بحوث ودراسات

السلطة الدينية (الثيوقراطية) – البابوية مثالاً (5)

محمد الحاج

باحث وأكاديمي سوري
عرض مقالات الكاتب

ركائز البابوية: تقوم البابوية على عدة ركائز، هي: التنظيم الكنسي. اللاهوت والكهنوت. والسلطة الدينية. وسنقوم بالتعرف على كل ركيزة من تلك الركائز.

التنظيم الكنسي: لما كان التنظيم أساسا لكل عمل من أجل حسن سيره واستمراره. ” لم يكن يخالج الكنيسة شك في أن بقائها يتطلب تنظيمها “. هذا ما أكده ول ديورانت، في قصة الحضارة.(1)

وقد ” استطاعت الكنيسة، أن تنشر نفوذها وتقوم برسالتها كاملة عن طريق جهاز محكم البنيان، امتدت أطرافه إلى جميع العالم المسيحي، جنبا إلى جنب مع الجهاز الإداري العلماني “. (2) مقتدية في بناء جهازها ذاك، بالتنظيم الحكومي الروماني ، فقد ” جعلت من التنظيم الإمبراطوري نموذجا لتنظيمها، بل المعروف أنها أصبحت بعد تحول قسطنطين إلى المسيحية، هي الإمبراطورية الرومانية بقالب كنسي “.(3) كما ذكرنا سابقا. أي ” كما كانت هيئة الدولة، تمثل هرما قمته الإمبراطور، وقاعدته الجنود، كانت الهيئة الكنسية، تمثل هرما مقابلا، قمته البابا وقاعدته الرهبان “. (4) وأصبحت الخريطة الجغرافية لأوربا، وفق ذلك التنظيم  ” مقسمة إلى مناطق كنسية، على رأس كل منها رئيس اساقفة، وكل منطقة أو ولاية  كانت مقسمة إلى دوقيات، كل منها يرأسه أحد الأساقفة، والدوقيات مقسمة إلى أبرشيات، كل أبرشية على رأسها كاهن. وهكذا كانت هناك شبكة من النظام الكنسي تغطي كل أوربا، وكل خيوطها تتجه إلى روما، ويمسك بها البابا وكرادلته “. (5)

فما هو هذا التنظيم الكنسي؟  تتمثل نواة هذا التنظيم، في مجموعة الشمامسة، ثم القساوسة، ثم الأساقفة. في حين جاءت مع توسع الكنيسة وتطورها، مجموعة رؤساء الأساقفة، ثم الكرادلة، وغني عن القول، أن يأتي البابا على رأس هذا النظام.

والشماس: هو خادم الكنيسة، ويقوم بمساعدة القس في أداء الخدمات الدينية، والصلوات الكنسية.(6)  القس: يقوم بوظيفة التبشير والتعليم، وأداء العبادة والصلوات الكنسية. ويخضع من الناحية الدنيوية للأمير الإقطاعي، التي تقع الأبرشية في أرضه، أما من الناحية الدينية، فيخضع للأسقف الذي يتبعه. وتتجلى أهمية القس في العصور الوسطى من مهمته، فقد كان يربط بين الكنيسة من جهة، والفلاحين عامة من جهة أخرى، لكونه عضوا في مجتمع القرية وممثلا للكنيسة. وبناء على تلك المهمة، كانت المجامع المسكونية تؤكد ضرورة الدقة في اختياره. لكن الواقع التاريخي، أثبت أن معظم القساوسة، لم يكن على قسط كاف من التعليم، مما أوقعهم في

أخطاء كثيرة أثناء الصلاة والوعظ، كذلك وجد منهم، من عُرِفَ بسوء السيرة والإدمان على الخمر، وقليل منهم من كان صالحا جادا.(7)   الأسقف: يشرف على شؤون الكنيسة، ورجال الدين في أسقفيته. وهو الرئيس المباشر للقسيس في الهيئة الكنسية. وله كاتدرائية في المركز الرئيسي لأسقفيته، يتخذها حاضرة له، وقاعدة لنفوذه، وسميت كذلك نسبة إلى “كاتدرا” أي الكرسي، وهو كرسي الأسقف. وقد تمتع الأساقفة بسلطان واسع في الإشراف على شؤون أسقفياتهم وإداراتها، وتوجيه القساوسة التابعين لهم. هذا – وفي صلب النظام – تأتي موارد الكنيسة ورجالها، من هبات السيد الإقطاعي صاحب الأرض في كل أبرشية، ومن ضريبة العشر المفروضة على جميع الأراضي، حيث تدفع كل أرض عشر انتاجها لحفظ الكنيسة وصيانتها، وهذه الضريبة كنسية بحتة، ينتفع بها القساوسة ورجال الدين وحدهم. (8) وقد تمتع الأسقف في اسقفيته، بحقوق قضائية واسعة، باعتباره نائبا عن البابا في دائرته، لكنه كان مسؤولا عن أعماله، ومقيدا في إدارته لشؤون الأسقفية بالتشريع الكنسي العام، وبالأوامر البابوية. وفيما عدا ذلك كانت سلطته مطلقة على القساوسة داخل حدود أسقفيته. ولا يعزل الأسقف عن وظيفته إلا بأمر البابا وحده. ولما صار للأساقفة، ممتلكات واسعة من أراض وعقار وغيرها، فقد استلزم ذلك التفرقة بين وظيفتهم الروحية، وبين سلطاتهم واختصاصاتهم الزمنية داخل أسقفياتهم. وبشأن تعيين الأسقف، فقد انحسم الصراع بين البابا والملوك لصالح البابوية، فأصبح حق البابا كاملا في تقليد الأساقفة وحرمان الحكام العلمانيين من أي حق في هذا الصدد. (9)

رئيس الأساقفة: بعد توسع الكنيسة، كان لابد من حلقة تربط البابوية من جهة، وأساقفة البلد الواحد من جهة أخرى. وهذا ما أدى إلى قيام أسقفية كبرى في كل إقليم واسع. يرأسها رئيس أساقفة، وله حق الزعامة على أسقفيات ذلك الإقليم.(10)   ” وكان له وحده حق دعوة مجلس الكنيسة الإقليمي ورياسته … وكان كبار الأساقفة يجتمعون في مجلس تتألف منه حكومة نيابية للكنيسة. وكانت هذه المجالس [قبل عصر أعظم البابوات] تدعي لنفسها سلطات تعلو على سلطات البابا. [أما في عصور البابوات العظام] فلم يكن أحد في أوربا الغربية، ينازع سلطات أسقف روما الدينية والروحية “. (11)

مجموعة الكرادلة: هم مجموعة مختارة من كبار الأساقفة، بمثابة هيئة استشارية للبابا، ثم كثرت اختصاصاتهم. وقد كانوا يشكلون مع البابا هيئة ملك في بلاطه ويحيط به الأمراء ” وإذا كان البابا قد أصبح ملكا في بلاطه بروما، فإن الكرادلة، كانوا بمثابة الأمراء الذين أحاطوا بزعيمهم، وجاؤوا بعده في الدرجة، من حيث المكانة والنفوذ “.(12)    

هل المسيح هو من أمر ببناء الكنيسة حقيقة؟: لا يذهب الدكتور شارل جيني بير، أستاذ المسيحية ورئيس قسم الأديان في جامعة باريس، مع القائلين أن المسيح هو منشئ الكنيسة، ولا حوارييه كذلك. لأن ” عيسى كان يترقب حلول مملكة الله الوشيك، ومن شأن هذا الأمل أن ينفي من

منطقه كل فكرة تتعلق بالتنظيم الدنيوي لأتباعه، ثم إن عيسى كان يهوديا وخاضعا تمام الخضوع لشريعة بني إسرائيل الدينية … لهذا كله، لابد لنا من الإيقان بأنه لم يكن ليعمل فكره لحظة واحدة في رسم خطوط ما نسميه بالكنيسة “.(13) وأما فيما يتعلق بالحواريين والقول بأنهم أنشؤوا الكنيسة ، يؤكد الدكتور شارل: ” أنهم ما فكروا في إنشاء الكنيسة، إذ ظلوا على إخلاصهم للدين اليهودي وداوموا … على شعائره، مؤمنين أيضا بأن المستقبل لمملكة الله، وليس لكنيسة ما “.(14) وعن تعبير كنيستي الوارد في إنجيل متى 16/ 18 ـ 19 الذي يعتبره المسيحيون نصا منشئا للكنيسة، يقول جني بير: فإن إنجيل متى ( 16/ 18- 19) هو الوحيد من بين الأناجيل الذي نسب ذلك التعبير للسيد المسيح (إنك أنت بطرس – أي الصخرة – وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي). ولكن هذا الحديث المشهور والذي استغل أقصى استغلال، لا يمكن الاعتماد على صحته، إلا إن أعلنا: أن المسيح، في ساعة من ساعات الغفلة والتيه، قد تنكر لتعاليمه، ولعمله، ولرسالته، بل ولذاته “. (15) لأن الذي يترقب مملكة الله لا يفكر بتنظيم دنيوي.

أما كيف نشأت فكرة الكنيسة، فإن جيني بير يؤكد: ” أن فكرة الكنيسة نشأت من انتقال الأمل [التبشير] المسيحي من فلسطين إلى ربوع العالم اليوناني …   [وشعور المسيحيين] مهما يكن احتقارهم للحياة الدنيا … بنوع من الوحدة بينهم … عندما يتعلقون بأمل واحد للمستقبل ويسعون في سبيله للتخلص من مظاهر حياتهم الدينية السابقة [أضف إلى ذلك]: أن اليهود … لم يلبثوا أن طردوا أتباع المسيحية، من معابد المهجر. سواء منهم من كان يهودي الأصل أو مريدا لليهودية. كذلك ترك الوثنيون الذين آمنوا معابدهم “.(16)

والحاصل ” التف الجميع حول عبادة واحدة تمجد المسيح … [وتنطوي] على فكرة الاجتماع الأخوي … والصلاة الجماعية، وطقوس المعرفة وشعائر التقرب … فكانوا جميعا أعضاء في كنيسة الله. أي أنهم مهما تفرقوا أشتاتا في بقاع الأرض، يظلون لدى الله الصفوة المختارة من أمته “. (17) ثم ” تطورت كل طائفة من الأخوة إلى كنيسة. وكنيسة الله هي مجموع تلك الكنائس الخاصة، التي تتبادل الرسائل والنصيحة بالثبات، والتي تعتمد كل واحدة منها على الأخريات ” . (18) يضاف لما سبق أن للمسيحية معرفة في قيادة الجماعة والتنظيم. فقد ” كان المسيحيون سواء الوثني منهم أو اليهودي، على علم بالأساليب المحتملة لإقامة حكومات تدير جماعاتهم، [عرفوا ذلك من الجماعات الوثنية والنظم اليهودية التي عاشوا في وسطها] … [كما] فرضت الضرورات أنواع الوظائف، وسمي الموظفون بأسماء أخذت من اللغة الشائعة، مثل : شيخ ومشرف ،وخادم، وقد تطورت الأسماء فيما بعد إلى قس، وأسقف، وشماس “. (19) وهكذا يصل الدكتور جيني بير إلى أن الكنيسة لم تنشأ بنص قاله المسيح، ولا بعمل الحواريين، وإنما هو الواقع والظروف التي مرت بها المسيحية.


الهوامش:

1 – ول ديورانت، قصة الحضارة،الجزء12، ص158

2 – د. سعيد عبد الفتاح عاشور، أوربا في العصور الوسطى، الجزء2 مكتبة النهضة المصرية 1959، ص15

3 –  هـ .أ . ل فيشر، تاريخ أوربا الوسطى الجزء1، ص106

4 – د. سفر عبد الرحمن حوالي، العلمانية، دار الهجرة، ص19

5 – د. عزت زكي، تاريخ المسيحية، المسيحية في عصر الإصلاح، دار التأليف والنشر للكنيسة الأسقفية، ص14

6 – ويكيبيديا

7 – عاشور، المصدر نفسه، ص19 – 21 بتصرف

8 – عاشور، ص19 – 20 بتصرف

9 –  عاشور، ص21 – 25 بتصرف

10 – عاشور، ص21 – 25 بتصرف

11 – ول ديورانت، قصة الحضارة الجزء16، ص54 – 55

12 – عاشور، ص19

13 – شارل جيني بير، المسيحية نشأتها وتطورها، ترجمة د. محمود عبد الحليم، منشورات المكتبة العصرية صيدا بيروت، ص130

14 – جيني بير، ص131

15 – جيني بير، ص131

16 – جيني بير، ص131 – 132، بتصرف

17 – جيني بير، ص132

18 – جيني بير، ص133

19 – جيني بير، ص134 – 135،  بتصرف     

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى