلك، أو يكون وقف أرصاد(نقود)، عند صرف شيء من الوقف من بيت المال على مصلحة أو على بعض مستحقّيه، والوقف في اللغة هو الحبس، وفي الشرع، حبس العين على ملك الواقف والتصدّق بالمنفعة، ويتم الوقف بألفاظٍ عدّة بلغت ستة وعشرين لفظاً، أبرزها أن يقول الواقف:وقفتُ أو حبستُ أو تصدقتُ أو سبلتُ أو أبّدتُ، أو أن يقول بشكلٍ غير مباشر عقاري للفقراء([5]).

     وتوزعت معظم الأوقاف في القدس بين الصخرة المشرفة والمسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي وبعدها مما يقع في دائرة القدس وأكنافها المدارس وبناءات ملكية وجوامع كثيرة كانت منتشرة بالقدس بوجه خاص، وكانت للمسلمين أوقاف معروفة وتزخر مدينة القدس بأرشيفٍ عثمانيٍ مهمٍ يتمثل في سجلات المحكمة الشرعية في القدس التي يعود أقدمها إلى العام 935هـ/1528م وفي مخلّفات الأوقاف الإسلامية من الوثائق والمخطوطات العربية والعثمانية والفرمانات والدفـاتر العثمانية الخـاصة بالأراضي والضرائب ودفاتر.


[1] – الأستاذة/  سميحة حسين عبدالمجيد، القدس .. المكان والإنسان والزمان، علي شبكة الأنترنت الرابط التالي:  http://www.adabihail.com/inf/articles-action-show-id-276.htm

[2] – راجع للمؤلف، القضية الفلسطينية والقانون الدولي، دار ايتراك، القاهرة، 2011م ص: 145.

[3] – الدكتور/ شفيق جاسر أحمد محمود تاريخ القدس والعلاقة بين المسلمين والمسيحيين فيها حتى الحروب الصليبية، مطابع الإيمان، عمان، ط2، 1989م.

[4] د. هشام فوزي عبدالعزيز، الأماكن الإسلامية المقدسة في بيت المقدس في الفكر والممارسة الإسرائيلية، علي الرابط التالي: http://www.adabihail.com/inf/articles-action-show-id-274.htm.

[5] الشيخ محمد أسعد الإمام، المنهل الصافي في الوقف وأحكامه،المطبعة الوطنية،القدس،1982م، ص:14.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى