بحوث ودراسات

السلطة الدينية (الثيوقراطية) – البابوية مثالاً (7 من 7)

محمد الحاج

باحث وأكاديمي سوري
عرض مقالات الكاتب

الحكم بالحق الإلهي

يقول فيشر: ” مجموعة الكنائس الرسولية المبعثرة في أنحاء العالم المسيحي الأول، هي التي أنبتت بذرة البابوية وثيوقراطيتها الشامخة “(1)

وبالعودة لاصطلاح الثيوقراطية، نجده يُسند للحاكم سلطة دينية مطلقة دون نص. وأن الصورة الثانية للثيوقراطية فيه أي نظرية الحق الإلهي –  والتي ذكرناها في القسم الأول – هي التي تنطبق على حكم البابوات. والتي تقول: أن الله يتدخل مباشرة لاختيار الحاكم.

بعد اعتراف الدولة بالمسيحية ديانة رسمية لها. وبعد نقل العاصمة إلى القسطنطينية. سعى أساقفة روما لتوسيع سلطانهم، بغية السيطرة على العالم المسيحي في قسمه الغربي. وقد أثمرت جهودهم بإقامة حكم شمولي باسم الحق الإلهي، امتد من القرن السادس حتى القرن السادس عشر. سيطروا به على كل مفاصل الحياة الأوربية الغربية. وقد أعانهم على ذلك غياب القياصرة عن روما، وسقوط الإمبراطورية الغربية بيد الجرمان، إضافة إلى التنظيم الكنسي الدقيق، الذي أنشؤوه على هيئة التنظيم الإمبراطوري كما أسلفنا، منذ تأسيسهم للكنيسة. هذا عدا عن قلة خبرة الجرمان الحكام الجدد لروما، في شؤون السياسة والحكم، التي اضطرتهم للاعتماد على رجال الكنيسة، الذين سيطروا بدورهم على الجرمان، وجعلوهم طوع إرادتهم، بسبب جهالتهم وبدائيتهم. كما سهل تلك السيطرة الشمولية، قدرة الكنيسة على امتلاك السلطة الدينية والسياسية في قبضتها. حيث سيطر البابوات من خلال القبض على السلطة الدينية، على مسائل الكنيسة ونظامها. ومن خلال القبض على السلطة السياسية، سعوا لإخضاع كل الهيئات الأوربية والحكومات وعامة الناس في العالم المسيحي، لسيادة كنيسة روما وأسقفها.

السلطة الدينية والبابا: يقول ول ديورانت في قصة الحضارة عن سلطة البابا: ” وكان له الحرية المطلقة في تفسير قانون الكنيسة، وإعادة النظر فيه، وتوسيعه، وإعفاء من يرى إعفاءه من قواعده. وكان هو المحكمة العليا، التي يُستأنف إليها أحكام محاكم الأسقفيات. وكان هو وحده الذي يستطيع أن يغفر بعض الذنوب الخطيرة، أو يصدر صكوك الغفران الكبرى، أو يسلك شخصا في زمرة القديسين، وكان على جميع القساوسة أن يقسموا يمين الطاعة له … وكان من حق البابا وحده، أن يدعو للانعقاد مجلسا عاما من الأساقفة، ولم يكن لما يصدرونه من الشرائع أية قوة، إلا إذا صدق عليه البابا بمرسوم من قبله. وأن يقبلوا رقابة مندوبي البابا في شؤونهم.  

[ وكانت أجزاء مملكته ترسل إليه الجزية]. وكان في وسعه أن يرقب بعينيه، ويحرك بيده كل أجزاء مملكته، عن طريق الأساقفة والقساوسة والرهبان، المنبثين في كل مكان، فقد كان هؤلاء يكوِّنون هيئة للمخابرات والإدارة لا نظير لها، في أي دولة من الدول “(2)

ولعظم تأثير البابا على النفوس، فقد ظلت سيطرته قائمة، حتى وإن لم يمتلك الجيوش ” ولئن أعوزته الجيوش، فلقد كان يملك مؤسسة فخمة للدعاية، لسانها قساوسته المنتشرين في كل أصقاع العالم اللاتيني، ولئن قلَّ نصيبه من السلطان على أجسام الرجال، فلقد ملكت يمينه فيما تتصور أخيلتهم مفاتح الجنات والجحيم، وكان له من ثم نفوذ كبير على نفوسهم. “(3)

ويروي أندرو ملر عن تعظيم أنوسنت الثالث لنفسه حتى يكاد يخرجها عن نطاقها البشري قوله: ” أنتم ترون أن خادما قد أقامه الله على شعبه. هذا الخادم، ما هو إلا وكيل المسيح على الأرض، وخليفة القديس بطرس، هو مسيح الرب الذي يتوسط بين الله والناس. هو أقل من الله وأكبر من الإنسان، هو تحت الله، ولكنه فوق الإنسان، هو يحكم على الكل، ولكنه لا يحكم فيه أحد. “(4)  

السلطة السياسية والبابا: يكتب المؤرخ أندرو ملر في مؤلفه مختصر تاريخ الكنيسة، عن غريغوري السابع، رافع بناء البابوية: ” … وجميع الأمراء مرغمون على تقبيل قدميه. وله الحق في أن يعزل الأباطرة، وأن يحرر الرعايا من واجب الخضوع لهم. وكذلك له الكلمة العليا في مسائل الحرب والسلم. وله وحده حق الفصل في المنازعات الخاصة بالعروش، ذلك لأن كل الممالك، إنما هي خاضعة لسلطان القديس بطرس [حيث البابا خليفة بطرس] … ولا يمكن لمجلس أن يكون له صفة رسمية بدون أمره … فالبابا فوق كل الأحكام، وباستحقاقات القديس بطرس صار مقدسا تقديسا تاما. إن الكنيسة لم تقم لتكون خادمة للأمراء، بل سيدة عليهم، وإذا كانت تسلمت من الله السلطان بأن تحل في السماء، فبالأولى جدا يكون لها نفس السلطان في الأمور الأرضية. “(5)

العلاقة بين السلطة السياسية والدينية في ظل البابوية: تميزت العصور الوسطى، بوجود قوتين مسيطرتين على الحياة الأوربية: قوة أو سلطة الكنيسة، التي تحكم الشؤون الروحية. وقوة او سلطة الدولة المعنية بالأمور المدنية والسياسية، وهو ما عرف بنظرية السيفين أو القوتين.   

لكن البابوية شرعت في انتهاك هذه النظرية، ” وبلغت الأمور قمة التحدي لما، أنكر البابا يونيفاس الثامن (1294 – 1303) حق الملوك في فرض ضريبة على الأكليروس، ووضع بيانات تطالب بالسلطة المطلقة للبابوية على كل الناس وفي جميع الشؤون، وأعاد تعريف مبدأ السيفين في مرسوم بابوي يسمى (يونام سانكت) السيفان الروحي والمادي كلاهما في سلطان الكنيسة … الأول يُستخدم بواسطتها، أي بواسطة الكاهن، والثاني بواسطة الملوك وقادة الجيش، ولكنه بمشيئة الكاهن وموافقته. إذن أحد السيفين يكون تحت الآخر، والسلطة الدنيوية تخضع للروحية … وعلى هذا فإن أخطأت السلطة الأرضية [أي الدنيوية] تحاكمها القوة، ولكن إن

أخطأت الروحية يدينها الله وحده لا الإنسان … [لكونها] سلطة إلهية. أكثر من ذلك، نحن نصرح ونقرر ونعلن … لابد وأن يخضع للبابا كل مخلوق بشري يريد الخلاص. “(6)

ويلخص أنوسنت تلك العلاقة  بين السلطتين كما يلي: ” وكما أن خالق كل الأشياء، وضع في السماء نورين، الأكبر لحكم النهار، والأصغر لحكم الليل، وهكذا أيضا وضع في جلد كنيسته قوتين عظيمتين، أكبرهما لحكم الأرواح، وأصغرهما لحكم الأجساد. هاتان القوتان، هما القوة البابوية والقوة الملكية … وتستعير القوة الملكية كل عظمتها وجلالها من القوة البابوية. “(7)

أصل مشروعية السلطة البابوية: تعود مشروعية سلطة البابوات، إلى التفويض الذي منحه المسيح لكبير الحواريين بطرس، والذي سماه البعض النظرية البطرسية. وقد ” تسلح بابوات روما بالنظرية البطرسية، أو نظرية التوارث الحَوارية، ومفادها أن الأسقف الذي يشغل كنيسة روما، يرث منصب بطرس الذي هو في نظر المسيحيين أول الحواريين. “(8)

صيغة التفويض: وضع أندرو ملر في كتابه مختصر تاريخ الكنيسة، عنوانا وسمه بالقانون الإلهي لسلطان الكنيسة، وذكر فيه صيغة ذلك التفويض، كما ورد في إنجيل متى 16/ 19: ” فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطا في السماوات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولا في السماوات.”(9) كما عاد ووضع عنوانا آخر سماه: بقاء قانون سياسة الكنيسة: يؤكد تحته ” إن هذا السلطان السياسي … لم يعط لبطرس ورفقائه من الرسل فقط، بل أُعطي للكنيسة أيضا ( الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطا في السماء، وكل ما تحلونه في الأرض يكون محلولا في السماء … لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم) متى 16/ 18.”(10)

آراء بعض المفكرين حول السلطة الدينية (الثيوقراطية): سنعرض لآراء مختلفة: انصرف بعضها لتفنيد استنتاجات، يحلو للبعض استخلاصها من ذلك التفويض دون وجه حق.

وأخرى تفرغت لنقد الاستبداد الذي مارسته السلطة الدينية، بتحالف النظام الكنسي مع النظام المدرسي والاقطاعي.

وثالثة شككت في أصل ذلك التفويض. ورابعة اعتبرته سوء فهم وافتراء على الله.

رأي ملر: مع أن ملر يحتفي بذلك التفويض، ويسلم بوروده في إنجيل متى. إلا أنه لا يذهب مع استنتاجات آخرين في أن الكنيسة تحل وتربط في السماء كما في الأرض. مثلما جاء على لسان غريغوري السابع:  ( وإذا كانت – أي الكنيسة – تسلمت السلطة من الله بأن تحل في السماء، فبالأولى جدا أن يكون لها نفس هذا السلطان في الأمور الأرضية ).  يقول ملر: ” الكنيسة هنا على الأرض لا شأن لها بما يجري في السماء من جهة الحل والربط، لأن دائرة نفوذها ضمن دائرة وجودها، ولكنها إذا أصدرت حكما تحت رياسة المسيح فلها وعد منه بالمصادقة على

الحكم في السماوات. “(11)

من جهة أخرى: لا يرى ملر أن صيغة التفويض، تسمح ل ” الكنيسة أو أي شخص … التداخل بين النفس وبين الله من جهة خلاصها أو هلاكها، ولا من جهة غفران خطاياها أو دينونتها. ومن قال غير ذلك فقد جدف على الله، لأنه ( من يقدر أن يغفر الخطايا إلا الله وحده) مرقص 2/7 هو وحده الذي له هذا السلطان دون سواه. ” (12)

رأي الدكتور عزت زكي: انصب رأي الكاتب المسيحي الدكتور عزت زكي، في كتابه المسيحية في عصر الإصلاح، على ثيوقراطية الكنيسة واستبدادها، وما أحدثته من خراب، بتحالف نظامها الكنسي مع النظام المدرسي والنظام الإقطاعي. حيث يقول: ” نستطيع أن نرى كم كان لذلك النظام من القسوة والسيطرة على مقدرات الشعوب ومصائرها. فالبابا يمسك بكل خيوط التأثير على مجريات السياسة في أوربا. وقد كان ممكنا أن يستغل ذلك النظام المتكامل لصالح تلك الدول، لانتشار المسيحية وتقدمها، لو أراد ذلك … [إلا] أن ذلك التأثير السياسي، كان موجها لتحقيق الخير لروما فقط. وأن فيض الأموال كان يتدفق على خزائن البابوات والكرادلة هناك … وكان لمثل هذا الوضع أثره في تعطيل نمو وتقدم واستغلال تلك الدول، ووضع العراقيل أمام شعوبها. “(13)  فالنظام الكنسي: قبض على السلطة الدينية والدنيوية. ففي مجال الدينية: كان رجاله ” في- حوزتهم مفاتيح السماء والأرض – فقد كانوا يقومون بمعمودية الأطفال … وكل الزيجات تتم على أيديهم … وكانوا هم يغمضون أعين الموتى. ولهم الحق في تقرير ما إذا كان المتوفى، يجوز أن يدفن في مقابر الكنيسة، أم أن جسده يدنس ترابها، لكونه منحرفا عن تعاليمها، ولذلك كلن يحرم من هذا الامتياز. أما تركة الموتى وتوزيعها، فقد كانت من حقهم، و[من] تحدثه نفسه بأن يثور على نظام الكنيسة، أو يقف في وجهها [يُسلَّم] للسلطة المدنية لإصدار الحكم عليه، ثم يكون نصيبه عامود الإحراق في الميادين العامة. ” (14)

أما في مجال السلطة المدنية: ” فما كانت تعمل إلا في خضوع لأوامرهم [رجال الدين] ومؤامراتهم. ومن هنا نلاحظ أية قوة كانت لهم على العقول والأذهان، كما على الحياة والمصير والمرقد الأخير. ” (15)

ثروات رجال الكنيسة: ” وكانت ثروات رجال الكنيسة والرهبان، وما يتدفق عليهم أكثر من ثروات ملوك وأمراء أوربا “(16) أما مصدرها: بالنسبة لرجال الكنيسة:  فهو”  العشور، أي عشر الدخل، والمحاصيل والثروة الحيوانية، وكل شيء باسم الجمع لمصاريف الكهنة، والكنائس وإصلاح الأديرة … زد على هذا ما كانوا يحصلون عليه لقاء كل ممارسة كنسية يقومون بها، من عماد، وزيجة، وصلوات على الموتى. “(17)  أما ثروات الرهبان: ” فقد كان نظام الرهبنة يقضي بألا تكون لهم رواتب ثابتة، ولذلك كان عليهم أن يكسبوا قوتهم  بالاستجداء

من البيوت، حتى أنهم لُقبوا بالأخوة الشحاذين. ولكن ذلك لم يمنع من أن يصبحوا أثرياء. فقد كانت تنهال عليهم النذور، والناس يعطونهم بسخاء لقاء صلواتهم وعظاتهم. “(18)   

الثقافة ورجال الدين: شكلت الثقافة عامل قوة لرجال الدين لاقتصارها عليهم، وعامل استغلال للمجتمع لإشغالهم للكثير من وظائف الدولة، في العصور الوسطى ” فقد كان أولئك هم الطبقة الوحيدة المثقفة في المجتمعات الأوربية، وعلاوة على مراكزهم الكنسية، كان منهم المحامون والدبلوماسيون والسفراء ورجال البلاط وحتى رؤساء وزارات. وكانوا متغلغلين في كافة مجريات السياسة، ومقاليد الأمور في معظم البلدان بين أيديهم. “(19)

النظام المدرسي: وُسم نظام التعليم – وكذلك العصر الذي وجد فيه – بالمدرسي، لكون مهمة التدريس فيه يقوم بها الرهبان ورجال الكنيسة، في مدارس الكنائس. أولئك الرجال ” الذين حاولوا أن يلبسوا أغراض الكنيسة لباسا فلسفيا. ويمتد هذا العصر المدرسي إلى قيام النهضة الأوربية في القرن الخامس عشر. ” (20) ونظرا للتأثير المتبادل بين الفلسفة واللاهوت الكنسي في ذلك العصر، وضع هيجل عبارته التي تقول: ” فليست الفلسفة في العصر المدرسي إلا لاهوتا، واللاهوت إلا فلسفة، والفيلسوف المدرسي هو من يبحث في اللاهوت بحثا علميا منظما. “(21) ”  وقد كانت مهمة الفلسفة خلالها [أي العصور الوسطى] أن تؤيد بالدليل العقلي ما سلَّمت به النفوس بالإيمان تسليما لا يقبل ريبة ولا شكا. وهكذا أصبحت الفلسفة تابعة للعقيدة، وأصبح العقل عونا لها.” (22)  ” وأصبح المثقفون ينظر إليهم كتابعين لرجال الكنيسة، يتمتعون بنفس رعاية البابا، ويعتبرهم أبناء ضمن دائرته الإمبراطورية … [لدرجة أنه] إذا أدين شخص بتهمة أو جريمة … واستطاع أن يثبت أنه يعرف القراءة والكتابة، فإنه عندئذ تكون له نفس مزايا رجال الكنيسة، وتحال أوراق قضيته إلى البلاط الكنسي، ليحاكم أمام زملائه من رجال البابا، وهذا معناه الإعفاء من سلطان القوانين الوضعية. هذا أعطى للمعرفة صبغة مدرسية إكليريكية، إذ ارتبطت المعرفة والثقافة بالقوانين المدرسية التي تبلورت في تلك العصور، التي كانت فيها المعرفة والثقافة، وقفا على رجال الأكليروس فحسب … [أي] إن المدرسين في العصور الوسطى، كانوا ينظرون إلى كل مفاهيم العلم والحياة والوجود، بمنظار الفكر الديني السائد آنذاك … وإن كافة صور المعرفة، قد أصبحت جزءا من اللاهوت … بدلا من إخضاعها لمنطق البحث العلمي المنزه، والاستنتاج المبني على المعرفة والاكتشاف والاختبار العلمي. وكل واحد تحدثه نفسه، بأن ينادي باكتشاف جديد، في أي ميدان من الميادين، كان عليه أن يثبت صحة اكتشافه أو اختراعه، بما يؤيد ذلك من الكتاب المقدس، وإلا حقت محاكمته، و حل عليه العقاب. “(23)

تجهيل العامة من الناس، كان من مثالب النظام المدرسي، سواء أدرك ذلك الفاعلون فيه أم لم يفعلوا ذلك. بسبب ” اتجاه النظام المدرسي إلى أن يجعل العلم والدين وقفا على طبقة رجال الدين، وبعيدا عن متناول جمهرة الشعب [واللغة اللاتينية لغة العلم والدين،  حيث كانت تلك اللغة] بالنسبة [للشعب] لغة بائدة. وفي الوقت عينه، اتجه ذلك النظام إلى جعل الثقافة، حتى

بالنسبة للعالم المثقف، في إطار النواميس المدرسية، ومقيدة بقيودها. “(24)

النظام الإقطاعي: كان النظام الإقطاعي، هو القوة الأمنية بيد البابا يستعملها ضد كل من يخاف تعاليم الكنيسة. ”  ولقد كان كل إقطاعي ملكا صغيرا في دائرته، له بلاطه، وحاشيته وجيشه وفرسانه، كما كان له الفلاحون والأتباع والعبيد. ” (25) وقد ارتسمت صورة التحالف بين النظامين الإقطاعي والكنسي اللاهوتي، بتقديم الثاني القوالب الفكرية التي تصوغ حياة الناس، ويجبرهم على اتباعها. والأول بتقديم التغطية الأمنية اللازمة، لتنفيذ أوامر الكنيسة. يقول سان سيمون عن تلك الصورة: ” النظام التي تدعونا المسيرة الحضارية إلى تقويضه، يتمثل في التداخل الموجود بين السلطة الروحية البابوية اللاهوتية، وبين السلطة الزمنية الإقطاعية. “(26)

يتطلع الدكتور عزت زكي، بعد ملاحظاته عن العصور الوسطى، وما حدث فيها من خلل كبير في مختلف نواحي الحياة الأوربية، إلى عصر ” لن تصبح فيه روما بعد سيدة المدائن، ولن تكون اللغة اللاتينية بعد، هي اللغة العلمية المقدسة، ولن تذوب الدول والأجناس والشعوب، في وحدة ثيوقراطية مستبدة. “(27)  فكان عصر الإصلاح، وكان من ثماره: ” تحطيم ذلك النظام الثيوقراطي المستبد، وتحرير كل أمة من نيره القاسي، وفتح الطريق أمام تلك الأمم إلى الظهور والتحرر. “(28)

رأي شارل جيني بير: يعلق شارل جيني بير أستاذ المسيحية ومقارنة الأديان في جامعة باريس، على سلطة الحواريين ومن ثم التلاميذ بعدهم، كما يأتي: القول: ” بأن المسيح صرح للحواريين الاثني عشر بسلطة ما، هو محل جدال حتى اليوم … فالأمر لم يتعد منحهم بعض ما أوتي هو من سلطان في التبشير بالتوبة، وبحلول مملكة الله، ولم يصنع منهم قساوسة، حيث لم يكن بحاجة إلى ذلك. “(29)  كما أن له رأيا مخالفا في أسبقية بطرس أيضا : ” أن أسبقية بطرس الحواري – التي يقال في إنجيل متى أن عيسى صرح بها – ، لم يكن لها حظ من الواقع ولم توجد قط، وأن الأتباع الذين تجمعوا حوله … لم يقدروه، ولم ينصتوا إليه إلا لاعتباره رجلا شُرِّف بثقة الأستاذ وبمودته. ” (30)
رأي الدكتور سفر عبد الرحمن الحوالي: وغير بعيد عن شكوك شارل جيني بير، في نص 16/ 18- 19 ( إنك أنت بطرس – أي الصخرة –  وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي … ) الوارد في إنجيل متى، يرى الدكتور حوالي: أن هناك حقيقة تاريخية متأصلة في الكنيسة، تتلخص في نقطتين هما: الافتراء على الله، وسوء الفهم والاستنباط، وخير ما تتجلى فيه تلك الحقيقة، في أنها فهمت من النص (16/18 -19) المذكور آنفا: ” أن المسيح يعني أن السلطة الدينية المهيمنة باسمه سترتكز في الموضع الذي يموت فيه كبير الحواريين بطرس، ومن هذا المركز تمد أجنحة نفوذها على العالم أجمع، وتحكمه باسم المسيح، وبما أن بطرس مات في روما، فإن

روما هي قاعدة المسيح لحكم العالم، وفيها مقر الكنيسة التي يرأسها ممثل المسيح ورسوله (البابا) المعصوم عن الخطأ، وكل ما تقره الكنيسة هذه عيين الصواب، إذ أن المسيح بواسطة روح القدس هو الذي يملي عليها تصرفاتها … وليس على الأتباع إلا الطاعة العمياء، والانقياد الذي لا يعرف جدلا أو نقاشا. “(31)   

الهوامش:

1 –  هـ .,أ. ل فيشر، تاريخ أوربا العصور الوسطى، ص106

2- ول ديورانت، قصة الحضارة الجزء 16، ص57

3 – هـ. ج. ويلز،  ترجمة عبد العزيز جاويد ، موجز تاريخ العالم، ص212 – 213

4 – أندرو ملر، مختصر تاريخ الكنيسة، ص308

5 – أندرو ملر، مصدر سابق، ص243

6 – جون لوريمير، تاريخ الكنيسة الجزء4، ص30

7 – ملر،ص308

8 – د. عبد القادر أحمد اليوسف، العصور الوسطى الأوربية، والنقل عن الدكتور أحمد عجيبة، البابوية وسيطرتها على الفكر الأوربي،ص13

9 –ملر، ص22

10 – ملر، ص23

11 – ملر، ص22

12 – ملر، ص22

13 – د. عزت زكي، تاريخ المسيحية، المسيحية في عصر الإصلاح، ص17

14 – عزت زكي، مصدر سابق، ص15

15 – زكي، ص15

 16 – زكي، ص16

17 – زكي، ص16

18 – زكي، ص116

19 – زكي، ص16

20 – زكي نجيب محمود وأحمد أمين، قصة الفلسفة الحديثة1936 وهذه النسخة عن مؤسسة هنداوي2020 ، ص10

-21 – زكي نجيب وأحمد أمين، ص14

22 –  زكي نجيب وأحمد أمين، ص9

23 – عزت زكي، ص18 -19

24 –  عزت زكي، ص19

25 – عزت زكي، ص22

26 – سان سيمون، والنقل عن محمد محمد امزيان، منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص36

27 –عزت زكي، ص21

28 – عزت زكي، ص17

29 – شارل جيني بير، المسيحية نشأتها وتطورها، ترجمة عبد الحليم محمود، ص130

30 – شارل جيني بير، ص131

31 – سفر عبد الرحمن الحوالي، العلمانية دار الهجرة، ص81 -82

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى