مقالات

هل يصح أن نقول: “إلا رسول الله” أم لا؟

أ.د. إبراهيم عوض

كاتب ومفكر مصري.
عرض مقالات الكاتب

أرسل لى أحد الأصدقاء السؤال التالى: ما قولك يا فلان فيما يؤكده بعض الناس من أن عبارة “إلا رسول الله”، التى رفعها المسلمون فى الآونة الأخيرة ردا على قلة أدب بعض الفرنسيين فى حق رسول الله بالرسم والكلام ليست جملة مفيدة إلا بتقدير شيءٍ قبلها، وغالبًا المقصود “استهزئوا بمَن شئتم إلا رسول الله”، ولا شك أنها بهذا التقدير لا تجوز لأن جميع الرسل لا يجوز لأحدٍ أن يسبهم أو يعيبهم أو يستهزئ بهم، وليس محمدًا صلى الله عليه وسلم فقط؟
وردى أن هذه أول مرة أسمع هذا الكلام وأرى مثل ذلك التوجيه لمثل تلك العبارة. وهذا مثلما يقول متنطع عن عبارة “تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها” إن الكلام هكذا خطأ، إذ معناه أنها يمكن أن تزنى مثلا وتسرق وتقتل ولا تجوع، ومثلما يقول هذا المتنطع إن قولنا: “لا إله إلا الله” خطأ لأن الآلهة كثيرة كاللات والعزى ومناة وبعل وزيوس والشمس والقمر والبقرة… إلى آخر الآلهة التى تعبدها الأمم الوثنية وأشباهها، ومثلما يقول هذا المتنطع ذاته عن امرأة حرة كريمة يحاول أحدهم أن يغتصبها فتترجاه وهى تبكى وتصرخ قائلة: “كله إلا الزنا”: إن كلامها هذا يعنى بكل بساطة أنها تقبل أن يلوط بها المغتصب لأنها لم تستنكر سوى الزنا، ومثلما يقول هذا المتنطع وهو يسير على قضبان السكة الحديدية ويبصر أحدهم القطار قادما بسرعة الصاروخ من خلف السائر على القضيب: “القطار القطار” فيفتح له تحقيقا لغويا قائلا: “ماذا تقصد بـ”القطار القطار”؟ هل تقصد أنك سوف تركب القطار”؟ أم هل تقصد أنى ينبغى أن أشترى القطار”؟ أم هل تقصد أنك “تحب القطار”؟ ويكون القطار قد مر وفرم هذا المتنطع وأراحنا من سماجته ولجاجته وثقل ظله وقبح منظره ونظراته الخبيثة وعقله التافه، ومثلما يقول نفس المتنطع إن قولنا: “محمد رسول الله” خطأ، فإن محمدا ليس رسول الله فقط بل هو مخلوق الله ومرزوق الله، وكان تاجرا وراعيا للغنم، وكان ينتمى إلى قريش… إلخ، بل يمكن أن يمضى هذا المتنطع فى تنطعه وبرودة طبعه قائلا: هذه جملة خاطئة من أساسها، فالمحمدون كثيرون بالملايين، فأى المحمدين تقصد؟ ويمكن هذا المتنطع أن يعترض على قول بعض الصحابة لرسول الله: “فداك أبى وأمى يا رسول الله” بأن هذا لا يكفى، بل ينبغى أن يقول: “فداك أبى وأمى وزوجتى وأبنائى وأصحابى وأصدقائى ومعارفى وجيرانى وبيتى ومالى وأنا أيضا وكل ما أعتز به والدنيا كلها”. ويمكنه كذلك الاعتراض على ما يفعله الطفل حين نسأله: “كم تحبنا؟” فيوسّع ما بين ذراعيه ويقول: “هكذا”، قائلا فى تنطع: وهل هذا حب؟ كان ينبغى أن يقول: أحبكم بقدر الدنيا كلها، والآخرة أيضا فوق البيعة. ويمكن هذا المتنطع أن يخطئ الآية الكريمة: “وما ينبغى للرحمن أن يتخذ ولدا” على أساس أنها لم تنف أنه سبحانه يمكن أن يتخذ أخا أو شريكا أو زميلا مثلا بل نفت اتخاذ الولد فقط. ويمكنه أن يخطئ أيضا الآية الكريمة: “وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه” على أساس أن الأنبياء لا يبعثون للأنبياء بل للكفرة والعصاة، والأنبياء ليسوا من هؤلاء ولا هؤلاء. ويمكنه كذلك أن يرفض الآية الكريمة التالية: “ومن كان فى هذه أعمى فهو فى الآخرة أعمى وأضل سبيلا” لأن الجنة لن يكون فيها عمى ولا صم ولا بكم ولا عرج. ويمكن أيضا هذا المتنطع أن يتهم القرآن بالتناقض لأنه يقول فى موضع: “لا يضل ربى ولا ينسى” وفى موضع آخر: “نسوا الله فنسيهم”. ويمكن أن يعترض على وصف الله فى القرآن مرارا بأنه غنى ما دام القرآن ذاته يقول فى آية أخرى: “وأقرِضوا الله قرضا حسنا”، وهو ما قاله اليهود المتنطعون نفس التنطع حين أعلنوا قائلين: “إن الله فقير ونحن أغنياء”.
وبالمثل يمكن هذا المتنطع أن يعترض على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: فضل العالِم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب بأن العالِم قد يكون ممن يهملون الصلاة والزكاة والصوم والحج، فكيف يكون أفضل ممن يصلى ويصوم ويزكى ويحج؟ وفات هذا المتنطع الذى لن يكسِّبه الله أبدا أن المقصود هو أن المسلم العالم الذى يؤدى العبادات أفضل من المسلم الذى يؤدى العبادات لكنه ليس عالما. وهذا من الوضوح بمكان. لكن ماذا تقول للمتنطعين؟ كما يمكنه إنكار قول النبى عليه السلام إن الدنيا لا تساوى عند الله جناح بعوضة على أساس أن الدنيا فيها الأنبياء والمرسلون والمساجد والمصاحف، فكيف لا تساوى جناح بعوضة؟ هل جناح البعوضة أفضل من الأنبياء والرسل والمساجد والمصاحف؟
إن كل ما يصدر عنا من كلام إنما يصدر فى سياق ولا يصدر فى المطلق: فنحن حين نقول: “إلا رسول الله” نقصد أننا إن قصرنا فى إيقاف فرنسا عند حدها فى كل الأمور الأخرى فلا يمكن أن نتساهل فى إساءتها إلى رسول الله. وفرنسا لم تقل أدبها إلا مع رسول الله، ولم ترسم بقصد الإزراء إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تتطرق إلى أى رسول آخر. فالكلام محصور فى هذا النطاق. وهذا هو المقصود بالسياق.
ثم إننا يمكننا أن نرد على المتنطع بقولنا: ومن قال لك يا متنطع إننا نقصد الرسول محمدا وحده؟ إن “الألف واللام” يا متنطع يا ذا العقل المتخلف ليست للعهد بل للجنس، أى أننا نرفض أن يمس أى إنسان أى رسول من الرسل لا الرسول محمدا فقط. سيقول المتنطع المتخلف: لكنكم إنما تقصدون الرسول محمدا لا غيره. ونرد عليه: وكيف عرفت يا متنطع أننا لا نقصد سوى محمد عليه السلام؟ سيقول المتنطع: عرفت ذلك من السياق. فيكون جوابنا: وهذا ما نريد من الصبح أن نقوله لك يا متنطع.
كذلك فإن جزءا ضخما من اللغة مجازات، ومن المجازات المبالغة. وهى ما يمكن أن نحمل عبارة “إلا رسول الله” عليها. والقصد أننا لا نهتم إلا بالدفاع عن رسول الله. وهذا مجاز بالمبالغة بقصد التعبير عن عظمة مكانته فى نفوسنا ليس إلا لا أننا لا نهتم فعلا بالدفاع عن أى رسول آخر ولا عن القرآن ولا عن الله سبحانه مثلا. وهذا التنطع هو ما يسول لبعض الناس أن يعترضوا على قولنا: “المرحوم فلان” مطالبين أن نقول: “المرحوم فلان إن شاء الله”، وإلا كنا نتألى على الله. والواقع أن التألى على الله لا يقوم إلا فى أذهان المتنطعين، فقولنا: “المرحوم فلان” ليس معناه أننا نعرف أنه مرحوم وأننا ضامنون لذلك بل معناه أننا ندعو له بالرحمة، وإلا فلا يصح أيضا أن نقول: “رحمه الله” أو “يرحمه الله” لأننا لا نعرف هل رحمه الله أو سيرحمه فعلا أو لا. لكن من آتاه الله عقلا سلسا كريما بريئا من التنطع سوف يفهم أن هذه التعبيرات كلها دعاء. فالدعاء قد يأتى بصيغة الفعل الماضى وبصيغة الفعل المضارع وبصيغة اسم المفعول مثلما يأتى بصيغة الأمر: “اللهم ارحم فلانا”.
بل إن المتنطع يمكن أن ينط لنا هنا قائلا: لا يصح أن تقولوا: “اللهم ارحم فلانا” لأن هذا فعل أمر، والله لا يؤمَر. وبهذه الطريقة يكون المتنطع قد جاء بدرفها الأرض وسد الأبواب كلها فى وجوهنا وأخذ يفرك يديه حبورا وشماتة فينا أن أوصلنا إلى اليأس المبين. وحينئذ تحين منا نظرة إلى وجهه وملامحه فنرى الشيطان هناك بكل قبحه وشره وخبثه والتوائه. اللهم اكفنا شر الشياطين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى