مقالات

الطّبقة.. وحركة التّصحيح

محمد بشير الخلف

كاتب وسياسي
عرض مقالات الكاتب

على نهد الفرات الأيمن ،وهو يشقّ زيق الأرض بغضب ، وعنفوان ،صافي الوجه، أخضر العينين ، إلى أن يمدّ يده لأخيه دجلة مخفِّفاً من اندفاعه ،وصخبه، وهما يُزفّان بألق لشطّ العرب، شقيقين توأمين، رغم كلّ سيوف السّياسة الّتي همّت بتقطيع أوصالهما.
ولدت مدينة “الطّبقة” (نسبة إلى الطّبقة العاملة بحسب القاموس اللّغويّ الإشتراكيّ) -يقابلها على النّهد الأيسر قلعة جعبر التّاريخيّة الّتي تعود شفرتها الوراثيّة إلى ما قبل الميلاد- بعد وضع حجر الأساس لبناء سدّ الفرات، عام ١٩٦٩ بخبرات روسيّة، بشكل طوليّ بثلاثة أحياء مرتّبة ترتيباً رقميّاً، الحيّ الأوّل ، وكان في معظمه للخبراء الرّوس. بناؤه طابقيّ، وقد جُهِزَّ بكلّ وسائل التّرفيه، والرّعاية الصّحيّة، والتّعليميّة ، والحيّ الثّاني، والثّالث وكانا لعوائل الفنّيين ، والعُمّال السّوريين ، وعلى بُعدِ كيلو متر واحد ، أُقيمَت مهاجع للعمّال العزّاب،
نَمَتْ قرية بالقرب منها ،وعظُمَت بعد أن غمرَتْ مياه البحيرة قرى كثيرة كانت تشاطئ النّهر من قرون.
مَن يقلّب سجلّات نفوس هذه المدينة، يلاحظ أن سوريا اختصرت، وتكثّفت في هذه المدينة بكلّ مناحيها؛ الأثنيّة، والدّينيّة، والطّائفيّة.
توزُّعُ السّكّان على أحياء هذه المدينة كان يخضع لعدّة اعتبارات على رأسها الطّائفيّة ، والمحسوبيّة، والحزبيّة؛ لأنّ الخدمات فيها متوفّرة بما لا يقاس مع القرية، قرب المكان لم يأتِ بتقريب الزّمان.
كان البعث عبر أبواقه الإعلاميّة يدّعي بأنّه سوف يخلق مجتمعاً جديداً، إلّا أنّه كان كاذباً ،و فارغاً من أيّ رؤية حقيقيّة، و إنّما هي شعارات تجاريّة فاقدة الصّلاحيّة،
وكانت أحداث أوائل ثمانينيّات القرن الماضي أوّل اختبار لهذا المسار، فسقط وتناثرت حلقاته تناثر مكوّنات السّوريين، وطفى على السّطح ما كان يُمارَس من تحت الطّاولة، وسرت في زوايا النّفوس بذور الشّكّ والتّوجّس والتّفكّك بين أبناء هذه المدينة، كبقيّة المدن السّوريّة.
موسكو الصغرى؛ كان يخطّط لأن تكون هذه المدينة _ نتيجة الاحتكاك، والتّفاعل بين السّوريين، والموظّفين، والعمّال _ السّوفييت في جميع جبهات العمل . إلاّ أنّهم فشلوا فشلاً ذريعاً، و لم يُحدِثوا فارقاً نوعيّاً قياساً على نشاط الشّيوعيين في المدن الأخرى.
خرجت عن اسمها هذه المدينة بعد ثمانينات القرن الماضي؛ فلم تعد “الطّبقة” (بمعنى مدينة الطّبقة العاملة) و إنّما أطلقت يد الفساد في مؤسّسات الدّولة ، وظهرت حيتان اغتنت من المال العامّ ، فكانت بمثابة بقرة حلوب رأسها في الطّبقة ، وضرعها يُحلَب في السّاحل أو غيره.
قد تكون البنيات الاجتماعيّة تقليديّة، وعمليّة التّغيير ،والعبور إلى المجتمع الجديد الّذي كانت تبشّر به الحركة التّصحيحيّة تحتاج إلى جهود كبيرة، غير أنّ قيام ثورة الحريّة والكرامة عَرَّت هذه الحركة من كلّ مقولاتها الفارغة، و السّطحيّة، وسلوكات اتّباعها الانتهازيّة، واللّصوصيّة. فما إن انفجرت المدينة ، وسارت على خطّ الثّورة، حتّى أخذت أغلب المكوّنات مغادرة المدينة، فتبخّرت تلك المقولات الّتي لم تكن إلاّ غطاء للاستبداد ،والفساد، والإفساد الممنهج، لقد قلنا ونقول لهم أخطأتم و دلستم في المداخل ،فما كان من المخرجات إلاّ أن تكون بنت تلك المدخلات الّتي جاءت بها الحركة التّفخيخيّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى