مختارات

الجيش السوري في عيده الماسي .. من البدايات إلى حافظ الأسد (3 من 3)

محمد علاء الدين

كاتب وإعلامي سوري
عرض مقالات الكاتب

في مرحلتي الوحدة والانفصال 

شملت شروط عبد الناصر للوحدة حلّ الأحزاب السياسية، وأن تكون الوحدة اندماجية، لا فيدرالية، وبعاصمة واحدة هي القاهرة، وبرئيس واحد ينتخب. وافق البيطار والوفد العسكري على الشروط، و اضطر القوتلي للذهاب إلى القاهرة، وتوقيع ميثاق الوحدة والتنازل طوعياً عن الرئاسة. وسرعان ما تم في الشهر نفسه الاستفتاء على دولة الوحدة، باسم الجمهورية العربية المتحدة، ورئاسة عبد الناصر. وتزعم النتائج الصادرة حينها أن عدد الأصوات الرافضة كان 300 صوتاً فقط، ليبدأ في اليوم التالي مباشرة (22 فبراير/ شباط 1958) عهد دولة الوحدة.

الوفد العسكري السوري مع عبد الناصر في القاهرة، ويظهر عبد الغني قنوت وأحمد هنيدي وأكرم ديري ونورالله الحاج إبراهيم وعفيف البزري وأمين الحافظ وحسين حدة ومصطفى حمدون وبشير صادق وآخرون

برزت مشكلات الوحدة المتعجّلة سريعاً، خصوصا أمام الضباط الذين اندفعوا إلى فرضها من دون دراسة أو تخطيط أو هيكلة، فاللواء عفيف البزري الذي تم ترفيعه من عبد الناصر إلى رتبة فريق، وتكليفه بقيادة الجيش الأول في سورية، ومع أول خلاف مع المشير عبد الحكيم عامر، على تعيين أحد الضباط، أصدر المشير قراراً فورياً بتسريحه من الجيش، متهماً إياه بالشيوعية، وعيّن اللواء جمال الفيصل مكانه بعد ترفيعه إلى رتبة فريق. كما بدأت حركة نقل ضباط سوريين كثيرين إلى مصر، وإسناد مهام مكتبية لهم، وتعيين كبارهم في وزارات بلا فاعلية (أمين النفوري ومصطفى حمدون)، ونقل بعضهم إلى الملحقيات العسكرية في السفارات والبعثات الدبلوماسية إبعاداً من صفوف الجيش، ما جعل التذمّر واضحاً، خصوصا عند البعثيين الذين لم تتفكّك عراهم تماماً، مدركين أن ما من دور هام لهم قادم، وأن اندفاعهم المتهور إلى الوحدة يمضي في غير الاتجاه الذي كانوا يطمحون إليه. 

جنود سوريون في دمشق خلال استقبال عبد الناصر (Getty)

وفي العام 1959 بدت الخيبة البعثية من الوحدة واضحة في صفوف قياداتها، المنحلة ظاهرياً، وضباطها الذين تغير بهم الوضع من فارضي إرادات على الرئاسة زمن القوتلي إلى مهمّشين في زمن عبد الناصر. وزاد الطين بلة عليهم فشل القيادات البعثية في انتخابات الإتحاد القومي، ولعل ذلك ما دفع أحد المؤسسين الأوائل (ميشيل عفلق) إلى إعادة التنظيم خارج الحدود، تبعته استقالات أكرم الحوراني من منصبه الشكلي نائباً لرئيس الجمهورية، وصلاح البيطار من مسمّاه وزيراً للثقافة، وعبد الغني قنوت، وعدد من الوزراء المركزيين والمحليين، والذين للحق لم تكن لهم أية سلطة في القرارات النافذة ضمن الهيمنة المصرية. ولعلها كانت خطة من عبد الناصر واستخباراته، لاستيعابهم، مع كبح أي جموح أو تطلع لهم، إدراكاً لمراميهم كبعثيين، فيما كان الثقات في ولائهم من غير البعثيين يحظون بكل النفوذن مثل عبد الحميد السراج الذي بات وزيراً للداخلية، بصلاحيات كبيرة. 

اللجنة العسكرية البعثية

في خضم الخيبات البعثية وتجاذبات المرحلة، والاستفاقة من حلم سرمدي على واقع محبط لطموحات عسكريي “البعث”. ومع محاولة لملمة الصفوف من قيادتهم السياسية التي كانت الهوّة تكبر بينها وبين أتباعها من الضباط، تأسّست في مصر سريّاً لجنة عسكرية بعثية خماسية من كبار الضباط البعثيين، برئاسة أعلاهم رتبة العميد (بشير صادق) الذي سبق وكان ضمن الوفد العسكري المطالب بالوحدة، فيما كان أدناهم رتبة الرائد محمد عمران، وهو الوحيد ضمن الخمسة من الطائفة العلوية. لم يكتب لهذه اللجنة الاستمرار، بسبب حركات النقل إلى البعثات الدبلوماسية، حيث لم يبق منهم في مصر إلا محمد عمران الذي قام بتأسيس لجنة جديدة برئاسته. وهنا نقطة تحول كبرى، فالرائد عمران هو الأعلى رتبة، وضم إلى العضوية الرائد المستجد صلاح جديد والنقيب حافظ الأسد، من الطائفة العلوية، وعبد الكريم الجندي وأحمد المير ملحم من الطائفة الإسماعيلية، وضابطين برتبة ملازم، أدنى مراتب الضباط، من السنّة، على الرغم من وجود ضباط برتب عالية!. وهو ما يعتبره باحثون بداية محاولة هيمنة الطائفية على الجيش بقيادة علوية.

في 1959 بدت الخيبة البعثية من الوحدة مع مصر واضحة في صفوف قياداتها، المنحلّة ظاهرياً، وضباطها الذين تغير بهم الوضع من فارضي إرادات على الرئاسة زمن القوتلي إلى مهمّشين في زمن عبد الناصر

ولم يكن الانفصال عن مصر في 28 سبتمبر/ أيلول 1961 نتيجة أعمال البعثيين، لا من الساسة ولا العسكر، وهو وإن كان، في بواعثه، يرتكز إلى وحدةٍ غير مدروسة ومهملة للجانب الاقتصادي وتوحيد النقد، ولهيمنة مصرية رأت في سورية مجالاً لنفوذ أكبر، أدّى إلى لا مبالاة من القيادات، برئاسة المشير عبد الحكيم عامر الذي بات الحاكم المطلق لسورية بصفته نائباً لعبد الناصر وبتكليف منه. أكثر الأسباب مياشرة وأهمية كان قرار عبد الناصر بالتأميم صيف 1961، وهو ما حاول القوتلي، بصفته الرئيس السابق والمواطن العربي الأول، ثني عبد الناصر عنه، وتبيان مخاطره القادمة، لضربه صميم الاقتصاد السوري وكتله النافذة، لكن عبد الناصر مضى في التطبيق غير آبه. 

كان التحرّك العسكري هذه المرة من مكتب المشير عامر، وعبر رئيس المكتب، الضابط الدمشقي العقيد عبد الكريم النحلاوي، مدعوماً من الكتلة الدمشقية بما تمتلكه من نفوذ مالي وتأثير اجتماعي، فنجح النحلاوي في حركته الانفصالية، على الرغم من ضعف عوامل النجاح تكتيكياً وعسكرياً، وما زال من المستغرب تراجع عبد الناصر عن إرسال مزيد من القوات جواً وبحراً إلى اللاذقية، بعد ما اتخذ قراراً أولياً بإعادة الوحدة، و إرساله بعض القوات، لكنه عاد وأمر بالانسحاب، فغادر الضباط المصريون مصحوبين بسوريين إلى القاهرة، وكان في مقدمة السوريين المغادرين قائد الجيش الأول، الفريق جمال الفيصل، الذي صحب المشير عامر إلى القاهرة لتأمين سلامته وبقي هناك، وعندما عاد إلى سورية، أبقى تاريخه العسكري ناصعاً بالابتعاد عن الانقلابات وتدخل العسكر في السياسة. في المقابل، أعيدت أكثرية الضباط السوريين إلى دمشق، لتبدأ صراعات جديدة بين الانفصاليين ودعاة الوحدة، وإن كانت تخفي في ادّعاءاتها رغبة أكبر في استلام السلطة، فلا الانفصاليين بقيادة النحلاوي، ولا المناوئين للإنفصال استكانوا لتسليم السلطة للسياسيين، والركون على الصندوق الانتخابي، وهو ما جعل النحلاوي يغادر يائساً ومهدّداً بعدم عودة السياسيين القدامى إلى الحكم، وما أدى أيضاً إلى فصل ضباط ناصريين وبعثيين من الجيش، بل وزجّ عدد منهم في السجون، إثر حركات مناوئة للانفصال (1962).

لم يكن الشارع السوري في عمومه مرتاحاً لعودة ممثلي المرحلة القديمة إلى الحكم، و لا للانفصال النهائي وإضاعة حلم الوحدة مع مصر

وتثبت الوثائق والدراسات أن الشارع السوري في عمومه لم يكن مرتاحاً لعودة ممثلي المرحلة القديمة إلى الحكم، و لا للانفصال النهائي وإضاعة حلم الوحدة، على الرغم من أخطاء التجربة، وذلك ما يمكن النظر إليه في صفوف الجيش الذي بات معظم ضباطه من غير الرعيل القديم، ذي المنبت الإقطاعي والبرجوازي، فكانت الحالة العامة مهيأة على مدار الأيام لحدوث تحرّكات عسكرية ضد الحكم الانفصالي، وبتحالفاتٍ بين الضباط الناصريين والمحايدين بميولٍ قومية مع ضباط “البعث”، كما حدث في تمرّد حمص (مارس/ آذار 1962)، بقيادة العقيد الناصري، جاسم علوان، والمقدم البعثي، محمد عمران، وما تبعه من تطوّراتٍ في حلب، كانت تفضي إلى القضاء على الانفصال، لولا حماقة الضابطين البعثيين، حمد عبيد وإبراهيم العلي، بإعدام أربعة ضباط موالين للسلطة والخلاف الذي دبّ في صفوف البعثيين بين راغبين بالإعلان المباشر عن إعادة الوحدة ومرجئين لها، الأمر الذي أدّى إلى تخبطٍ استعادت فيه السلطة زمام المبادرة باعتقال الضباط المتمرّدين.

سيطرة السلطة على الوضع واعتقالها أهم الضباط المحرّكين للأحداث، كالناصري العقيد جاسم علوان، ورئيس اللجنة العسكرية البعثية، المقدم محمد عمران، وما تبعه من حركة انتقالات في صفوف من تراهم يشكلون خطراً عليها، لم يكن سوى خبط عشواء في لحظات شعورٍ بدنو أجل، لوقوعها بين ناري الاحتماء والإرضاء، حيث اتخذت أيضاً قراراتٍ متخبطة في صفوف العسكريين الموالين لها، ممن حسبت أن الشارع المستمر في الغليان سيهدأ نتيجة ذلك، أو أنه سيرضي الغالبية العسكرية المندفعة بعاطفية، تجاه إعادة الوحدة، والتي في مجملها لا تتبادل والسلطة الانفصالية أي ودّ، وكأن تلك المحاولات لم تكن سوى تحرّك في الوقت المستقطع، لإطالة عمر السلطة سريرياً في محاولة إنعاشٍ أخيرة. 

سنوات التحولات الخطيرة (1963-1970)

تؤكّد وثائق أكثر من جهة دولية عبر مراسلات خارجيتها وبيانات استخباراتها أن وضع الغليان الشعبي والعسكري في سورية وصل إلى ذروته مطلع العام 1963، وأن الانقلاب على سلطة الانفصال (مع مصر) قادم لا محالة، ووشيك الوقوع، خصوصا بعد انقلاب فبراير/ شباط في العراق، وهو ما دفع ضباطا عديدين حياديين، لكسب ود زملائهم القوميين، بغلبتهم ذات الميول الناصرية، أملاً في دور لهم خلال المرحلة المقبلة، أو حفظاً لأنفسهم من مخاطر التسريح والإبعاد، كما يحدث فيما اعتادوه من حركات انقلابية، وهو ما عزّز ميزان القوى الراجح أصلاً في كفّة العسكريين المناوئين للإنفصال. كان كبار القادة العسكريين حينها من المحايدين بميول قومية، ومن الناصريين مكشوفي الولاء، المندفعين، بعاطفيةٍ، إلى إعادة الوحدة مع مصر، من دون تنظيم منضبط، أو تنسيق عالي المستوى فيما بينهم، على نقيض الضباط البعثيين، اللذين كانوا، على صغر رتبهم، يعملون بانضباط وسرّية بقيادة أعلاهم رتبة الرائد صلاح جديد الذي بات القائد الفعلي للجنة البعثية العسكرية، بسبب وجود مؤسسها الثاني، المقدّم محمد عمران، في المعتقل.

أدار صلاح جديد تنظيمه بدقة وإحكام، وبما عرف عنه لاحقاً، بعد تستر وإخفاء، من مكر ودهاء يعتمد على كسب ثقة قادته بإظهار كامل الولاء والطاعة العمياء لهم، طاوياً في سره ما يبيّته ويحيكه من مؤامرات ضدهم. يروي عبد الحميد السراج، بعد تقاعده، في لقاء صحفي، هذه الحادثة التي جرت في مكتبه، حين كان رئيساً للاستخبارات، بعد اغتيال عدنان المالكي، واتهام المقدّم غسان جديد، الشقيق الأكبر لصلاح، بضلوعه في عملية الاغتيال، حيث هاتفه المقدّم البعثي مصطفى حمدون، معلماً إياه بالحضور مع ضابط شاب سيقدّمه له. وحين دخلا المكتب، كان وراء حمدون ضابط برتبة نقيب، قدّمه للسراج معرّفاً به، أدى صلاح جديد التحية العسكرية بقوة، ارتجت لها أرضية المكتب، وقال: “سيدي، باسمي وباسم آل جديد، أتطوع لقتل أخي غسان غسلاً لعارنا الوطني بسبب أفعاله”. ويتابع السراج روايته الحادثة: “حملقت فيه بغضب، وصحت: ما هذا الكلام؟ من ذا الذي يقتل أخاه بفخر؟ لا تعد إلى هكذا هرطقة. وانصرف.. فيما بهت حمدون وخرج في إثره”. ويبدو جلياً أن صلاح جديد استمرّ على طريقته في إظهار ولائه للقادة، مستغلاً، في هذه المرحلة، موقعه الحسّاس، نائباً لمدير شؤون الضباط، بكل ما يسمح به الموقع من تكتيك ومناورة في وضع من يرغب من الضباط في الموقع الذي يختاره له، تفعيلاً لدور قادم أو تهميشاً، وهو الموقع الذي سيبقى متمسكا به، حتى في المراحل اللاحقة، لمعرفته الدقيقة بعمق أثره. في هذه الظروف، تحرّك الضباط والعسكريون، بقيادة العميد المستقل والأعلى رتبة، زياد الحريري، وبدعم كامل من نظرائه اللذين أبعدتهم حكومة الانفصال عن الخدمة، في صبيحة 8 مارس/ آذار 1963، للسيطرة على العاصمة ومحيطها في الانقلاب الذي سمي “الثورة”، جرياً على عادة الانقلابات العسكرية في المنطقة حينها، منهياً سنة وبضعة أشهر من عهد الانفصال، وما تخلله من ممارسات ديمقراطية شهدت تجاذباً مع العسكر، مرّة أخيرة في تاريخ سورية، لتبدأ مرحلة جديدة ومديدة من سيطرة العسكر على كل مفاصل الدولة، وبتحوّلات شديدة التسارع والخطورة.

من الوطنية إلى العقائدية فالطائفية

إثر انقلاب “8 آذار” مباشرة، تم تسريح قيادات الجيش السابقة والضباط الذين أيّدوا الانفصال، وفي مقدّمهم وزير الدفاع (الدرزي) الفريق عبد الكريم زهر الدين، ومدير الأمن العميد الدمشقي مطيع السمان. وإعادة الضباط الوحدويين المسرّحين إلى الخدمة، باستثناء بعض الناصريين، كالعقيد جاسم علوان، فيما آثر الفريق جمال الفيصل عدم تلبية الدعوة إلى المشاركة، واعتزال الحياة العسكرية والسياسية، أما الفريق عفيف البزري فأكدت لنا ابنته أنه لم تتم دعوته للمشاركة، نافية الروايات الزاعمة أنه دعي واعتذر. 

إثر انقلاب “8 آذار”، تم تسريح قيادات الجيش السابقة والضباط الذين أيّدوا الانفصال عن مصر

تشكل سريعاً، خلال أيام الانقلاب الأولى، مجلس عسكري باسم مجلس الثورة، ضم من البعثيين محمد عمران وصلاح جديد وموسى الزعبي، ومن المستقلين زياد الحريري وغسان حداد وفهد الشاعر، ومن الناصريين راشد القطيني وفواز محارب ودرويش الزوني وكمال هلال، وتم التوافق على العميد لؤي الأتاسي، المعروف بحماسه واندفاعه للوحدة (مع مصر)، وقربه بذلك من البعثيين والناصريين، لرئاسة المجلس ثم رئاسة الجمهورية، بعد ترفيعه إلى رتبة فريق. كما تم تعيين اللواء محمد الصوفي، البعثي الأصل والمنتسب لحركة الوحدويين الإشتراكيين بعد الانفصال، وزيراً للدفاع، فيما تولى العميد المستقل، زياد الحريري، رئاسة الأركان، والعميد الناصري راشد القطيني نائباً له. أما العقيد الناصري نور الله الحاج إبراهيم، فتمت تسميته قائداً لسلاح الجو.

كان البعثيون راضين بدايةً عن هذه التشكيلات الصورية، فرتب ضباطهم المتدنية، وقلتهم بين صفوف الضباط الكبار، لا تسمح لهم مباشرةً بتولي مواقع القيادة، مدركين أن ضباطهم اللذين تم ترفيعهم أيضاً وتوليتهم قيادة تشكيلات ميدانية، برّية وجوية، ستسمح لهم باستغلالها قريباً، واستدعوا من الأرجنتين أعلاهم رتبة، العميد أمين الحافظ، ليتولى وزارة الداخلية بعد ترفيعه إلى رتبة لواء في حكومة المناصفة مع الناصريين، برئاسة المؤسس البعثي صلاح البيطار. في الوقت الذي كان فيه الرئيس يندفع وفريق المستقلين والناصريين باتجاه وحدة جديدة ثلاثية، تضم العراق إلى الطرفين، السوري والمصري، كانت اللجنة العسكرية البعثية توسع دائرتها، ناسجةً بإحكام خيوط شراكها، للتخلص من كل الضباط ممن تراهم عقبةً في طريق استفرادها بالحكم وقيادة الجيش. بدت اللجنة بحلقة المستقلين الأضعف، عبر كتلة زياد الحريري من المستقلين، وكانت قرارات تسريح الضباط تصدر في أثناء إرسالهم في وفود وبعثات لمناقشة أمور الوحدة مع مصر والعراق، لتضمن أن لا يكونوا على رأس قطعهم العسكرية، خلال صدور أمر التسريح. اتجهت اللجنة بعدها إلى خصمها الأكبر، المتمثل في الضباط الناصريين اللذين لم تكن حلقات التآمر خافيةً عنهم، لكن انكشافهم وضعف تماسكهم، وأسلوب صلاح جديد التكتيكي في تنقلاتهم، من خلال سيطرته على مكتب شؤون الضباط، كان له أثر كبير في ضعضعتهم. 

صلاح جديد
صلاح جديد (ويكيبيديا)

حاول الناصريون في مايو/ أيار 1963، عبر الاستقالة الجماعية لوزرائهم إثارة الشارع، ولفت الانتباه إلى حقيقة ما يجري في الجيش، من إبعاد ضباطهم لحساب تعيين مزيد من الضباط البعثيين، حتى من غير العاملين، فتحرّك الشارع مباشرة في مظاهراتٍ مناوئةٍ، واجهها ضباط البعث بالقمع وإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، بل واستغلوها فرصةً للتخلص من معظم الضباط الناصريين، بمن فيهم أعلى القيادات وبذرائع الإقالة والاستقالة والتقاعد، لتشمل وزير الدفاع الفريق الصوفي، ونائب رئيس الأركان اللواء القطيني، فيما أبعد رئيس الأركان، زياد الحريري، إلى السفارة في إسبانيا، بعد تصفية كتلته المستقلة. وبحلول منتصف يوليو/ تموز 1963، كانت المواجهة العسكرية قد باتت حتميةً في صراع ضباط “البعث”، مع ما تبقى من الضباط الناصريين، ومن يتحرّك منهم، على الرغم من عدم إعادته إلى الخدمة، كالعقيد جاسم علوان الذي قاد الحركة الناصرية يوم 18 يوليو/ تموز، وكان من أسباب فشلها انكشاف مخطّطاتها وتحرّكاتها عبر الضابط (العلوي) محمد نبهان الذي زرعه صلاح جديد عميلاً في صفوفهم المنكشفة باندفاعٍ يصل إلى حد السذاجة. تمت السيطرة بالقوة على غليان الشارع، وإفشال الحركة العسكرية واعتقال جميع من شارك فيها، بل ومن سبق تسريحهم وإبعادهم بمن فيهم القادة. وعقدت محكمة عاجلة بستار ثوري، اتخذت قرارها مباشرة بإعدامهم جميعاً، منتظرةً وصول الرئيس الفريق لؤي الأتاسي قادماً من مصر  للتصديق على حكم الإعدام، حيث كان مع مجموعة من البعثيين في جلسة مباحثات مع عبد الناصر في مصر حول الوحدة المزعومة، وهي الجلسة التي أنهاها عبد الناصر على عجل، لمعرفته بما حل في سورية. رفض الأتاسي حين عودته، وبصفته رئيساً، التوقيع على قرارات الإعدام، وقدم استقالته مباشرة، مبرّئاً نفسه من الدم السوري. 

ولعل تلك الاستقالة، بحد ذاتها، كانت فرصة جديدة سانحة للجنة العسكرية، حتى وإن لم تتم قرارات الإعدام للانقضاض على آخر ما يفصلهم عن الاستفراد بالجيش والحكم، فقدموا مباشرة وزير داخليتهم، اللواء أمين الحافظ، رئيساً وقائداً عاماً للجيش، وتم ترفيع محمد عمران إلى رتبة لواء، ليتبعه إليها صلاح جديد في قفزة ثلاثية، وليتحول “البعث” إلى حزب حاكم بمفرده، له الحق المطلق في قيادة الدولة والمجتمع، كما سينص الدستور، وليتحول الجيش أيضاً من جيش وطني إلى جيش عقائدي، عقيدته “البعث”، كما في كل الأنظمة الشمولية.

تؤكّد الوثائق والروايات الحية أن اللجنة العسكرية البعثية، وبتخطيط مهندسها وعقلها المدبر، صلاح جديد، ومن في ركبه، مارست كل أنواع التغرير والخداع و الغدر على نحو غير مسبوق، وصولاً إلى مراميها، الظاهر منها كشعار العقائدية، والباطن في سعيها إلى تطييف الجيش، ومن ثم فرض الهيمنة العلوية عليه، وهو ما ستكشفه السنة التالية من تفرّد “البعث” بالسلطة.

الصراعالبعثيالبعثيوالهيمنةالطائفية

ما إن سيطر البعثيون، بمفردهم، على الحكم والجيش، حتى برز صراع جديد داخل صفوفهم، هذه المرة قاده العسكريون، ومن لف لفيفهم من البعثيين المدنيين في التنظيم القُطري ضد قيادتهم التاريخية، وما عرف بالقيادة القومية للحزب، بمن فيهم من المؤسسين أنفسهم. وللحقيقة، يعود التذمر من تلك القيادات في جذوره إلى تخبّط القيادة والمؤسسين في مواقفهم غير الممنهجة، منذ لحظة الوحدة وما تبعها من ارتدادات على الحزب، فميشيل عفلق الذي وقّع على حل الأحزاب سرعان ما تراجع عن موقفه، وأكرم الحوراني الذي كان نائباً شكلياً لعبد الناصر وقّع على وثيقة الانفصال، فتم إبعاده كلياً عن الحزب بعد عهد الانفصال، ولم يبق إلا صلاح البيطار من بين المؤسسين واجهةً قيادية يتولى رئاسة الحكومة أمام تعطّش العسكريين للاستئثار بالحكم، بعيداً عن محاولة الهيمنة عليهم من تلك القيادات الحزبية المدنية.

اللجنة العسكرية البعثية، وبتخطيط مهندسها وعقلها المدبر، صلاح جديد، ومن في ركبه، مارست كل أنواع التغرير والخداع والغدر على نحو غير مسبوق

كان ممن وقف في صف القيادة القومية الرئيس أمين الحافظ وبعض أعوانه، فيما نشب بين الطرفين صراعٌ خفي، لاجتذاب القيادات الدرزية، كاللواء فهد الشاعر والرائد سليم حاطوم المتميز بقيادته سلاح المغاوير ذي الكفاءة الخاصة، فيما بدا اللواء محمد عمران في موقف حائر بين الطرفين، وهو ما جعل صلاح جديد يركّز جهوده لاستمالة سليم حاطوم إلى صفه، ليكون رأس الحربة في المواجهة العسكرية في ما عرف بحركة 23 شباط 1966، وانتهت باعتقال الرئيس أمين الحافظ، بعد مهاجمة منزله وإصابته وابنته في معركةٍ دامية، قتل فيها كثيرون من قوة الحرس الرئاسي وقوات المغاوير المهاجمة، وانتهت باعتقال الرئيس أمين الحافظ، وكثيرين من قيادات الحزب والدولة، ومؤسس اللجنة العسكرية السابق اللواء محمد عمران، وزجّهم في السجن، ليغدو صلاح جديد القائد الفعلي للحزب والدولة.

حافظ الأسد ونور الدين الأتاسي يستعرضان القوات في دمشق (8/3/1967/Getty)

لم تمض أشهر، إلا و تمّت تصفية الأقوياء العسكريين من الطائفة الدرزية، إثر تمرّد سليم حاطوم في السويداء، وما جرّه عليه من وبال انتهى باعتقاله وتصفيته في السجن. وكان قد سبقه اعتقال اللواء فهد الشاعر، اتهاماً له بمحاولة التحضير لانقلابٍ، ليُستنزف الجيش مزيداً من قياداته على أبواب حرب يونيو/ حزيران 1967، والتي ما زالت التحقيقات فيها غير مكشوفة الوثائق، عن دور وزير الدفاع حافظ الأسد الذي أمر بإذاعة بيان سقوط القنيطرة عبر الإذاعة، قبل حدوث المواجهة وما تبعه من هروب قائد الجبهة، أحمد المير ملحم، متنكراً على ظهر حمار، والتوجيه إلى الخطوط الأولى على الجبهة بالانسحاب الكيفي عن طريق الأراضي السورية واللبنانية، وإعادة التجمع في حمص لا في دمشق العاصمة.

 المستغرب بعد هزيمة 1967 أن التحقيقات في دور حافظ الأسد لم تفض إلى نتيجة عملية، بل زادت سيطرة الأسد على مفاصل الجيش ومراكزه الحساسة

المستغرب بعد هزيمة 1967 أن التحقيقات في دور حافظ الأسد لم تفض إلى نتيجة عملية، بل زادت سيطرة الأسد على مفاصل الجيش ومراكزه الحساسة بالتخلص من ضباطٍ عديدن، غير خاضعين لسيطرته التامة، كالعميد (السنّي) أحمد سويداني رئيس الأركان، والعضوين الإسماعيليين في اللجنة العسكرية منذ التأسيس، أحمد المير ملحم الذي تم إبعاده وعبد الكريم الجندي رئيس الاستخبارات الذي انتهى دوره انتحاراً (أو نحراً) في مكتبه في ظروف لم يتم الكشف عن ملابساتها. وبذلك تكون اللجنة العسكرية بقيادة جديد قد تخلصت من جميع أعضائها من غير العلويين، ولم يبق من أعضائها غير صلاح جديد وحافظ الأسد بعد إطاحة عمران أيضاً. المستغرب أيضاً أن صلاح جديد مهندس هذه الصراعات والنهايات، وعلى الرغم مما يروى عن تجلي صراع نفوذ بينه وبين مرؤوسه حافظ الأسد لم يحرّك ساكناً تجاهه، ما يجعل الاحتمال وارداً بتنسيق خفي، أو بتوافق ضمني بينهما، للتخلص من جميع رفاق المرحلة السابقة، قبل أن يحين أوان استفراد أحدهما بالسلطة المطلقة من دون منغصات. لعل ذلك ما يفسّر تحول الصراع بين صلاح جديد وحافظ الأسد إلى الاحتدام، عقب أحداث أيلول في الأردن 1970، حين رفض حافظ الأسد، من موقعه وزيراً للدفاع، مؤازرة سلاح الجو.

أيقن صلاح جديد أن الساحة لا بد أن تكون لأحدهما فقط، فدعا إلى مؤتمر حزبي استثنائي، استمر نحو أسبوعين، وكانت نتائجه، بعد جلسات مطولة من النقاش، تتجه إلى فصل الأسد وفريقه من الحزب وإقالته من منصبه ومحاسبته على عدم إطاعة الأوامر، وأدواره السابقة المسكوت عنها في التحقيقات. وكان حافظ الأسد جاهزاً لممارسة الدور الذي لعبه مرات ومرات مع صلاح جديد، فحرّك قواته إلى قلب العاصمة، لتعتقل جميع الموجودين من القيادات البعثية، وليعلن بعدها ما أسماها بالحركة التصحيحية (16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970)، متخلصاً من جميع مناوئيه، والواقفين مانعاً في طريق تفرّده في السلطة حاكماً مطلقاً من دون خصوم، بعد سبع سنوات من حكم البعث، تحوّل الجيش الوطني خلالها إلى عقائدي فطائفي، ليأتي عليه  بعدها حين من الدهر يحوله شيئاً فشيئاً، وبشعارات معلنة، إلى جيش أسدي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى