مقالات

محمد حبلص… الداعية الصادق والرجل الخلوق في ذمة الله

ياسر سعد الدين

كاتب سوري
عرض مقالات الكاتب

انتقل إلى رحمة الله وعفوه ومغفرته (إن شاء الله) الأخ الداعية محمد حبلص، وعلى الرغم أنني لم التق الرجل في حياتي سوى مرتين فقد هزني رحيله فأبكاني كما لم افعل في عمري على غير رحيل والدي يرحمه الله. كانت حياته كلها لله، دعوة في قول بليغ صادق وسلوك في خلق رفيع سامق.

جاء مونتريال طالبا للعلم والمعرفة في منتصف سبيعنات القرن الماضي فأنهي فيها دراسة الهندسة الكهربائية من جامعة كونكورديا. كان لمثل هذا الشاب المهندس أن يقبل على الدنيا كما يفعل الكثيرون إن كان بحلالها أو حرامها، بزينتها وزخرفها، ومتعها ومتاعها، غير أن الرجل قضى جل حياته إلى يوم رحيله داعيا إلى الله مع جماعة الدعوة والتبليغ، مسافرا واعظا وذاكرا لله ومذكرا به.

شخصيا لا اتأثر كثيرا بخطاب أهل الدعوة والتبليغ، ربما لقسوة في قلبي لا أنكرها (واسأل الله أن يعافينا منها) ولإني أجد أحاديثم مكررة وبطريقة قولبية، ولكن حديث الراحل في مسجد المركز الإسلامي أثر بي كثيرا واخترق قسوة قلبي وهز مشاعري، ثم ما لبث الرجل أن زارني في بيتي كما يفعل جماعة والتبيلغ.

كان حديثه شيقا ومؤثرا وقص علي قصة لا أزال أذكرها بعد أكثر من ربع قرن. شاب سعودي في الجامعة غير ملتزم ولا يصلي، جاءه محمد رحمه الله واعظا فنهره السعودي وقال له أنا هربت من مكة لإستمتع بحياتي وأنت تلاحقني بما هربت منه إليك عني، فقال له الراحل تعال للمسجد قبل أن يحملوك إليه. بعدها بأيام أتصل المركز الإسلامي بمحمد يرحمه الله ليطلبوا منه المجيء ليكفن ويصلي على ميت غريب لا أهل له في البلاد ولا أصحاب. فلما جاء محمد وكشف الغطاء عن وجه الميت المسجى في التابوت فإذا به هو هو السعودي والذي وعظه محمد فأبى وذكرّه فأعرض، فأجهش محمد بالبكاء حزنا على الرجل وتأثرا بالموقف.

عمل في سنواته الأخيرة في قطر في شركة جنرال إليكتريك ويبدو أنهم كانوا يعتمدون على مهاراته الهندسية فلم يستطع الحصول على إجازة من العمل طوال العام الحالي. ولكنه أصر عليهم، يريد أن يسافر إلى طرابلس مدينته الأثيرة ليبر أمه في لبنان ويصل رحمها، يرحمه الله. وصل لبنان على ما يبدو من أكثر من شهر بأيام قليلة وأخبره شقيقته أنه يريد أن يلقى الله سبحانه وتعالى، فأستغربت وأستفهمت فقال لها أن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي عن 63 عاما بعد عمر قضاه بالدعوة وانا بلغت من العمر 63 عاما قضيتها بالدعوة إلى الله وأريد أن أرحل إلى الله وألقاه.
أصابته الكورونا ودخل المستشفى وقضى أسابيع في غرفة العناية المركزة وكانت حالته الصحية تتأرجح بين التحسن والإنتكاس إلى أن قضى الله أمره ,اجرى قدره وازفت ساعة الرحيل، الساعة التي قضى محمد حياته وليله ونهاره في الإستعداد لها.

تبكيك با محمد مساجد مونتريال وبيوتها ومراكزها الدعوية والتي عرفتك داعيا رقيقا مؤثرا تدعو إلى الله على بصيرة وبصدق وإخلاص وصفاء. بل وتبكيك مساجد في أرجاء المعمور عرفتك في جنباتها خطيبا وداعيا تعيش حياة الشظف والزهد وقد تركت خلف ظهرك متعا وأسباب الراحة والرخاء والاسترخاء.

قضى حياته متنقلا في جنبات الأرض مسافرا وأستوطن الخليج مهندسا وخبيرا، ولكن الله أكرمه بالرحيل في طرابلس المدينة الوادعة التي يعشقها والتي قضى طفولته فيها، ليهجرها شابا يافعا لا إعراضا عنها ولا زهدا بها بل طلبا للعلم والرزق الطيب وهجرة إلى الله داعيا إليه ومذكرا به وواعظا بسلوكه قبل خطابه. كانت أخر رحلاته وسفراته في هذه الدنيا ليبر أمه ويصل رحمه، فيا لها من خاتمة طيبة ونهاية عطرة بإذن الله.

رحل الرجل ولم يتورط أو يتلوث بمعاملات ربوية ولا خصومات بشرية ولا خلافات مادية، رحل الرجل ليكون موته عظة لنا كما كانت حياته دعوة وعبر وعظات. سنموت يوما وقد يكون قريبا، فهل جهزنا لتلك الساعة؟ أم ترانا في غفلة عن هذا حتى يأتينا ملك الموت فنقول –والعياذ بالله- رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت؟؟!!

اللهم إن نشهد لمحمد حبلص (وما شهدنا إلا بما علمنا) بالصلاح والصفاء والصدق والإخلاص والنقاء، اللهم فتقبله في عليين ووسع مدخله وأجعل قبره روضة من رياض الجنه وإجمعنا به في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى