مع المصطفى صلى الله عليه وسلم في محبته – 6 من 27

موقع رسالة بوست ينفرد بنشر مؤلف د. أكرم كساب كل ثلاثاء وجمعة
وقد تحدث الله عن بعض صفات من يحبهم فقال:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة:54).
فوصف الحق سبحانه من يأت بهم بأوصاف:
- يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ.
- أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
- أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ.
- الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
- وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ.
يقول سيد قطب: فالحب والرضى المتبادل هو الصلة بينهم وبين ربهم.. الحب.. هذا الروح الساري اللطيف الرفاف المشرق الرائق البشوش.. هو الذي يربط القوم بربهم الودود.
وحب الله لعبد من عبيده، أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلا من يعرف الله سبحانه بصفاته كما وصف نفسه، وإلا من وجد إيقاع هذه الصفات في حسه ونفسه وشعوره وكينونته كلها… وحب العبد لربه نعمة لهذا العبد لا يدركها كذلك إلا من ذاقها.. وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا هائلا عظيما، وفضلا غامرا جزيلا، فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه وتعريفه هذا المذاق الجميل الفريد، الذي لا نظير له في مذاقات الحب كلها ولا شبيه.. هو إنعام هائل عظيم.. وفضل غامر جزيل[1].
للمحبة مراتب عدة، يتدرج فيها المحب مبتدأ بأولها وهو: العلاقة، منتهيا بآخرها وهو: الخُلة، ومن هذه المراتب ما يليق أن يكون لله ومنها ما لا يليق، وقد عدّها ابن القيم في كتابه (المدارج) ونوّه على ذلك فقال:
أولها: العَلاقة: وسميت علاقة لتعلق القلب.
الثانية: الإرادة: وهي ميل القلب إلى محبوبه وطلبه له.
الثالثة: الصبابة: وهي انصباب القلب إليه بحيث لا يملكه صاحبه.
الرابعة: الغرام: وهو الحب اللازم للقلب الذي لا يفارقه بل يلازمه، كملازمة الغريم لغريمه.
الخامسة: الوداد: وهو صفو المحبة وخالصها ولبها.
السادسة: الشغف: أي وصل حبه إلى شغاف قلبه.
السابعة: العشق: وهو الحب المفرط الذي يخاف على صاحبه منه وعليه.
الثامنة: التتيم: وهو التعبد والتذلل، يقال: تيمه الحب أي ذللـه، وعبده وتيم الله عبد الله.
التاسعة: التعبد: وهو فوق التتيم، فإن العبد هو الذي قد ملك المحبوب رقه فلم يبق له شيء من نفسه البتة، بل كله عبد لمحبوبه ظاهرا وباطنا.
العاشرة: الْخُلَّةُ: التي انفرد بها الخليلان إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، والخلة هي المحبة التي تخللت روح المحب وقلبه حتى لم يبق فيه موضع لغير المحبوب. كما قيل:
قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلا[2]
ويعلل ابن القيم سر أمر الله تعالى خليله إبراهيم بذبح ولده إسماعيل عليهما السلام فيقول: وهذا هو السر الذي لأجله – والله أعلم – أمر الخليل بذبح ولده، وثمــرة فؤاده، وفلذة كبده، لأنه لما سأل الولد فأعطيه، تعلقت به شعبة من قلبه، والخلـة منصب لا يقبل الشركة والقسمة، فغار الخليل على خليله أن يكون في قلبه موضع لغيره، فأمره بذبح الولد؛ ليخرج المزاحم من قلبه. فلما وطن نفسه على ذلــك، وعزم عليه عزما جازما حصل مقصود الأمر، فلم يبق في إزهاق نفس الولد مصلحة، فحال بينه وبينه وفداه بالذبح العظيم[3].
الفرق بين المحبة والخلة، أو بين الحبيب والخليل:
ونقل ابن فورك عن بعض المتكلمين كلاما في الفرق بين المحبة والخلة ملخصه:
1- الخليل يصل بالواسطة، من قوله:( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (الأنعام:75)، والحبيب يصل لحبيبه به، من قوله:(فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (لنجم:9).
2- والخليل الذي تكون مغفرته في حد الطمع، من قوله:(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (الشعراء:82)، والحبيب الذي مغفرته في حد اليقين، من قوله عز وجل:( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)(الفتح:2).
3- والخليل قال:( وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) (الشعراء:87)، والحبيب قيل له:(يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ) (التحريم:8)، فابتدأ بالبشارة قبل السؤال.
4- والخليل قال في المحنة حسبي الله، والحبيب قيل له { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} [الأنفال: 64].
5- والخليل قال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84]، والحبيب قيل له: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [الشرح: 4] أعطي بلا سؤال.
6- والخليل قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، والحبيب قيل له: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] [4].
والمقارنة جيدة؛ غير أن وصف إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالخُلة ومحمد صلى الله عليه وسلم بالحب تخصيص من غير مخصص، لأن كلا النبيين عليهما السلام خليل للرحمن سبحانه، وقد عدّ ابن القيم اختصاص إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالخلة دون محمد صلى الله عليه وسلم غلط ، فقال: ثم الخلة وهي تتضمن كمال المحبة ونهايتها، بحيث لا يبقى في القلب سعة لغير محبوبه، وهي منصب لا يقبل المشاركة بوجه ما، وهذا المنصب خاص للخليلين صلوات الله وسلامه عليهما: إبراهيم ومحمد، كما قال صلى الله عليه وسلم:” «إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا[5]“[6].
وللمحبة أسباب عدّة؛ جمعها القاضي عياض والنووي في ثلاثة:
- [7].
وقريبا من هذا عبّر الراغب فقال: والمحبة إرادة ما تراه خيرا أو تظنه خيرا. وهي على ثلاثة أوجه:
1- محبة للذة، كمحبة الرجل المرأة، ومنه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] .
2- محبة للنفع، كمحبة شيء ينتفع به، ومنه: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13] .
3- ومحبة للفضل، كمحبة أهل العلم بعضهم لبعض من أجل العلم[8].
أي الأسباب يُحَبُ من أجلها النبي صلى الله عليه وسلم؟
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل هذه الأسباب -بعضها أو كلها- موجود في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم؟!
ولا يستطيع منصف – أيما كان اعتقاده – إلا أن يقول بملىء فيه: نعم. إن هذه الأسباب كلها موجودة متوفرة فيه صلى الله عليه وسلم، يقول النووي: وهذه المعاني كلها موجودة في النبي صلى الله عليه وسلم، لما جمع من جمال الظاهر والباطن، وكمال خلال الجلال، وأنواع الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم، ودوام النعم، والإبعاد من الجحيم[9].
وأما جمال المنظر، فحدث ولا حرج، فما اكتحلت عين الدنيا بأجمل ولا أحسن ولا أملح ولا أحلى منه صلى الله عليه وسلم، كان وجهه مثل الشمس والقمر في الإشراق والصفاء والجمال والبهاء، فعن كعب بن مالك رضي الله عنه: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ [10].
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ إِضْحِيَانٍ (مقمرة)، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى القَمَرِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، فَإِذَا هُوَ عِنْدِي أَحْسَنُ مِنَ القَمَرِ [11].
وسُئِلَ البَرَاءُ أَكَانَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِثْلَ السَّيْفِ؟ قَالَ: لاَ بَلْ مِثْلَ القَمَرِ[12].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ[13].
ولله در القائل:
تالله ما حملت أنثى ولا وضعت
مثل النبي رسول الأمة الهادي
[1] في ظلال القرآن/ سيد قطب (2/ 918).
[2] مدارج السالكين/ ابن القيم (3/28- 31).
[3] المرجع السابق (3/31).
[4] عمدة القاري/ج 16/176.
[5] رواه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (532).
[6] الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي/ ابن القيم ص 190.
[7] شرح النووي على مسلم (2/ 14) والشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 30).
[8] المفردات في غريب القرآن/ الراغب/ ط دار المعرفة لبنان ص 105.
[9] شرح النووي على مسلم (2/ 14).
[10] رواه البخاري في المناقب (3556) ومسلم في التوبة (2769).
[11] رواه الترمذي في الأدب (2811) وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الأشعث، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي (532).
[12] رواه البخاري في المناقب (3552).
[13] رواه أحمد (8942) وقال محققو المسند: إسناده حسن.