مقالات

على فرنسا أن تغير نظرتها إلى الإسلام

الدكتور إدريس الكنبوري

باحث وكاتب مغربي
عرض مقالات الكاتب

اهتزت فرنسا يوم الجمعة السادس عشر من أكتوبر الجاري على وقع جريمة بشعة حصلت في قلب العاصمة باريس، على إثر مقتل رجل تعليم في المرحلة الإعدادية وقطع رأسه، بسبب عرضه رسوما مسيئ للرسول صلى الله عليه وسلم أمام تلاميذه في درس حول حرية التعبير. وجاء ذلك الحادث في وقت مزامن للمحاكمات التي تجري أمام القضاء الفرنسي في أحداث جريدة”شارلي إيبدو” قبل خمس سنوات، وعلى بعد أيام من تصريحات الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون حول “أزمة الإسلام”، التي أثارت زوبعة من ردود الأفعال المستنكرة والغاضبة، من طنجة إلى جاكرطا.
ما حصل يوم الجمعة، وما يحصل بين الحين والآخر في فرنسا، وفي بعض البلدان الأوروبية الأخرى، يتعين أن يفتح أعيننا على حقائق مهمة من واجب الحكومات الأوروبية أن تفكر فيها.
أوروبا اليوم، وفرنسا في القمة، لا زالت تنظر إلى العالم العربي والإسلامي بنفس العين التي كانت تنظر بها إليه قبل مائة عام. بالنسبة إلى أوروبا العالم العربي لم يتغير ثقافيا ودينيا ولم يحصل فيه شيء، لم يتقدم التعليم ولم ينتشر الوعي ولم يتزايد عدد السكان. الأكثر من ذلك أن أوروبا تجهل أن العالم العربي اليوم يتشكل في غالبيته من الشباب، وفي الحوض الجنوبي للمتوسط يشكل العالم العربي قاعدة الشباب في كل المتوسط، والشباب معناه الرغبة في التغيير والتطلع إلى الثورة والحماس والتهور أيضا، وربما الانتقام كذلك. لكن أخطر شيء هو تجاهل الحقيقة التالية: أن الإسلام لم يعد قابعا وخجولا داخل أسوار العالم العربي، كما كان الحال قبل الحملات الاستعمارية القديمة وأثناء سايكس بيكو وخلال وضع فرنسا لسياستها العربية، بل الإسلام اليوم يتجول في باريس ولندن وبرلين وبروكسيل، مثلما يتجول في الرباط وبغداد ودمشق والرياض.
لكن أوروبا لا تأخذ هذه الحقائق بعين الاعتبار، وهنا المشكلة، وعندما لا تتحمل مسؤوليتها في أخذ ذلك بعين الاعتبار تلوم الحكومات العربية أو تلوم تاريخ الإسلام، بينما لا ذنب للحكومات العربية ولا للإسلام، بل ذنب السياسات الأوروبية.
اليوم فرنسا، حيث تحصل الأعمال الإرهابية بين الحين والآخر، في حاجة إلى تفكير جديد ومفكرين جدد، مسلمين وفرنسيين.
أولا يجب على فرنسا أن تتخلص بشكل نهائي من أشباه الباحثين في الإسلام داخل فرنسا الذين يحاولون أن يبيعوا لها القرد، ثم يحرضونه على الهرب لكي يعيدوا بيعه لها من جديد. يجب أن تتوقف عن الإنصات إليهم وأن تبدأ في الإنصات إلى الباحثين المسلمين الحقيقيين الذين لا يريدون أن تنتصر فرنسا، بل يريدون أن ينتصر السلام والتعايش ويفوز المسلمون والفرنسيون معا، في الداخل والخارج.
ثانيا على فرنسا أن تعيد النظر في المفاهيم التي ظلت تعيش عليها طوال قرنين تقريبا. الفكر الليبرالي جاء بمبادئ معينة ويجب احترامها، لأن أوروبا هي التي ألزمت نفسها به ولم يلزمها أحد. والفكر الليبرالي يرتكز على التعددية واحترام التعددية، وعلى التعايش واحترام التعايش، وعلى حرية التعبير واحترام حرية التعبير، وعلى الديمقراطية واحترام الديمقراطية. وقد استندت الليبرالية والدولة الحديثة على منح الجنسية للأجانب والاعتراف بهم، ومنحهم نفس الحقوق الممنوحة لغيرهم، والمسلمون اليوم يشكلون نسبة مهمة من الشعب الفرنسي، وهم جزء منه، لذلك يتعين تغيير المفاهيم التقليدية القديمة للانفتاح أكثر على المسلمين الفرنسيين كجزء عضوي من المجتمع الفرنسي، اللهم أن تميل فرنسا إلى اليمين المتطرف وتفكر في طرد المسلمين وتجريدهم من جنسياتهم والرجوع إلى الدولة الدينية المسيحية المغلقة أو القومية الشوفينية والانقلاب على التراث الليبرالي. من تلك المفاهيم مفهوم الدين ومفهوم حرية التعبير، وهما اللذان يهماننا الآن. يجب إدخال تعديل جذري على مفهوم الدين وفلسفة الدين في المدونة الرسمية، الفلسفية والاجتماعية، لأن هناك دينا هو الإسلام يؤمن به معتنقوه وهم لا يعتبرون الدين ظاهرة اجتماعية أو نتاجا للتاريخ. لقد أدمجت فرنسا مفهوم فلاسفتها للدين عندما كانت كلها مسيحية، لكنها اليوم يجب أن تدمج مفهوم فلاسفة الإسلام للدين لأنها أصبحت بلدا مختلطا. المسألة الثانية هي مسألة حرية التعبير. في هذه النقطة يجب توظيف مفهوم حرية التعبير بحيث يكون خادما للتعايش لا هادما للتعايش. إذا كان لديك مجتمع يتكون من بلدتين، بلدة ترى أن من حقها ممارسة حرية التعبير كما تراها، وبلدة ترى أن حرية التعبير لدى البلدة الأولى يضر بمصالحها، يصبح من اللازم إطلاق إسم آخر على مفهوم”حرية التعبير”. لا ضرر ولا ضرار. وقبل أسبوع أصدرت شركة فيسبوك قرارا بحظر كل من يشكك في محرقة الهولوكوست مثلا، ولم يقل أحد إن ذلك يمس بحرية التعبير. ولو افترضنا أن رجل التعليم الذي قتل لم يعرض على تلاميذه الصور المسيئة للرسول عليه السلام بل عرض صورة لمتحف الهولوكوست ماذا سيكون رد فعل اللوبي اليهودي؟ وفرنسا نفسها تعرف هذا الأمر، أي تعرف أن حرية التعبير لها حدود، لأن لديها قانون مشهورا إسمه قانون غيسو، هو نفس القانون الذي حوكم به روجيه غارودي في عام 1995 بسبب كتابه عن الأساطير المؤسسة للسياسة الصهيونية الذي شكك فيه في رقم ستة ملايين قتيل يهودي في أفران النازية.
ثالثا فرنسا مطالبة بإدخال تعديلات على سياستها العربية التي لم تتغير منذ عهد الجنرال شارل ديغول، الذي كان يريد أن يضع العالم العربي تحت حذائه وكان يريد البقاء في الجزائر على الدوام إلى أن خوفوه من انتقال الإسلام إلى فرنسا وتزايد أعداد الزيجات الفرنسية ـ الجزائرية واختلاط الفرنسيين بالمسلمين، فأخرج مسرحيته الشهيرة حول الاستفتاء ليبرر به خروجه من الجزائر، حتى لا يتخلص من تهمة الهزيمة.
لا توجد حلول سحرية، كما لا توجد حلول يمكن فرضها بالقوة داخل فرنسا أو في أوروبا، لأن منطق القوة يؤدي إلى منطق قوة مضاد، ويفجر حالة من الاحتقان والغضب والانقسام الاجتماعي والنزعة الطائفية في المعسكرين، وإنما توجد حلول مُفكر فيها بجدية وبشراكة بين مختلف الفاعلين. الإسلام اليوم حقيقة أوروبية، لكنه لم يصبح بعد جزء من السياسات الأوروبية الداخلية، ولا يزال التعامل معه يتم على أساس أنه ديانة غريبة، وهذا ما سوف يؤدي إلى مزيد من توسيع الفجوة مستقبلا ويعطل إمكان الانفتاح الحضاري والتفاهم المشترك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى