ثقافة وأدب

قصة واقعية – “قيلولة المدام”

عبود العثمان

شاعر وكاتب سوري
عرض مقالات الكاتب

حدثتني والدتي رحمها الله ذات يوم، عن زمن “الفرنساوي”-وتقصد زمن احتلال فرنسا لسوريا تحت مسمى الإنتداب في القرن الماضي. قالت رحمها الله:
كان “الفرنساوي” بلا قلب وبلا رحمة ،وسأحكي لك هذه الحكاية:
كانت دارنا في ثلاثينات القرن الماضي تعتبر من الدور الحديثة، مقسومة قسمين، دار واسعة وأخرى صغيرة، وتقع في منطقة خارج “الدير العتيق” في حي “أبو عابد”،وجميع الأبنية فيها كانت حديثة-شارع مديرية التربية حالياً- مما استهوت هذه الدورعدد من الضباط الفرنسيين للسكن فيها مع عوائلهم بإكراه المالكين على التأجير مقابل آجار زهيد .
وقد أُجبرنا حينها على السكن في البيت الصغير، ليسكن البيت الكبير أحد الضباط الفرنسيين مع زوجته الفرنسية، ولم يفصل بيننا وبينهم سوى جدار عالي.
وفي أحد الأيام أُصيبتْ عين أخوك إصابة بالغة، من عود شجرة كان يحمله ابن الجيران، وهم يلعبون ،وكانوا أطفالاً،وبدأ الدم ينزف من العين، واجتمع الجيران على صوتي وانا أصيح طالبة النجدة، والولد يصرخ من شدة الألم، وجاء والدك -رحمه الله- مسرعاً تاركاً عمله، وحدثت جلبة حينها، وكان الوقت عصراً،وما هي سوى دقيقة او دقيقتين حتى أطلت الفرنسية “المدام” من على السطح لتشير علينا بال”هس هس” وكلمات ترجمها أحد الحاضرين بأنها تأمرنا بالسكوت لأنها تريد ان تنام، ولا تريد لأحد أن ينغّص عليها “قيلولتها”!
فما كان من والدك إلاّ ان صرخ في وجهها مشيراً إلى الطفل وما أصابه، فبدات هي بالشتائم والوعيد، وبأننا على موعد مع العقاب سياتي فور حضور زوجها.
تابعت والدتي رحمها الله بالقول:
ذهبنا بأخيك إلى المستشفى حيث قاموا بتضميد عينه، مع قليل من الدواء-لم يتعافى من الإصابة إلاّ بعد إجراء عملية بعدان كبر ودخل كلية الطب – تقول والدتي:
وبعد ان عدنا من المشفى إلى البيت، إذ بدورية فرنسية تقف على الباب بانتظارنا، حينها أشار الجيران على والدك ان يتوارى ويلجأ إلى أحد البيوت حتى لا يقع بأيدي الجنود، حيث تبين ان “المدام” قد أخبرت زوجها بما حدث، فارسل دورية لإلقاء القبض على والدك بسبب علو صوته وعدم احترام زوجة الضابط- بقي والدك متواري عن الأنظار لفترة من الزمن، إلى ان تدخل أحد أعيان مدينة دير الزور، ورجا الضابط كي يكف عن ملاحقته- أمّا أنا فقد أمرتني الدورية أن أذهب إلى بيت عمّٰك واترك الدار، إلى ان يكف أخوك عن البكاء ويهدأ، وتهدأ “المدام” ويذهب عنها الغضب، وتنعم بالهدوء ولا يعكر صفو “قيلولتها” أحد!

تنهدت والدتي بحزن والم وهي تعود بالذاكرة إلي “أيام الفرنساوي” وما كانت عليه الحياة في ذلك الزمان، وكيف كان الفرنسيون يذلّون ابناء البلد ويسومونهم الوان العذاب،ثم ختمت بالقول:
رحم الله عمّك فقد قُتِل إثر إصابته بشظايا قذيفة مدفعية سقطت عليه وهو في شغله وأمام حانوته، كان ذلك اليوم المشؤوم هو يوم”الدان” -هذا ما اصطلح عليه “الديريين”اي اليوم الذي تعرضت له المدينة للقصف المدفعي من “الكبوشية”.
وهي كنيسة مسيحية وفيها مدرسة، وقد اراد الفرنسيون أن يزرعوا الفتنة حينها بين المسلمين والمسيحيين جرّاء نصب المدفعية في أرض “الكبوشية” لتطلق قذائفها على أحياء المدينة، لكنهم لم يفلحوا في مسعاهم الخبيث-
انتهت والدتي من قصتها،
وهي تقول:
لقد اراد الفرنسيون ان يوقعوا بين مسلمي المدينة
ويألّبوهم ويحرّضوهم على المسيحيين -وهم قلة قليلة- لكنهم لم يفلحوا، وبقينا في المدينة متعايشين متجاورين ولم يتعرض أي مسيحي لأي اذى بعد مغادرة المحتل “الفرنساوي اللعين”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى