مقالات

من ذكـريات أبي رفيق، عامر سبيعي

أحمد الهواس

رئيس التحرير

عرض مقالات الكاتب

شاء الله أن تكون الهجرة الأولى للسوريين في الثورة “مصر” ولعل ثمة أسبابًا جعلت السوريين يولون وجوههم شطر مصر التي لا تصلها يابسة بالشام ، ومنها أن مصر كانت قد أسقطت مبارك في ثورة أذهلت العالم ، وباتت منهلاً وأنموذجًا للشعوب العربية ، وأنّها كانت يومًا أحد جناحي أول وحدة عربية في التاريخ الحديث ، فضلاً عن الإرث الحضاري بين الشام ومصر ، وشعور غالبية السوريين أن مصر هي الأم الرؤوم للعرب جميعًا .
تدفّق السوريون زمن المجلس العسكري ، وازدادوا تدفقًا مع وصول أول رئيس مدني منتخب بتاريخ مصر ، ومع الامتيازات التي قدّمها للسوريين في مساواة السوري بالمصري في الدراسة بكل المراحل ، والسماح للسوريين بإنشاء مدارس وتجمعات ، فضلا عن التظاهرات والاعتصامات باتت الحالة السورية ظاهرة لا تخطئها العين ، حتى جاء الانقلاب الدموي فتمّ التضييق على السوري ومنعوا من الدخول وبدأت قوافل السوريين المغادرين بحرًا باتجاه أوربا ظاهرة أيضًا ..

في أجواء التدفق السوري ، وصل مصر عدد من النخبة السورية ، ومنهم فنانون ، وأدباء ، وإعلاميون ، وسياسيون ، إلى جانب الخبرات الأكاديمية والاقتصادية ، وقد كان من أوائل الفنانين المؤيدين للثورة الفنان عامر سبيعي ، الذي جمعتني به صداقة متفرّدة وقضيت آخر سنتين لي في مصر بصحبته إلى جانب عدد من الأصدقاء ، وقد رحل عن عالمنا في 19 – 10 – 2015 ، بعد مغادرتي لمصر بنحو شهرين .
عشت في مصر قبل الثورة بسنوات طويلة ، ولم أكن أملك صديقًا سوريًا ، بل مجموعة أصدقاء عرب ومصريين بحكم عملي في الإعلام ، حتى مجيء السوريين ، وبدء تشكل صداقات لي مع القادمين ومنهم الراحل عامر سبيعي وياسر حلاق وحسن أحمد وفاروق الشامي وآخرون ، وباتت “شلّتنا” أنموذجًا للعلاقات بين السوريين أو علاقة الهجرة .
كان أبو رفيق شديد الحساسية رقيق المشاعر ، قد تسبقه دمعته في التأثر بمشهد ما ، أذكر في 2014 دندن لي على العود وأنا ألقي أبياتًا من قصيدتي : الله ياوطني ، وكانت دمعته تسبقه وهو يسمع :
في الغوطتين تنام الشام في دعة – والياسمين تدلّى في روايبها
في الفجر تبصر آياتٍ مصوّرة – وفي المساء سماوات تساقيها
وقد كان جادًا في أن يتم تلحينها ويعطيها لأحد الشباب ، ولعل آخر رسالة له وصلتني على الماسنجر كان يقول لي أتمنى أن أضع لها لحنًا يليق بها ويرددها السوريون .
لم يكن عامر سبيعي ” ممثلاً” بل كان فنانًا كما يصف نفسه ، وكان كما يقول عن نفسه : أنا فنان قدره أن يكون أول مثبّط له بالفن والده !
سألته في بيتي وكيف يكون ذلك ، أم أن كلامك عن والدك ” رفيق سبيعي” نتيجة موقفه المؤيد للنظام ؟
قال : لا أبدًا ، فقد كان والدي – عكس ما يتخيل المتابعون لي أنه كان داعمًا لي – فهو لم يسع يومًا لجعلي أعمل في الفن أو أن أتحول نجمًا بل أن يعترف حتى بموهبتي بكتابة النصوص الفنية وتلحينها وغنائها ، بل كان ينظر لي أني أقل من ذلك ، رغم أنه أخذ مني يومًا نصًّا وغناه في مهرجان الأغنية السورية ، ولم يأخذ النص هكذا بل أعطاني 10 آلاف ليرة وقال لي هذا عمل !
تصور- يتابع وهو يأخذ نفسًا عميقًا من سيجارته- رغم أني أكثر شبهًا به إلا أنّه لم يكن يودني أو هكذا كنت أشعر ، لكني أحبه وأدعو له بطول العمر ..
أنا أصغر ممثل في تاريخ الدراما السورية وأول منشق عنها ، يقولها ويضحك .. نعم فقد مثّلت دور” قبضايات غوار” ضد أبو صياح ، في مقالب غوّار حين جاء بنا دريد لحّام “كشلة عناتر” وكنت حينها دون التاسعة من عمري ، وأول منشق حين تركت المسرح العسكري ، وفضّلت أن أعمل في مجال تصفيف الشعر بعد أن رأيت أن السياسة الطائفية خربت الفن ..
يذكر أبو رفيق ؛ أنّ والده تزوج من الطائفة العلوية ، ليس لأنه عابر للطائفية ، بل لأن أسرته في دمشق رأت أن دخوله في الفن عيب لا يمكن قبوله ، وبالتالي فضّل والده أن تكون زوجته من بيئة تتقبل الفن ، ويكمل كنت دائمًا أذهب لبيت جدي في جبال العلويين ، وكنت أرى جدي يقرأ القرآن ، ولكني تعرّفت على الطائفية حين كان يدبّ خلاف بين أبي وأمي فأسمع والدتي تقول لوالدي يابكري .. لم أكن أعرف أنّها تنسبه لسيدنا أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه .. وأنّه لعمري لنسب عظيم ، ولكني كنت وما زلت مقتنعًا أنّها كانت تقول هذا دون أن تدرك معناها بل هي مما علقت في ذهنها أو مما يعلق في ذهن أطفالهم في التربية البيئية وهي غير موجودة في بيئتنا الدمشقية .
غادرت مصر باتجاه ألمانيا يوم 25 – 8- 2015 ، كلمني على الهاتف ، وبكى ، قال : لا أستطيع وداعك أبا أيمن قبّل لي حبايبي “أطفالك” لقد أبلغت “ياسر” أني لا أستطيع وداعك ..
لم يطل أبو رفيق بعد سفري مكوثًا فرحل ، وقد سافرت لمصر بعد وفاته في 23 – 11- 2015 ، فاستقبلني ولده “رفيق” وياسر حلاّق ،وحسن أحمد ، وسجلنا فيلمًا عنه بعنوان ، عريس الشام ، وكان معي فاروق الشامي ، وبكيت مرتين وأنا أستذكر بعض عباراته ، وبقيت مشاهد لم تسجل لعبد الحكيم قطيفان ، ولم تمض مدة طويلة حتى بدأ الموت يحصد “الشلّة” التي تكوّنت في مصر فبعد أبي رفيق بثمانية أشهر رحل حسن أحمد رحمه الله ، وبعدها أصيب ياسر حلاق بالسرطان ورحل بعد “حسن” بنحو سنتين ، ورحلت الأيام وأصحابها ولم يبق سوى الدموع وبقايا صور وبعض ذكرى …

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. مقال يستحق القراءة مرات و مرات لنرى بأنفسنا هذا الإرث العقدي الذي عمل عليه حافظ الأسد لخدمة كرسيه و كرسي أحفاده .

  2. يا لروعتكم جميعا…ما أحوجنا لنص بسبب الدمع من مآقينا. ،ويحرّك سواكننا، ويهدينا قدرا من التقارب في زمن التباغض

  3. رحم الله من رحلوا ممن ذكرت وقدعرفت منهم ياسر الحلاق وحزنت لوفاته
    ومن جهتي فقدت معظم رفاقي في المهجر وآخرهم سميي واخي هيثم الخياط الذي توفي في مصر .
    وهذا هو قدرنا يا د احمد ، كنت ولازلت وفيا لاصدقائك

  4. تراجيدية رائعة …رحم الله عامر السبيعي ….يبدوا أن الطيب عمره قصير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم………

اترك رداً على غسان الجباوي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى