مختارات

بلاغة ُالصمت

أحمد الهواس

رئيس التحرير

عرض مقالات الكاتب

كثيراً ما نـُرددُ المثلَ المشهور (إذا كان الحديث من فضة فالسكوتُ من ذهب ) فهل كل حديث فضة ..؟ وكل صمت ذهب..؟ أظن أن كل ما نردده متعلق بالإنسان نفسه من حيث التكوين النفسي و العلمي والذهني , وفي هذا يقول سيدنا علي رضي الله عنه الناسُ ثلاثة : عالمٌ رباني ، أو متعلمٌ على طريق النجاة ، أو ناطقٌ بلسان الرعاع ) .
ما لاشك فيه أن صمت الجاهل ستره, ومن ستر جهله بالصمت كان أبلغ ممن يدعي المعرفة ، حتى لا يكون حاله كحال (الخنفشار ) وقصة الخنفشار قصة ٌ طريفة ٌ أصبحتْ تناقلها الأجيالُ لحكمةٍ فيها وملخصُها :
يُحكى أنّ رجلاً كان لا يدعُ شاردةً ولا واردةً إلا و يُدلي بدلوه فيهـــــا،فاتفق أصحابه على فضحه أمام الناس وبيان جهله وكذبه وزيفه ، فشكلوا كلمة ً لا أساس لها من الصحة ولا وجود لها في واقع الحياة أسموها ( خنفشار ) وعندما أزف الوقت سألوه بغتة ً عن معنى هذه الكلمة فقال : الخنفشار نباتٌ طيبُ الرائحة ينبت في اليمن ، وهو نباتٌ له خاصية عقد الضرع لدى البهائم فإذا أكلت البهيمة منه انعقد ضرعها فلم يجر حليبها لأيام ولفق بيتًا من الشعر لشاعر لا وجود له :
لقد عقدتْ محبتكم فؤادي = كما عقدَ الحليبَ الخنفشارُ
وادعى حديثًا لرسول الله وعندها قاموا إليه وأشبعوه ضربًا .
ما لا شك فيه أن الخنفشاريين قد كثروا في هذا الزمن ، وأصبح قول ( لا أدري) عيبًا ! والخنفشاري ليس جاهلا ً بالضرورة بل هو (دعي معرفة ) يشعر بالتقزم إذا قال لا أعرف ، وتفرض عليه عقدُ النقص أن يتحدث بلسان العارف , ناسيا ً أنّ نصف العلم لا أعرف .
والصمت بلاغة العارف أيضًا إذا ما ابُتلي بمجلس يضم عددًا من الأدعياء ، وكلٌ يدعي بهذا العلم أو الصنف الأدبي عمقا ً وطولَ باع ٍ , ويُمسي بينهم العارف غريبا ً كغربة سيدنا صالح عليه السلام في ثمود , وهو يدرك أن أعلمهم فارغ ٌ أفرغ من فؤاد أم موسى .
وفن الإصغاء والتعلم من حديث العارفين علم ٌ ذو مذاق ٍخاص ، يدركه طلبة العلم ممن فهموا أن العلم في الصدور وليس في السطور.
إنّ صمت الشفاه عن الحديث يخفي حديثا ً أشدّ بلاغة ، هذا الحديث يكمن في عيني الصامت المدرك للأمور، ففي العيون لغة ٌ يعجز العلم أن يحيط بكنهها تدع الآخرين في حيرة من تفسير حركتها أو ارتفاعها أو انخفاضها..!
والكلام يكشف صاحبه ويعريه أمام المستمعين له ، فإمّا أن ترمقه العيون بنظرة إعجابٍ أو تستصغره وتستخف به .
والكلام يأخذ منحيين إما لفظ ٌ مسموع أو مكتوب تقرأه الأعين , والثاني أخطر من الأول إن توافرت الوسيلة وانتشر بين أيدي الناس واتضح الجهل والادعاء فيكون من (نشرك أدينك وليس من فمك ) . ويبدو أن كثيرًا من الكتبة ممن وجدوا وسيلة نشرٍ أوممن اُبتليت بهم ( صاحبة الجلالة ) يعتمدون على المصحح اللغوي في تلافي عيوبهم في اللغة والنحو، متناسين أنّ الفكرة ومن ثم الأسلوب وما يختارُ الكاتب من مفردات وتراكيب هي أسس العمل الإبداعي ، وتأني الأدباء في نشر نتاجهم لأنهم يرون في كل عمل وليدا ً لهم ، يحمل شيئا ً من سماتهم ، ولأن الابن أغلى من الروح فهم يحرصون أن يكون في أحسن صورة .
والتصويب اللغوي لا يغير من الأمر شيئًا ، وأذكر أني مرة صارحتُ به أحد أنصاف الكتـّاب ( نحن يا أخي نصحح أغلاطك اللغوية , ولكننا لا نغير من عملك أو مقالتك وحبذا لو تتأنى في النشر وتعيد قراءة ما تكتب ، وتعرضه على ذوي الخبرة) فماذا كانت النتيجة ؟ لقد تحول شاعرًا ونشر مجموعة شعرية مما يسمى بقصيدة النثر أو كما أسميها شعر البداغة !
وعندما سألني أحدُ الأدباء عن موجة المبدعين الجدد من كتـّاب وشعراء ونقّاد ارتجلتُ له بيتا ًمن الشعر :
الصمتُ أبلغُ ما يكونُ من الفتى = إنْ كان في هذا الحديث بلاءُ
ومادمنا في حديث الصمت البلاغي فإن هذا يقودنا إلى حديثٍ آخر فالكلام كما يقول ابن رشيق ( يفتح بعضه بعضًا) والصمتُ الايجابي محمودٌ ولكنّ السلبي مذموم ، فالساكتُ عن الحق شيطانٌ أخرس ، وقد يصمتُ الإنسانُ دفعا ً للأذى متخذًا أضعف الإيمان سلاحًا ووقاية ً , ويحار بين ما يرى وبين ما يسمع ، ويثقله الهمُّ الأكبر عن الهمٍّ الأصغر، وكيف له أن يـٌعري صمت الواقع المأزوم ، أو الصمت الدولي والرسمي عما يُرتكب بحق أبناء جلدته ، وهو يسمع حديث الموت تصنعه آلة الحرب الأمريكية منطلقة ً من مياه العرب وأراضيهم ، لتترك الصمت يخيم على بقاع كانت تضج بالنشاط والحركة ،فهل سيجد للصامت الذي يمد لها يد العون لتغتال الكلام ، وتستبدله بصمت القبور مبررًا ؟! ويبدو أنّ الكثير من الأنظمة العربية أحبت الذهب وفضلته على الفضة بصمتها المطبق عما يحدث في بلاد العرب والمسلمين, فتضاعف ذهبها المكنوز إضافة لصمتها الذهبي ، ولكن حديثها الخفي مع أسيادها سوف تفرج عنه ذات يوم الدول الكبرى والصدمة فيما قالوا وعندها نتمنى لو أنهم صمتوا لكان خيرا ً لهم .

نشر هذا المقال في الجيل المصرية والفرات السورية ، ورابطة أدباء الشام عام 2006

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. وكأنك تقرأ مايجري الآن فخنفشار زاد أتباعه حتى تصدروا المشهد بكل أوجهه وبإختصاصات (( خنفشار إعلامي وصحفي وخنفشار سياسي وخنفشار إقتصادي وخنفشار يتكلم بالدين)).
    بورك قلمك دكتور أحمد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى