مقالات

المدائح النبوية (ذكرى المولد النبوي الشريف)

نعيم مصطفى

مدير التحرير
عرض مقالات الكاتب

ها هي أزاهير الربيع الأول بدأت تتفتح وبدأ شذاها ، وعبيرها يضوع؛ لينعش القلوب ويجدد ضخها بمحبة سيد الأنام.

إنه شهر الخير والبركات، ذاك الشهر الذي صدح بحنجرته الذهبية معلنًا ولادة خير البشرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

ها هي نسائمه تقترب منا رويدًا رويدًا لتعانقنا، وتظللنا بنفحات الخير، والحب، والجمال، والسلام والرحمة…التي زرعها بين جوانحنا وحثنا على نشرها في أرجاء المعمورة.

تأتي هذه المناسبة، والمسلمون يواجهون أعتى أنواع الافتراء، والظلم، والوحشية التي يتبناها الفراعنة، والنماردة، والفاشية والنازية، والبرابرة، تحت عناوين براقة ظاهرها الحضارة وباطنها الهمجية (حرية التعبير).

كان يلتف حول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة من الشعراء المجيدين، والمجاهدين بالكلمة في سبيل الدعوة، ويمكن إدراج قوتهم وجهادهم تحت ما يسمى في عصرنا الراهن القوة الناعمة، وهي لا تقل تأثيرًا، وفاعلية عن القوة الخشنة، فقد كان سيدنا النبي يقول لحسان ابن ثابت: ” اهجهم فو الله لهجاؤك عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام ، اهجهم ومعك جبريل روح القدس”.

كما كانوا يحمّلون شعرهم ألوان وفنون المديح لسيدنا النبي والإسلام.

ما تعريف هذا الفن ومتى بدأت إرهاصاته؟  المدائح النبوية: هي عبارة عن الشعر الذي يهتم بمدح الرسول صلى الله عليه وسلم بتعداد صفاته الخُلُقية، والخَلقية، وإظهار الشوق لرؤيته، وزيارته، والأماكن المقدسة التي ترتبط بحياته، مع ذكر معجزاته الماديّة، والمعنويّة، ونظم سيرته شعرًا، والإشادة بغزواته، وصفاته، والصلاة عليه تقديرًا وتعظيمًا.

والمديح هو غرض من أغراض الشعر العربي الرئيسية قديمًا وحديثًا، وهو في الأصل تعبير عن إعجاب المادح بصفات مثالية، ومزايا إنسانية رفيعة يتحلى بها شخص من الأشخاص أو أمة من الأمم.

نشأته وبدايته: ظهر قبل النبوة ومع مولد الرسول الكريم، وإن لم يعرف بهذا المصطلح في هذه الفترة.

وأول ما تغنى بمدح النبي هو جده عبد المطلب  إبان ولادته عليه الصلاة والسلام فقال:

وأنت لما ولدت أشرقت

الأرض وضاءت بنورك الأفق

فنحن في ذلك الضياء وفي 

النور وسبل الرشاد نحترق

وكان أبوطالب قد مدح النبي صلى الله عليه وسلم في صغره قائلاً:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم

فهو عنده في نعمة وفواضل

وعندما جاء الإسلام ظهر تيار جديد في المديح هو مدح النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن سيرين: كان شعراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حسان بن ثابت ،وعبدالله بن رواحة، وكعب بن مالك.

ومدح كعب بن زهير الرسول صلى الله عليه وسلم في قصيدته الذائعة الصيت البردة، ولكنه لم يعدّ من شعراء الرسول عليه السلام.

ولا بد في النهاية من ذكر أجمل الأبيات التي صدحت بها حناجر الشعراء بمدح المصطفى عليه الصلاة والسلام، فارتفعت بها مكانتهم، وسمت نفوسهم، وحلقت أسماؤهم لتعانق أعنان السماء.

قال حسان بن ثابت – رضي الله عنه- في مدح الرسول – صلّى الله عليه وسلّم-: 

وأَحسنُ منكَ لم ترَ قط عيني

                 وَأجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ

 خلقتَ مبرًّأ منْ كلّ عيبٍ

                    كأنكَ قدْ خلقتَ كما تشاء

وقال أيضًا:

 أغَرّعَلَيْهِ لِلنُّبُوَّة خَاتَمٌ مِنَ

اللَّهِ مَشْهُودٌ يَلُوحُ ويُشْهَدُ

وضمَّ الإلهُ اسمَ النبيّ إذا قَالَ

في الخَمْسِ المُؤذِّنُ أشهدُ

وهذا محمَّدُ نَبيٌّ أتَانَا بَعْدَ يَأسٍ وَفَترةٍ

منَ الرسلِ والأوثانِ في الأرضِ تعبدُ

فَأمْسَى سِرَاجاً مُسْتَنيراً وَهَادِياً

يَلُوحُ كما لاحَ الصّقِيلُ المُهَنَّدُ

وأنذرنا ناراً وبشر جنةً

                  وعلمنا الإسلامَ فاللهَ نحمدُ

وأنتَ إلهَ الخلقِ ربي وخالقي

          بذلكَ ما عمَّرتُ في الناسِ أشهدُ

 تَعَالَيْتَ رَبَّ الناسِ عن قَوْل من        

دَعا  سِوَاكَ إلهًا، أنْتَ أعْلَى وَأمْجَدُ

لكَ الخلقُ والنعماءُ، والأمر كلهُ              

فإيّاكَ نَسْتَهْدي، وإيّاكَ نَعْبُدُ

 وقال كعب بن زهير – رضي الله عنه- في بردته الشهيرة:

حَتَّى وَضَعْتُ يَميني لا أُنازِعُهُ

في كَفِّ ذِي نَغَماتٍ قِيلُهُ القِيلُ

لَذاكَ أَهْيَبُ عِنْدي إذْ أُكَلِّمُهُ

وقيلَ إنَّكَ مَنْسوبٌ ومَسْئُولُ

مِنْ خادِرٍ مِنْ لُيوثِ الأُسْدِ مَسْكَنُهُ

مِنْ بَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دونَهُ غيلُ

يَغْدو فَيُلْحِمُ ضِرْغامَيْنِ عَيْشُهُما

لَحْمٌ مَنَ القَوْمِ مَعْفورٌ خَراديلُ

إِذا يُساوِرُ قِرْناً لا يَحِلُّ لَهُ

أنْ يَتْرُكَ القِرْنَ إلاَّ وهَوَ مَغْلُولُ

مِنْهُ تَظَلُّ سَباعُ الجَوِّ ضامِزَةً

ولا تَمَشَّى بَوادِيهِ الأراجِيلُ

ولا يَزالُ بِواديهِ أخُو ثِقَةٍ

مُطَرَّحَ البَزِّ والدَّرْسانِ مَأْكولُ

إنَّ الرَّسُولَ لَسَيْفٌ يُسْتَضاءُ بِهِ

مُهَنَّدٌ مِنْ سُيوفِ اللهِ مَسْلُولُ

ومن بردة أمير الشعراء أحمد شوقي التي تعد من عيون الشعر العربي نختار معظم  أبياتها لأنها تكاد تكون عرض لسيرة النبي الكريم بطريقة شعرية رائعة                              

ريـمٌ عـلى القـاعِ بيـن البـانِ والعلَمِ

أَحَـلّ سـفْكَ دمـي فـي الأَشهر الحُرُمِ

رمـى القضـاءُ بعيْنـي جُـؤذَراً أَسدًا

يـا سـاكنَ القـاعِ، أَدرِكْ ساكن الأَجمِ

لمــا رَنــا حــدّثتني النفسُ قائلـةً

يـا وَيْـحَ جنبِكَ، بالسهم المُصيب رُمِي

جحدته، وكـتمت السـهمَ فـي كبدي

جُـرْحُ الأَحبـة عنـدي غـيرُ ذي أَلـمِ

رزقـتَ أَسـمح مـا في الناس من خُلق

إِذا رُزقـتَ التمـاس العـذْر فـي الشِّيَمِ

يـا لائـمي في هواه – والهوى قدَرٌ –

لـو شـفَّك الوجـدُ لـم تَعـذِل ولم تلُمِ

لقــد أَنلْتُــك أُذْنًــا غـير واعيـةٍ

ورُبَّ منتصـتٍ والقلـبُ فـي صَمـمِ

يـا نـاعس الطَّرْفِ; لاذقْتَ الهوى أَبدًا

أَسـهرْتَ مُضنـاك في حفظِ الهوى، فنمِ

فـي اللـهِ يجـعلني فـي خـيرِ مُعتصَمِ

أُلقـي رجـائي إِذا عـزَّ المُجـيرُ على

مُفـرِّج الكـرب فـي الـدارينِ والغمَمِ

إِذا خــفضتُ جَنــاحَ الـذُّلِّ أَسـأَله

عِـزَّ الشفاعةِ; لـم أَسـأَل سـوى أَمَمِ

وإِن تقـــدّم ذو تقــوى بصالحــةٍ

قــدّمتُ بيــن يديـه عَـبْرَةَ النـدَمِ

لـزِمتُ بـابَ أَمـير الأَنبيـاءِ، ومَـنْ

يُمْسِـكْ بمِفتــاح بـاب اللـه يغتنِـمِ

فكــلُّ فضـلٍ، وإِحسـانٍ، وعارفـةٍ

مــا بيــن مســتلمٍ منـه ومُلـتزمِ

علقـتُ مـن مدحـهِ حـبلاً أعـزُّ بـه

فـي يـوم لا عِـزَّ بالأَنسـابِ واللُّحَـمِ

يُـزرِي قَـرِيضِي زُهَـيْرًا حين أَمدحُه

ولا يقـاسُ إِلـى جـودي لـدَى هَـرِمِ

محــمدٌ صفـوةُ البـاري، ورحمتُـه

وبغيَـةُ اللـه مـن خَـلْقٍ ومـن نَسَـمِ

وصـاحبُ الحـوض يـومَ الرُّسْلُ سائلةٌ

متـى الـورودُ؟ وجـبريلُ الأَمين ظَمي

ســناؤه وســناهُ الشــمسُ طالعـةً

فـالجِرمُ فـي فلـكٍ، والضوءُ في عَلَمِ

قـد أَخطـأَ النجـمَ مـا نـالت أُبوَّتُـه

مـن سـؤددٍ بـاذخ فـي مظهَـرٍ سَنِم

نُمُـوا إِليـه، فـزادوا في الورَى شرَفًا

ورُبَّ أَصـلٍ لفـرع فـي الفخـارِ نُمي

حَــوَاه فـي سُـبُحاتِ الطُّهـرِ قبلهـم

نـوران قامـا مقـام الصُّلـبِ والرَّحِم

لمــا رآه بَحــيرا قــال: نعرِفُــه

بمـا حفظنـا مـن الأَسـماءِ والسِّـيمِ

سـائلْ حِراءَ، وروحَ القدس: هل عَلما

مَصـونَ سِـرٍّ عـن الإِدراكِ مُنْكَـتِمِ؟

كــم جيئـةٍ وذهـابٍ شُـرِّفتْ بهمـا

بَطحـاءُ مكـة فـي الإِصبـاح والغَسَمِ

ووحشةٍ لابــنِ عبـد اللـه بينهمـا   أَشـهى من الأُنس بالأَحبـاب والحشَمِ

يُسـامِر الوحـيَ فيهـا قبـل مهبِطـه

ومَـن يبشِّـرْ بسِـيمَى الخـير يَتَّسِـمِ

لمـا دعـا الصَّحْـبُ يستسقونَ من ظمإٍ

فاضتْ يـداه مـن التسـنيم بالسَّـنِمِ

وظلَّلَتــه، فصــارت تسـتظلُّ بـه

غمامــةٌ جذَبَتْهــا خِــيرةُ الــديَمِ

محبــةٌ لرســولِ اللــهِ أُشــرِبَها

قعـائدُ الدَّيْـرِ، والرُّهبـانُ فـي القِمـمِ

إِنّ الشــمائلَ إِن رَقَّــتْ يكـاد بهـا

يُغْـرَى الجَمـادُ، ويُغْـرَى كلُّ ذي نَسَمِ

ونـودِيَ: اقـرأْ. تعـالى اللـهُ قائلُهـا

لـم تتصـلْ قبـل مَـن قيلـتْ له بفمِ

هنــاك أَذَّنَ للرحــمنِ، فــامتلأَت

أَســماعُ مكَّــةَ مِـن قُدسـيّة النَّغـمِ

فـلا تسـلْ عـن قريش كيف حَيْرتُه؟

وكـيف نُفْرتُهـا فـي السـهل والعَلمِ؟

تسـاءَلوا عـن عظيـمٍ قـد أَلـمَّ بهـم

رمَــى المشــايخَ والولـدانَ بـاللَّممِ

يـا جـاهلين عـلى الهـادي ودعوتِـه

هـل تجـهلون مكـانَ الصـادِقِ العَلمِ؟

لقَّبتمــوهُ أَميـنَ القـومِ فـي صِغـرٍ

ومــا الأَميــنُ عـلى قـوْلٍ بمتّهَـمِ

فـاق البـدورَ، وفـاق الأَنبيـاءَ، فكـمْ

بـالخُلْق والخَـلق مِـن حسْنٍ ومِن عِظمِ

جـاءَ النبيـون بالآيـاتِ، فـانصرمت

وجئتنــا بحــكيمٍ غــيرِ مُنصَـرمِ

آياتُــه كلّمــا طـالَ المـدَى جُـدُدٌ

يَــزِينُهنّ جــلالُ العِتــق والقِـدمِ

يكــاد فــي لفظــةٍ منـه مشـرَّفةٍ

يـوصِيك بـالحق، والتقـوى، وبالرحمِ

يـا أَفصـحَ النـاطقين الضـادَ قاطبـةً

حديثُك الشّـهدُ عنـد الـذائقِ الفهِـمِ

حَـلَّيتَ مـن عَطَـلٍ جِـيدَ البيـانِ به

فـي كـلِّ مُنتَـثِر فـي حسـن مُنتظِمِ

بكــلِّ قــولٍ كـريمٍ أَنـت قائلُـه

تُحْـيي القلـوبَ، وتُحْـيي ميِّـتَ الهِممِ

سَــرَتْ بشــائِرُ بالهـادي ومولِـده

في الشرق والغرب مَسْرى النورفي الظلمِ

تخـطَّفتْ مُهَـجَ الطـاغين مـن عربٍ

وطــيَّرت أَنفُسَ البـاغين مـن عجـمِ

رِيعـت لهـا شُرَفُ الإِيوان، فانصدعت

مـن صدمـة الحق، لا من صدمة القُدمِ

أَتيـتَ والنـاسُ فَـوْضَى لا تمـرُّ بهم

إِلاّ عـلى صَنـم، قـد هـام فـي صنمِ

والأَرض مملــوءَةٌ جـورً، مُسَـخَّرَةٌ

لكــلّ طاغيـةٍ فـي الخَـلْق مُحـتكِمِ

مُسَـيْطِرُ الفـرْسِ يبغـى فـي رعيّتـهِ

وقيصـرُ الـروم مـن كِـبْرٍ أَصمُّ عَمِ

يُعذِّبــان عبــادَ اللــهِ فـي شُـبهٍ

ويذبَحــان كمــا ضحَّــيتَ بـالغَنَمِ

والخــلقُ يَفْتِــك أَقـواهم بـأَضعفِهم

كــاللَّيث بـالبَهْم، أَو كـالحوتِ بـالبَلَمِ

أَســرَى بـك اللـهُ ليـل، إِذ ملائكُـه

والرُّسْـلُ في المسجد الأَقصى على قدَمِ

لمــا خـطرتَ بـه التفُّـوا بسـيدِهم

كالشُّـهْبِ بـالبدرِ، أَو كـالجُند بـالعَلمِ

صـلى وراءَك منهـم كـلُّ ذي خـطرٍ

ومن يفُــز بحــبيبِ اللـه يـأْتممِ

جُـبْتَ السـمواتِ أَو مـا فـوقهن بهم

عـــلى منــوّرةٍ دُرِّيَّــةِ اللُّجُــمِ

رَكوبـة لـك مـن عـزٍّ ومـن شرفٍ

لا فـي الجيـادِ، ولا فـي الأَيْنُق الرسُمِ

مَشِــيئةُ الخـالق البـاري، وصَنعتُـه

وقدرةُ اللــه فـوق الشـك والتُّهَـمِ

حــتى بلغـتَ سـماءً لا يُطـارُ لهـا

عـلى جَنـاحٍ، ولا يُسْـعَى عـلى قَـدمِ

وقيــل: كــلُّ نبــيٍّ عنـد رتبتِـه

ويــا محـمدُ، هـذا العـرشُ فاسـتلمِ

خــطَطت للـدين والدنيـا علومَهمـا

يـا قـارئَ اللـوح، بـل يا لامِسَ القَلمِ

أَحــطْتَ بينهمـا بالسـرِّ، وانكشـفتْ

لـك الخـزائنُ مـن عِلْـم، ومـن حِكمِ

وضـاعَفَ القُـربُ مـاقُلِّدْتَ مـن مِنَنٍ

بـلا عِـدادٍ، ومـا طُـوِّقتَ مـن نِعـمِ

سـلْ عصبـةَ الشِّركِ حولَ الغارٍ سائمةً

لــولا مطـاردةُ المختـار لـم تُسـمِ

هـل أبصروا الأَثر الوضَّاءَ، أَم سمِعوا

همْسَ التسـابيحِ والقـرآن مـن أَمَـمِ؟

وهــل تمثّـل نسـجُ العنكبـوتِ لهـم

كالغـابِ، والحائمـاتُ الزُّغْبُ كالرخمِ؟

فــأَدبرو، ووجــوهُ الأَرضِ تلعنُهـم

كبــاطلٍ مـن جـلالِ الحـق منهـزِمِ

لـولا يـدُ اللـهِ بالجـارَيْنِ مـا سـلِما

وعينُـه حـولَ ركـنِ الـدين; لـم يقمِ

توارَيــا بجَنــاح اللــهِ، واسـتترَا

ومــن يضُـمُّ جنـاحُ اللـه لا يُضَـمِ

يـا أَحـمدَ الخـيْرِ، لـي جـاهٌ بتسْمِيَتي

وكـيف لا يتسـامى بالرسـولِ سمِي؟

المــادحون وأَربــابُ الهـوى تَبَـعٌ

لصـاحبِ الـبُرْدةِ الفيحـاءِ ذي القَـدَمِ

مديحُـه فيـك حـبٌّ خـالصٌ وهـوًى

وصـادقُ الحـبِّ يُمـلي صـادقَ الكلمِ

اللــه يشــهدُ أَنــي لا أُعارضُــه

مـن ذا يعارضُ صوبَ العارضِ العَرِمِ؟

وإِنَّمـا أَنـا بعـض الغـابطين، ومَـن

يغبِــطْ وليَّــك لا يُــذمَمْ، ولا يُلَـمِ

هــذا مقــامٌ مـن الرحـمنِ مُقتَبسٌ

تَــرمي مَهابتُــه سَــحْبانَ بـالبَكمِ

البـدرُ دونـكَ فـي حُسـنٍ وفي شَرفٍ

والبحـرُ دونـك فـي خـيرٍ وفي كرمِ

شُـمُّ الجبـالِ إِذا طاولتَهـا انخـفضت

والأَنجُـمُ الزُّهـرُ مـا واسـمتَها تسِـمِ

والليــثُ دونـك بأْسًـا عنـد وثبتِـه

إِذا مشـيتَ إِلـى شـاكي السـلاح كَمِي

تهفــو إِليـكَ – وإِن أَدميـتَ حبَّتَهـا

فـي الحـربِ – أَفئـدةُ الأَبطالِ والبُهَمِ

محبـــةُ اللــهِ أَلقاه، وهيبتُــه

عـلى ابـن آمنـةٍ فـي كـلِّ مُصطَدَمِ

كـأَن وجـهَك تحـت النَّقْـع بدرُ دُجًى

يضــيءُ مُلْتَثِمً، أَو غـيرَ مُلتثِـمِ

بــدرٌ تطلَّــعَ فــي بـدرٍ، فغُرَّتُـه

كغُـرَّةِ النصـر، تجـلو داجـيَ الظلَـمِ

ذُكِـرْت بـاليُتْم فـي القـرآن تكرمـةً

وقيمةُ اللؤلـؤ المكنـونِ فـي اليُتـمِ

اللــهُ قسّــمَ بيــن النـاسِ رزقَهُـمُ

وأَنـت خُـيِّرْتَ فـي الأَرزاق والقِسـمِ

إِن قلتَ في الأَمرِ:”لا”أَو قلتَ فيه: “نعم”

فخيرَةُ اللهِ في “لا” منـك أَو “نعمِ”

أَخـوك عيسـى دَعَـا ميْتً، فقـام لهُ

وأَنــت أَحـييتَ أَجيـالاً مِـن الـرِّممِ

والجـهْل مـوتٌ، فـإِن أُوتيـتَ مُعْجِزةً

فـابعثْ من الجهل، أَو فابعثْ من الرَّجَمِ

قـالوا: غَـزَوْتَ، ورسْـلُ اللهِ ما بُعثوا

لقتْــل نفس، ولا جـاءُوا لسـفكِ دمِ

جـهلٌ، وتضليـلُ أَحـلامٍ، وسفسـطةٌ

فتحـتَ بالسـيفِ بعـد الفتـح بـالقلمِ

لمـا أَتـى لـكَ عفـوًا كـلُّ ذي حَسَبٍ

تكفَّــلَ الســيفُ بالجهـالِ والعَمَـمِ

والشـرُّ إِن تَلْقَـهُ بـالخيرِ ضِقـتَ بـه

ذَرْعً، وإِن تَلْقَــهُ بالشـرِّ يَنحسِـمِ

سَـل المسـيحيّةَ الغـراءَ: كـم شرِبت

بالصّـاب مـن شَـهوات الظـالم الغَلِمِ

طريـدةُ الشـركِ، يؤذيه، ويوسـعُها

فـي كـلِّ حـينٍ قتـالاً سـاطعَ الحَدَمِ

لــولا حُمـاةٌ لهـا هبُّـوا لنصرَتِهـا

بالسـيف; مـا انتفعـتْ بالرفق والرُّحَمِ

لــولا مكـانٌ لعيسـى عنـد مُرسِـلهِ

وحُرمَـةٌ وجـبتْ للـروح فـي القِـدَمِ

لَسُـمِّرَ البـدَنُ الطُّهـرُ الشـريفُ على

لَوْحَـيْن، لـم يخـشَ مؤذيـه، ولم يَجمِ

جـلَّ المسـيحُ، وذاقَ الصَّلـبَ شـانِئهُ

إِن العقــابَ بقـدرِ الـذنبِ والجُـرُمِ

أَخُـو النبـي، وروحُ اللـهِ فـي نُـزُل

فُـوقَ السـماءِ ودون العـرشِ مُحترَمِ

علَّمْتَهــم كـلَّ شـيءٍ يجـهلون بـه

حـتى القتـالَ ومـا فيـه مـن الـذِّمَمِ

دعــوتَهم لِجِهَــادٍ فيــه سـؤددُهُمْ

والحـربُ أُسُّ نظـامِ الكـونِ والأُمـمِ

لـولاه لـم نـر للـدولاتِ فـي زمـن

مـا طـالَ مـن عمـد، أَو قَرَّ من دُهُمِ

تلــك الشــواهِدُ تَـتْرَى كـلَّ آونـةٍ

في الأَعصُر الغُرِّ، لا في الأَعصُر الدُّهُمِ

بـالأَمس مـالت عروشٌ، واعتلت سُرُرٌ

لـولا القـذائفُ لـم تثْلَـمْ، ولـم تصمِ

أَشـياعُ عيسـى أَعَـدُّوا كـلَّ قاصمـةٍ

ولــم نُعِـدّ سِـوى حـالاتِ مُنقصِـمِ

مهمـا دُعِيـتَ إِلـى الهيْجَـاءِ قُمْتَ لها

تـرمي بأُسْـدٍ، ويـرمي اللـهُ بـالرُّجُمِ

عــلى لِــوَائِكَ منهـم كـلُّ مُنتقِـمٍ

لله، مُســتقتِلٍ فـي اللـهِ، مُعـتزِمِ

مُســبِّح للقــاءِ اللــهِ، مُضطـرِمٍ

شـوق، عـلى سـابحٍ كالبرْقِ مضطرِمِ

فـي أَعظـم الرسْلِ قدراً، كيف لم يدمِ؟

لا تعذلــوه إِذا طــاف الذهـولُ بـه

مـات الحـبيبُ، فضلَّ الصَّبُّ عن رَغَمِ

يـا ربِّ صَـلِّ وسـلِّم مـا أَردتَ على

نـزيل عرشِـك خـيرِ الرسْـل كـلِّهمِ

مُحــيي الليـالي صـلاةً، لا يقطِّعُهـا

إِلاَّ بــدمع مــن الإِشـفاق مُنسـجمِ

مســبِّحًا لـك جُـنْحَ الليـل، محـتملاً

ضُـرًّا مـن السُّهد، أَو ضُرًّا من الورَمِ

رضيَّــة نفسُــه، لا تشـتكي سـأمًا

ومـا مـع الحـبِّ إِن أَخلصت مِن سَأَمِ

وصــلِّ ربِّـي عـلى آلٍ لـهُ نُخَـبٍ

جـعلتَ فيهـم لـواءَ البيـتِ والحـرمِ

بيـضُ الوجـوه، ووجهُ الدهر ذو حَلَكٍ

شُـمُّ الأُنـوف، وأَنـفُ الحادثات حمي

وأَهــد خـيرَ صـلاةٍ منـك أَربعـةً

فـي الصحـب، صُحبتُهم مَرْعيَّةُ الحُرَمِ

الــراكبين إِذا نــادى النبــيُّ بهـم

مـا هـال مـن جَـلَلٍ، واشتد من عَمَمِ

الصــابرين ونفسُ الأَرض واجفــةٌ

الضــاحكين إِلـى الأَخطـار والقُحَـمِ

يـا ربِّ، هبـتْ شـعوبٌ مـن منيّتهـا

واســتيقظت أُمَـمٌ مـن رقْـدة العـدمِ

سـعدٌ، ونحـسٌ، ومُلـكٌ أَنـت مالِكـه

تُــديلُ مِـنْ نِعَـم فيـه، ومِـنْ نِقَـمِ

رأَى قضــاؤك فينــا رأْيَ حكمتِـه

أَكـرِمْ بوجـهك مـن قـاضٍ ومنتقـمِ

فـالطُفْ لأَجـلِ رسـولِ العـالمين بنا

ولا تزدْ قومَــه خسـفً، ولا تُسـمِ

يـا ربِّ، أَحسـنت بَـدءَ المسـلمين به

فتمِّـم الفضـلَ، وامنـحْ حُسـنَ مُخْتَتَمِ

ونختم بطائفة من أبيات قصيدة البردة للبوصيري:

محمدٌّ سـيدُ الكــونينِ والثقَلَـيْنِ

والفريقـين مِن عُـربٍ ومِن عَجَـمِ

نَبِيُّنَـا الآمِرُ النَّــاهِي فلا أَحَــدٌ

أبَـرُّ في قَــولِ لا منـه ولا نَعَـمِ

هُو الحبيبُ الــذي تُرجَى شـفاعَتُهُ

لكُــلِّ هَوْلٍ مِن الأهـوالِ مُقتَحَمِ

دَعَـا الى اللهِ فالمُسـتَمسِـكُون بِـهِ

مُستَمسِـكُونَ بِحبـلٍ غيرِ مُنفَصِـمِ

فــاقَ النَّبيينَ في خَلْـقٍ وفي خُلُـقٍ

ولم يُـدَانُوهُ في عِلــمٍ ولا كَـرَمِ

 وكُــلُّهُم مِن رسـولِ اللهِ مُلتَمِـسٌ

غَرْفَا مِنَ البحرِ أو رَشفَاً مِنَ الدِّيَـمِ

 وواقِفُـونَ لَدَيــهِ عنـدَ حَدِّهِــمِ مِن

نُقطَةِ العلمِ أو مِن شَكْلَةِ الحِكَـمِ

فَهْوَ الـــذي تَمَّ معنــاهُ وصورَتُهُ

ثم اصطفـاهُ حبيباً بارِئُ النَّسَــمِ

 مُنَـزَّهٌ عـن شـريكٍ في محاسِــنِهِ

فجَـوهَرُ الحُسـنِ فيه غيرُ منقَسِـمِ

 دَع مــا ادَّعَتهُ النصارى في نَبِيِّهِـمِ

واحكُم بما شئتَ مَدحَاً فيه واحتَكِـمِ

 وانسُبْ إلى ذاتِهِ ما شـئتَ مِن شَـرَفٍ

وانسُب إلى قَدْرِهِ ما شئتَ مِن عِظَـمِ

 فــاِنَّ فَضلَ رســولِ اللهِ ليـس له

حَـدٌّ فَيُعـرِبَ عنـهُ نــاطِقٌ بِفَمِ

 تَسَلَّوا عنه بـالحُلُمِ فمَبْلَغُ العِــلمِ فيه أنــه

بَشَــرٌ وأَنَّــهُ خيرُ خلْـقِ الله كُـــلِّهِمِ

 وكُــلُّ آيٍ أتَى الرُّسْـلُ الكِـرَامُ بِهَا

فــإنمـا اتصَلَتْ مِن نورِهِ بِهِــمِ

 فـإنَّهُ شمـسُ فَضْلٍ هُـم كــواكِبُهَا

يُظهِرْنَ أنـوارَهَا للنــاسِ في الظُّلَمِ

 أكــرِمْ بخَلْـقِ نبيٍّ زانَــهُ خُلُـقٌ

بالحُسـنِ مشـتَمِلٌ بالبِشْـرِ مُتَّسِـمِ

كالزَّهرِ في تَرَفٍ والبـدرِ في شَـرَفٍ

والبحرِ في كَــرَمٍ والـدهرِ في هِمَمِ

كــأنَّهُ وهْـوَ فَرْدٌ مِن جلالَتِــهِ

في عسـكَرٍ حينَ تلقاهُ وفي حَشَــمِ

كـــأنَّمَا اللؤلُؤُ المَكنُونُ في صَدَفٍ

مِن مَعْــدِنَيْ مَنْطِـقٍ منه ومبتَسَـمِ

 لا طيبَ يَعــدِلُ تُرْبَـا ضَمَّ أعظُمَهُ

طوبى لمُنتَشِـقٍ منـــه ومـلتَثِـمِ

 أبــانَ مولِدُهُ عن طِيــبِ عنصُرِهِ

يـــا طِيبَ مُبتَـدَاٍ منه ومُختَتَـمِ

قد تُنكِرُ العينُ ضَوْءَ الشمسِ مِن رَمَدٍ

ويُنكِرُ الفَمَ طعمَ المـاءِ مِن سَــقَمِ

 يـا خيرَ مَن يَمَّمَ العـافُونَ سـاحَتَهُ

سعيَــا وفَوقَ مُتُونِ الأَيْنُقِ الرُّسُـمِ

 ومَن هُــوَ الآيـةُ الكُبرَى لمُعتَبِـرٍ

ومَن هُـوَ النِّعمَــةُ العُظمَى لِمُغتَنِمِ

 سَرَيتَ مِن حَـرَمٍ ليــلا الى حَرَمِ

كما سَـرَى البَدرُ في داجٍ مِنَ الظُّلَمِ

 وبِتَّ ترقَى الى أن نِلـتَ مَنزِلَــةً

مِن قابَ قوسَـيْنِ لم تُدرَكْ ولَم تُـرَمِ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى