بحوث ودراسات

السلطة الدينية (الثيوقراطية) – البابوية مثالاً (3)

محمد الحاج

باحث وأكاديمي سوري
عرض مقالات الكاتب

عصر البابوات

البابا رأس الكنيسة الكاثوليكية، فلا قوانين جديدة تُسن، ولا مجامع تعقد، ولا قرارات تتخذ، ولا تعيينات تنفذ، دون إمضائه.

ويبتدئ العصر البابوي بالبابا غريغوري الكبير (590 م)، وينتهي بعصر الإصلاح في أوائل القرن السادس عشر. (1)

ويتلخص المشروع البابوي، بالسعي لجمع السلطتين الدينية والزمنية ( السياسية)، بيد كنيسة روما وأسقفها. على الشكل التالي:

السلطة الدينية: 1 – إن أسقف روما هو الحكم الأعلى في كل مسائل التعليم. 2 – أن له الحق في الحكم المطلق، وعقد المجامع العامة والرئاسة عليها. 3 – أن له الحق في جميع التعيينات الأكليريكية. 4 – أن جميع اللامنتمين لكنيسة روما يعتبرون منشقين عنها.

أما السلطة السياسية: فتقتضي أن تخضع كل الهيئات الأوربية والحكومات، وعامة الناس في العالم المسيحي لسيادة كنيسة روما وأسقفها. (2)

والسؤال الكبير: ” كيف انتقلت السلطة إلى أيدي البابوات الرومانيين، حتى أصبحت لهم السيادة التامة، والسلطة المطلقة في القرون الوسطى ؟ “. (3)

هناك عوامل وأحداث تاريخية عدة، تعتبر أساسا لنشوء البابوية وسلطتها وسيطرتها، خلال العصور الوسطى، أهمها:  أ – أعمال وقرارات بعض الأباطرة. ب – وجود بابوات بشخصيات قوية. ج – نقل العاصمة الإمبراطورية من روما إلى القسطنطينية. د – سقوط الإمبراطورية في القرن الخامس. وسنبحث كل عامل من تلك العوامل.

أ – أعمال وقرارات بعض الأباطرة: وفر بعض الأباطرة للبابوية ظروفا مواتية، لنشأتها وثباتها وبسط سلطانها. تبدأ من الاعتراف بالمسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية، مرورا بوضع قوانين الإيمان الكنسي، وتأكيد سلطة أسقف روما على جميع الكنائس المسيحية، ومحاربة الهرطقة*. هذا دون الحديث عن الهبات والأعطيات.

قسطنطين كبير: (272 – 337) مدة حكمه (306 – 337) أصدر قسطنطين كما أسلفنا مرسوم ميلان عام 313 م، الذي غير” تاريخ الكنيسة تغيرا محسوسا، إذ ارتفعت من حالة الذل

والاضطهاد إلى ذروة التقدم والكرامة العالمية “.(4) وأعاد المرسوم بعد اعترافه بالمسيحية كإحدى الشرائع المصرح باعتناقها داخل الإمبراطورية، – وبالتالي التمهيد لها بأن تكون الديانة الرسمية للدولة – أعاد” للمسيحيين كنائسهم، ورُدت إليهم ممتلكاتهم بدون مقابل، وتقدمت المسيحية في مظاهرها الخارجية تقدما عظيما “. (5)  وفي عهده أيضا عقد مجمع نيقية الأول 325 م الذي سميت قراراته ” قانون الإيمان الكنسي ” حيث رفضت [أي القرارات] آراء آريوس في المسيح وثبتت التعليم بالثالوث الأقدس، ولاهوت المسيح، وأنه واحد مع الآب في العزة والمجد [أي ثبتت آراء أثناسيوس]. (6) ” فتمسكت الكنيسة اللاتينية الغربية [كنيسة روما] بقرار مجمع نيقية، بينما سقطت الكنيسة اليونانية الشرقية في اللآريوسية، مما رفع الأولى اللاتينية في أعين الغرب عامة “. وهكذا ” لم تبدأ سيادة الأساقفة الرومانيين إلا بعد مجمع نيقية الأول، أما أساقفة روما الأولون [ أي قبل المجمع ] فيندر ذكرهم في تاريخ الأكليروس “. (7)

الإمبراطور فالنتيان الثالث: (425 – 455) من أعماله أنه أصدر مرسوما ” يؤكد فيه سلطة أسقف روما على جميع الكنائس المسيحية، واعترف أساقفة الغرب بوجه عام بهذه السلطة العليا، أما أساقفة الشرق فقاوموها “.(8)

الإمبراطور ثيودسيوس: (347 – 395) مدة حكمه: (379 – 395) يعتبر هذا الإمبراطور، صاحب الحملات الشهيرة ضد الهراطقة والوثنيين. وقد فرض بصمة استبدادية على الكنيسة الكاثوليكية. ” وأتم ما شرع فيه قسطنطين، وفاقه كثيرا من حيث الغيرة على المسيحية والاجتهاد الروحي … وقد عقد مجمعا في القسطنطينية 381، كانت أسبابه: 1 – زيادة تحديد وتكميل قانون الإيمان الذي وضعه مجمع نيقية. 2 – القضاء على الهرطقات، مثل هرطقات الآريوسيين وغيرها. 3 – اتخاذ التدابير اللازمة لاتحاد الكنيسة.(9)

وقد نص مرسوم الهرطقة الذي أصدره ثيودسيوس 381 م على ما يلي: ” نحن الأباطرة نريد أن يتمسك رعايانا تمسكا راسخا بالديانة التي علمها القديس بطرس للرومان، والتي حفظها لنا التقليد بأمانة … فنحن حسب تأسيس الرسل وتعليم الإنجيل، نؤمن بالله الواحد: الآب والابن والروح القدس، وأنهم متساوون في الثالوث المقدس، ونأمر بأن يُدعى المعتنقون لهذا الإيمان ” مسيحيين كاثوليك “، كما أننا نصم كل منعدمي الشعور أتباع الديانات الأخرى باسم شائن كهراطقة، ونمنع جمعياتهم السرية من انتحال اسم كنائس … ويجب أن يتوقعوا أشد العقوبات، التي ترى سلطاتنا فرضها بالحق، تحت إرشاد الحكمة السماوية “.(10) 

بعد ذلك أصدر قوانينا ضد الهرطقة ” فحرم على من لم تصح عقيدتهم من المسيحيين عقد الاجتماعات، وسلم الكنائس للثالوثيين، وقضى على معابد الوثنية، في كل أرجاء الإمبراطورية، وأمر بتمثال سيرابيس العظيم في الاسكندرية فحُطِّم. إذ لم يكن ليسمح بعد ذلك بوجود أية منافسة ولا أية مناقضة لوحدة الكنيسة المتماسكة “.(11)         

الإمبراطور جستنيان: (483 – 565) مدة حكمه:( 527 – 565). يرتبط اسم هذا الإمبراطور تاريخيا بالتشريع المدني ” قانون جستنيان ” والتشريع الإكليريكي. ومع أنه حكم أربعين عاما، إلا أنه ” سلم مقاليد الأمور الحربية والسياسية للوزراء والقواد … أما هو فصرف معظم وقته في الدراسات اللاهوتية، وترتيب أمور رعاياه الدينية، كتعيين واجبات الكهنة ومعتقدات الشعب … وقد صرف وقتا طويلا من حكمه ، في القضاء على الهرطقات … وفي عهده فتحت  إيطاليا وأفريقيا وقضى على الآريوسية في تلك الأرجاء … ولذلك أثر حكم جستنيان وأعماله التشريعية والحربية تأثيرا هاما في تاريخ المسيحية “.(12)

ب – وجود بابوات بشخصيات قوية: انصب ما فعله البابوات، في تأكيد زعامة كنيسة روما، وتثبيت سلطتهم أنفسهم. وسنمر على اشهرهم:

إنوسنت الأول: إذا كان عصر البابوية – كما ذكرنا آنفا قد بدأ بعهد غريغوري الأول 590 م _ فإن هناك بابوات، قد مهدوا لذلك العصر، ومنهم: إنوسنت الأول: (378 – 417م)، حيث ” كان ارتقاء إنوسنت كرسي البابوية 402 م، هو أول ما أعطى تحديدا لشكل وقوة نظام الكنيسة اللاتنينية، وقبل ذلك الوقت لم يكن معترفا اعترافا رسميا بسيادة كنيسة روما، ولكنها كانت معتبرة كالكنيسة الرئيسية في الغرب، وكان يُرجع إلى أساقفتها للحكم الروحي في مسائل الخلاف … يقول ميلمان : يظهر أن أول ما بزغت فكرة السيادة العامة للإكليروس بزغت في فكر إنوسنت، ولم تكن الصورة عنده واضحة التفاصيل … إلا أنه كان لها إطار عام “. (13)

البابا غريغوري الأول أوغريغوري العظيم: (540 – 604)، مدة حكمه (590 – 604). ” تجلت أعماله في الدفاع عن روما ضد هجمات اللمبارديين*، وتخفيف آلام رعاياه مما كانوا يتعرضون له من اضطهاد. وصيانة وتوسيع البابوية. فقد  أفلحت البابوية في الاحتفاظ ببعض وظائف الحكومة المدنية، وضم شمائل كنائس الغرب تحت رعويتها، وإدارة أملاك الكنيسة وأموالها مستقلة عن الدولة. ومحاولة انتزاع السلطة الدينية العليا من بطريرك القسطنطينية، وتركيزها في رومية كمركز للمسيحية العالمية، وإرسال الوفود والبعثات إلى أنحاء أوربا لدعوة الشعوب إلى المسيحية، ومحاربة الهرطقات ونظريات الإلحاد. ففي عهده انتقلت إسبانيا من الآريوسية إلى المسيحية الحقة، وتخلصت أفريقيا الشمالية من نظريات الهراطقة والملحدين … وتمت دعوة أهل بريطانية للمسيحية، وقد حاول بسط سلطانه على كنائس المشرق، لأنه كان يعتقد: أنه صاحب الكرسي الرسولي في رومية. وهو المسؤول عن إدارة الكنيسة في العالم كله كخليفة للرسول بطرس … وزعم أن من حقه تأديب الأساقفة والبطارقة الذين يحيدون عن الإيمان القويم، وأن قرارات المجامع، ليست لها قوة التنفيذ إلا إذا أقرها الكرسي الرسولي “.(14) ” ويعزى إليه الجانب الأكبر في تأسيس النظام الإكليركي الروماني، وما يتعلق به من معتقدات … من ثم تكونت على مر الأيام الاعتقادات الخاصة بالبابوية، مثل عصمة البابا، وسلطانه الروحي المطلق، واضطهاد المخالفين في الاعتقاد والخرافات “.(15) و قد اعتبر

المؤرخون عصر غريغوري هذا، الحد الفاصل بين تاريخ الكنيسة القديم، وبداية تاريخها المتوسط.

البابا غريغوري السابع: (1015 – 1085) مدة حكمه (1073 – 1085). واسمه هلدبراند.

غريغوري السابع والمشروع الثيوقراطي: يرى أندرو ملرأن هذا البابا ” كان يضمر في دخيلة نفسه مشروعا خطيرا، واسع النطاق، ألا وهو تكوين ثيوقراطية في شخص البابا … [أما] غرضه المعلن  من البداية فهو الحصول على الحرية الكاملة والاستقلال التام للكهنوت، وفصله عن كل تدخل إمبراطوري أو علماني من أي نوع، سواء أكان في تعيين القساوسة، أو رسامتهم، وفي سبيل الوصول إلى هذه الغاية، كان دائما يؤكد … أن السلطة الروحية هي أسمى من السلطة الزمنية، وأكثر منها شرعية. وهذه الادعاءات أدت بكنيسة روما في شخص البابا إلى اغتصاب السلطة من الإمبراطورية “.(16)

مرسوم غريغوري: وتتجلى  ثيوقراطية هلدبراند في أقواله، التي سميت مرسوم غريغوري، حيث ينقل عنه ملر: ” من المقرر أن بابا روما هو الأسقف العام، وأن اسمه الوحيد من نوعه في العالم قاطبة، فله وحده حق عزل الأساقفة أو تعيينهم، وهو مطلق الحرية في عزلهم في غيابهم، وبدون حاجة لموافقة أي مجمع من المجامع، ومن حقه وحده إصدار القوانين الجديدة للكنيسة … وله وحده الحق في أن يعزل الأباطرة، وأن يحرر الرعايا من واجب الخضوع لهم. كذلك له الكلمة العليا في مسائل الحرب والسلم. وله وحده حق الفصل في المنازعات الخاصة بالعروش، ذلك لأن كل الممالك، إنما هي خاضعة لسلطان القديس بطرس … ولا يمكن لمجلس أن يكون له صفة رسمية بدون أمره … فالبابا فوق كل الأحكام، وباستحقاقات القديس بطرس، صار مقدسا تقديسا تاما. إن الكنيسة لم تقم لتكن خادمة للأمراء، بل سيدة عليهم، وإذا كانت قد تسلمت من الله السلطان بأن تحل في السماء، فبالأولى جدا أن يكون لها نفس هذا السلطان في الأمور الأرضية “.(17)

أشهر اصلاحات غريغوري: مع ما ذكر من أقوال غريغوري، وتأليهه للبابا ورفعه لدرجة القداسة. فقد قام بإصلاحات مهمة، إذ استدعى مجمعا عظيما لإلغاء رذيلتين في الكهنوت الأوربي، أو أعظم عائقين في سبيل مشروعه الثيوقراطي، هما [ زواج القساوسة، والسيمونية – نسبة إلى سيمون الساحر – أي بيع الوظائف الدينية]. ففي شأن زواج القساوسة، اتخذ القرارات التالية: 1 – القساوسة لا يتزوجون. 2 – على القساوسة المتزوجين أن يتركوا نساءهم أو يتخلوا عن مراكزهم الكهنوتية. 3 – لا يقبل أي واحد في المستقبل ضمن الكهنوت المقدس مالم يكن ذا عفة لا تقهر. (18)  

أما سبب إصرار البابا على عزوبية القساوسة، فيرجعه إلى أن زواجهم ” يعوقهم عن التفرغ

لأداء الخدمة المطلوبة منهم، سعيا وراء ضمان العيش والرفاهية لأبنائهم وزوجاتهم، كما أن اهتمامهم بتدبير شؤونهم العائلية، يتم بلا شك على حساب مصلحة الكنيسة … غير أنه ثبت بالاختبار في الكنائس التي تستخدم خداما متزوجين، أنه لا أساس لتلك الأفكار .. لأن كثيرين من أولئك الخدام، أثبتوا جدارة ونجاحا منقطع النظير في القيام بخدمته ” . (19)

السيمونية أو بيع الوظائف الدينية: وصل بيع الوظائف الدينية منتهاه في القرن الحادي عشر، ” ويخبرنا التاريخ أنه في ذلك الوقت كانت جميع وظائف الكهنوت تباع وتشترى … حتى أن أسقفية روما نفسها كسلعة في السوق يتهافت على شرائها الكثيرون لدرجة أنه وجد في الوقت عينه ثلاثة باباوات معاصرين … وقد وصلت المنازعات والحروب بين هؤلاء البابوات الثلاثة وأصدقائهم إلى درجة مخزية ومهينة جدا “. (20)

إنوسنت الثالث: (1161 – 1216) مدة حكمه (1198 – 1216). إذا كان هناك بابوات قد شيَّدوا أساس البابوية، مثل إنوسنت الأول، وليو الكبير، وغريغوري العظيم. فإن غريغوري السابع، هو الذي أقام البناء الشامخ للبابوية، فقد كان غرض هذا الراهب الجريء أن يعيد إلى روما البابوية جميع ما فقدته روما الإمبراطورية. وفي القرن الثالث عشر ” جاء إنوسنت الثالث، الذي فاقت عبقريته عبقرية غريغوري فالمشروعات الجريئة التي رسمها غريغوري السابع، قام بتنفيذها إنوسنت الثالث، حتى حصل بالكامل على كل ما كان هو الشغل الشاغل لجميع البابوات لعصور عدة، ألا وهو الرياسة الكهنوتية والسيادة الملكية، والسيطرة على جميع ملوك الأرض وأصبح بابا روما المتوج من ذلك الوقت، هو القوة المطلقة السلطان التي تحرك بيد لا رقيب عليها دولاب البابوية “.(21)  وأصبح القرن الثالث عشر يتميز بكونه نهار البابوية الساطع.

فكيف كانت رؤية إنوسنت الثالث للمملكة البابوية؟ يقول هذا البابا في خطاب له: ” أنتم ترون أن خادما قد أقامه الرب على شعبه. هذا الخادم، ما هو إلا وكيل المسيح على الأرض، وخليفة القديس بطرس، هو مسيح الرب الذي يتوسط بين الله والناس. هو أقل من الله وأكبر من الإنسان، هو تحت الله، ولكنه فوق الإنسان، هو يحكم على الكل، ولكنه لا يحكم فيه أحد … على أن من يرتفع بحكم عظمته كرئيس، يتضع بحكم وظيفته كخادم . ويقول في موضع آخر – بعد ادعائه أنه اكتشف البابوية في سفر التكوين – : وكما أن خالق كل الأشياء، قد وضع في السماء نورين عظيمين، الأكبر لحكم النهار، والأصغر لحكم الليل، هكذا أيضا وضع في جلد كنيسته قوتين عظيمتين، أكبرهما لحكم الأرواح، وأصغرهما لحكم الأجساد. هاتان القوتان، هما القوة البابوية والقوة الملكية … وتستعيرالقوة الملكية كل عظمتها من القوة البابوية … حتى أنها [الملكية] على قدر اقترابها من النور الأعظم [البابوية] يكون تضاؤل أشعتها وخسوف أمجادها المستعارة. هذا وقد تعين أن يكون مقر هاتين القوتين في أرضنا هذه إيطاليا. وطالما أنه في هذه الأرض توجد السيادة العليا المشتركة للإمبراطورية والكهنوت، فهنا يستقر أساس الإيمان

المسيحي بأجمعه “. (22)

نخرج من بحث عصر البابوات  بعدة نتائج: أ – لم تعد مملكة الرب تُذكر في سياسة الكنيسة وبابواتها إلا نادرا. فتلك السياسة لم تكن متجهة بكل قواها إلى تأسيس مدينة الله، ” ذلك أنه منذ البداية تقريبا احتجبت مملكة الرب، التي دعا إليها يسوع الناصري … واستترت وراء المبادئ والتقاليد الطقوسية الراجعة إلى عصر أقدم، وإلى طراز أدنى عقلية. وقد كفت المسيحية منذ بدايتها تقريبا أن تكون ديانة نبوية وخلاقة “.(23)  ب – دوغماتية الكنيسة( أي انغلاقها): ”  أوقعت الكنيسة نفسها في شراك التقاليد العتيقة [متأثرة] بالتطهير الدموي لدى الميثرائية*… وبتفاصيل النواحي الدقيقة لطبيعة الإله، وبالتعقيد الذهني الذي اتصف به عقل الإغريق السكندري … حتى إذا [ غاصت] الكنيسة في معمعان هذا التطاحن … بين هذه المتفارقات المتناقضة، اضطرت أن تصبح اعتقادية [دوجماتية]، تأخذ بالمذهب الاعتقادي الحتمي. ذلك أنها حين يئست من بلوغ حلول أخرى لخلافاتها الفكرية، التجأت إلى الاستبداد التعسفي “.(24)

ج – دوغماتية القساوسة (انغلاقهم): تكيَّف قساوسة الكنيسة أيضا، وفق مذاهب وإجراءات حتمية. حتى إذا نُصِّبوا كرادلة أو بابوات ” لم يعودوا أهلا لقبول آراء رحيبة، يشمل افقها العالم بأسره. ولم يعد لهم رغبة في رؤية مملكة الرب، موطدة في قلوب الناس … وأصبحوا يرغبون في رؤية قوة الكنيسة التي هي قوتهم هم، متسلطة على شؤون البشر …[وكانوا من أجل ذلك] على أتم استعداد للمساومة … حتى على البغض والخوف والشهوات المستقرة في قلوب البشر “. (25) ونظرا لأن كثيرا [من القساوسة] كانوا من الأرجح يُسِّرون الريبة في سلامة بنيان مبادئهم الضخم المحكم وصحته المطلقة، لم يسمحوا بأية مناقشة فيه. كانوا لا يحتملون أسئلة ولا يتسامحون في مخالفة، لا لأنهم على ثقة من عقيدتهم، بل لأنهم كانوا غير واثقين فيها “.(26)

د – اضطهاد المخالفين: في القرن الثالث عشر ” لم تكن الكنيسة تستشعرأي اطمئنان نفسي. وكانت تتصيد الهراطقة كما تبحث العجائز الخائفات، … عن اللصوص تحت الأسرة وفي الدواليب، قبل الهجوع في الفراش “.(27)  وهو ما فعلته مع أصحاب الآراء المخالفة في جنوب فرنسا. حيث حرض إنوسنت الثالث ” حربا صليبية على هاته الشيع التعيسة، وأذن لكل نذل زنيم، أو متشرد أثيم، بأن ينضم إلى الجيش وأن يُعمل السيف والنار واغتصاب الحرائر، ويرتكب كل ما يمكن أن يتصوره العقل من أنواع انتهاك الحرمات، ضد أشد رعايا ملك فرنسا مسالمة “.(28)

” وكان هذا التعصب الأسود القاسي، روحا خبيثة لا يجوز أن يخالط مشروع حكم الله في الأرض. وإنه لروح يتعارض تماما مع روح يسوع الناصري، … ولكن البابوات كانوا طوال سلطانهم في حنق مقيم ضد من تحدثه نفسه بأهون تأمل في كفاية الكنيسة الذهنية “. (29)

ه – الصراع بين الكنيسة والعلم: كان الأساقفة ” يضيقون ذرعا بأية معرفة عدا معرفتهم، ولا يثقون بأي فكر لم يفحصوه ويراقبوه. فنصَّبوا أنفسهم للحد من العلم … وكان أي نشاط يُعدُّ في نظرهم نشاطا وقحا. وقد خاضوا … معركة عظيمة، مدارها مسألة موضع الأرض في الفضاء، هل هي تدور حول الشمس أم لا تدور … [وقد صاحب هذه المسألة] الكثير من الاحتقار للذكاء والكرامة العقلية “.(30) هذا وسنعرض بالتفصيل لموضوع الصراع مع العلم في مبحث موقف الكنيسة من العلم.

و – نظام التحلة: يعني هذا النظام: ” أن البابا يستطيع في كثير من الأحيان ،أن يهمل قوانين الكنيسة، في حالات فردية خاصة … وقد يسمح لرجل أن تكون له زوجتان، أو يحل إنسان من نذره، ولكن إتيان مثل هذه الأمور ينطوي على اعتراف بأن القوانين التي تتصل بها ليست قائمة على الضرورة اللازبة والصلاح الفطري، وأنها في الواقع إنما تنطوي على التضييق   والمضايقة “.(31)   

…………………………………

الهوامش: * الهرطقة: كلمة يونانية الأصل، معناها الرأي الفردي الخاص، الذي لا يتساوق مع آراء آباء الكنيسة، الذين توثقت أيمانهم بفعل روح القدس، وقد بلورت الكنيسة لها قانونا للإيمان صار الاعتراف به مقياسا، وأما من انحرف عن قواعد هذا القانون فهو مهرطق، أو أخ فاسد. عن اسحق عبيد بين الدين والبربرية، ص34

  • الميثرائية: ديانة فارسية، تركز على الإله ميثراس، الذي أوجده إله الحياة أهورا مزدا، وميثراس هزم الموت إلى الأبد، ووقف مع إله الخير ضد إله الشر. عن محمود الحويري، رؤية في سقوط الإمبراطورية الرومانية، بتصرف
  • اللمبارديين: قبيلة جرمانية، من منشأ اسكندنافي، حكمت إيطاليا بين عامي 568 – 774

1 – أندرو ملر، مختصر تاريخ الكنيسة، ط4 ص191 بتصرف

2 – اندرو ملر، ص192، بتصرف

3 – أندرو ملر، ص191

4 – ملر،ص 191

5 – ملر، ص147

6 – ملر، ص159

7 – ملر، ص192

8 – ول ديورانت، قصة الحضارة، الجزء12، ص105

9 – ملر، ص167

10 –  جون لوريمير،تاريخ الكنيسة، عصر الآباء، دار الثقافة2013 ، ص286

11 –  ويلز  معالم تاريخ الإنسانية،الجزء3، ص722

12 – ملر، ص192

13 – ملر، ص193

14 – حبيب سعيد، فجر المسيحية،ص199 – 200

15 – ملر، ص195

16 – ملر، ص243

17 – ملر،ص 243

18 – ملر، ص244

19 – جاد المنفلوطي، تاريخ المسيحية في العصور الوسطى، ص64 – 65

20 – ملر، ص245 ، ويقارن مع جاد المنفلوطي، المصدر نفسه، ص59 – 96

21 – ملر، ص305

22 – ملر، ص308

23 – ه.ج. ويلز، معالم تاريخ الإنسانية، ترجمة عبد العزيز جاويد، ط4، ج3 ، ص902

24 – ويلز، المصدر نفسه،ص902

25 – ويلز، ص902

26 – ويلز، ص902 – 903

27 – ويلز، ص903

 28 – ويلز، ص904

29 – ويلز، ص905

30 – ويلز، ص905

31 – ويلز، ص896

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى